لا خلاف بين الفقهاء في الجملة في حرمة الغناء، فقد دلَّ على حرمته الكتاب والسنة والإجماع، لكن لم تخل المسألة من بحثٍ، فقد بحث الفقهاء في الغناء المحرم وتحديده بالرجوع إلى اللغة والعرف والأدلة الخاصة، واختلفوا في ذلك، فما هو الغناءُ لغةً؟ وما هو الغناء في فهم العرف؟ وعلامَ دلّت الأدلة الخاصة؟
وقد ذهب المحدثان الكاشاني والسبزواري إلى حرمة الغناء من جهة المقارن المحرّم كدخول الرجال على النساء والتكلم بالأباطيل واللعب بالملاهي، لا من جهة الكيفية الصوتية، واستفادوا ذلك من الأدلة الخاصة.
فكان للأدلة اللفظية دخالة في تحديد موضوع الغناء المحرّم، وقد استفاد بعض الفقهاء كالمحقق النراقي في مستند الشيعة من الأدلة اللفظية أنّ الحرام هو خصوص ما كان غناءً لغويًّا ولهويًّا وباطلًا، بمعنى أنّه الغناء الذي يُتكلم فيه بالكلام اللهوي واللغوي والباطل.
ومن هنا قد ناقش الفقهاء في حدود دلالة الأدلة اللفظية التي ورد فيها لفظ (لهو) و (اللغو) و (الباطل) و (الزور) هل تصدقُ على الغناء باعتباره كيفية صوتية أو يصدق عليه باعتبار مادته الكلامية؟
ابتدأ أستاذنا العلوي بحثه للمسألة من كلمات الفقهاء في معنى الغناء بلحاظ الطبقة الزمنية لهم، فأفاد أنّ مفهوم الغناء عند الفقهاء المتقدمين كان ذا معنىً واضح بما أغنى عن النظر في حيثياته ومحققاته إلى أنْ وصلنا إلى البرزخ بينهم وبين المتأخرين، وهو المحقق الحلي حيث تعرض لتعريفه فقال: (هو مدُّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب)، بينما نجد الشيخ الطوسي قد اكتفى بقوله: (الغناء محرم يفسق فاعله وترد شهادته) من غير حاجة إلى التعرض إلى تحديد ماهية الغناء.
هذا في بدء المناقشة لمفهوم الغناء، لكن مع استمرار النقاش والبحث فيه من ذاك الزمان إلى يومنا ومرور المسألة على طبقات الفقهاء من المتقدمين إلى المعاصرين، كان للمسألة تشكلٌ آخر، فيقول أستاذنا العلوي مشخصًا فهم عامّة الناس إلى المسألة، مُرجعًا إلى مناشئ تشكل هذا الفهم: (إنّه وبسبب المبالغة في الفصل والتمييز مبالغةً أفقدت القضية إحكام الجمع والمنع لم يعدْ الغناء المحرّم إلّا ذاك الذي يؤديه المغني المطرب، وبمجرد تغيير مادته اللفظية واستعماله في محفل ديني تدفع الدوافع عنه شبهة مجالس اللهو والفسوق).
وهنا تتسع رقعة الإشكال لقيام فهم عرفيٍّ غير صحيح ومستجدّ في عرف المؤمنين يرتبط بمفهوم الغناء، بما يوجب الخلل في التشخيص للغناء المحرم.
هذا وقد ألْفتَ جملة من الفقهاء منهم كاشف الغطاء وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري إلى الخلل في مفهوم الغناء عند عرف الناس حيث إنّهم يخرجون قراءة القرآن والدعاء والمراثي والمدائح عن حد الغناء باعتبار المضمون والكلام.
وبعد أنْ قدّم بالمسار البحثي التاريخي للمسألة عند الفقهاء يشرع سيدنا الأستاذ في معالجة ذلك ببيان ما يقطع به في المسألة، فيبتدأُ بالإشارة إلى الضابطة الشائعة عند فقهائنا المعاصرين، وهي حرمة ما كان لهويًا من الكيفيات الصوتية، وقد أفاد في ذلك أنّ الغناء لا يقع إلّا لهوًا، أي صوتًا تصدق عليه اللهويّة، فيطرد وينعكس صدقه بصدقه وانتفاؤه بانتفائه، كما هي قاعدة المعرِّفات في فنّ المنطق.
وهذا النظر موافقٌ لما حرره الشيخ الأنصاري في المكاسب عند تعرضه لتقريب العلاقة بين الغناء واللهو عندما بيّن أنّ الغناء المحرم كما هو المستفاد من الأدلة هو ما كان لهويًا سواءً كان مساويًا أم أعمّ أم أخص، حيث قال عند ذلك: (إنْ كان مساويًا للصوت اللهوي والباطل كما هو أقوى) فبقوله كما هو أقوى قد أفاد المساواة، ثم قال بعد ذلك قال: (مع أنّ الظاهر أن ليس الغناء إلا هو، وإنْ اختلفت فيه عبارات الفقهاء واللغويين) إشارةً إلى تلك الماهية الواحدة المعرَّفة باللهو، وقال في موضع آخر: (فكل صوت يكون لهوًا بكيفية ومعدودًا من ألحان أهل الفسوق والمعاصي فهو حرامٌ، وإنْ فرض أنّه ليس بغناء، وكل ما لا يعدّ لهوًا فليس بحرام، وإنْ فرض صدق الغناء عليه فرضًا غير محقق)، حيث عدّ صدق الغناء على غير اللهوي فرضًا غير محقق، فراجع وتأمّل.
ولكن بعد تحرير هذه الضابطة تكمن إشكالية شائعة في الأذهان، وقد سرت إلى بعض طلاب العلم، وهي مرتبطة بتشخيص الغناء اللهوي عرفًا، فهل هو بالرجوع إلى أهل الفسوق، فما يناسبهم معلوم من طريقهم فهو مناط التشخيص أو لا؟ هذا ما سيتعرض له الباحث في ختام البحث بعد تقرّر بعض النتائج، وقد أفاد في محله أنّ المؤثر في الحرمة هو اللحنُ الخاص الذي يكون له أدنى سلطة في النفس بحيث يبتعد الفاعل أو السامع شيئًا فشيئًا عن الواقع، وكلما اندمج معه اشتدّ ابتعاده، فهذا النوع من الألحان هو اللحن اللهوي اللائق بأهل الفسوق، والضابطة التي يذكرها الفقهاء إنّما تشير لذلك، إذ أنّ شدة التحريم للغناء تقتضي وضوح الضابطة، وأنْ لا يكون المعرِّف أخفى من المعرَّف، وإلا لبطل التعريف به، وهذه الضابطة وجدانية.
وهذه النتيجة توصّل إليها في الرسالة بعد دفع إشكالات هي بمنزلة المانع عن قبول النتيجة، وإثبات مقتضي القبول وهو الأدلة الخاصة المثبتة لها، فمن الإشكاليات البحثية ما يرتبط بدراية الحديث، وهي ناشئة عن تضعيف الأخبار خبرًا خبرًا بعيدًا عن ملاحظة الاستفاضة المعنوية الحاصلة من كثرة الأخبار، فيفيد الأستاذ أنّه "لا شكَّ في تحقق استفاضة بل أكثر تغني عن النظر في أسناد الروايات الشريفة"، وحكى عن السيد الخوئي قوله بتظافرها بل تواترها من حيث المعنى، وأنّه في المعتبر منها غنىً وكفاية إنْ لاحظنا الأسناد الضعيفة.
وتتعقد الإشكالية عندما يكون الناظر في الأخبار المضعف لأسنادها يبحث عن الدلالات الصريحة نظير أن يقول الإمام (ع): (الغناء حرام) بصريح القول مع السلامة عن أي معارضٍ، ومن هنا نجد بعض أهل العلم يستبعدون الأخبار التي تذكر آثار الغناء، فيعدّها تليق بالمكروه كما تليق بالحرام، ولا يرتبون عليها في مقام إثبات الحكم فائدة إلّا أنّ سيدنا الأستاذ بعد أن استقصى الآثار المنذرة بعظم هذا الفعل عند الله سبحانه كان له نظرٌ آخر، حيث أفاد أنّ ضمّ الآثار المذكورة في الأخبار إلى غيرها يوضح خطورة الموضوع وعظيم غضب الله على مرتكبه ما يبعد احتمالات الترخيص، حيث إنّ البيانات الواردة من الشارع المفيدة للتغليظ في العقاب على المخالف للحكم مع كثرتها وتعدد أساليبها وصيغها تكشفُ عن شدة الملاك المقتضي للتحريم، مما يضعف احتمال الاستثناء من الحكم، فليست المسألة هي بمثل حرمة ما ليس له فلس من السمك، حيث لا غرابة لو وقع الاستثناء لبعض الأفراد عن هذا الحكم، بخلاف المقام.
كما أنّ هذه البيانات تلزم بضرورة عدم التهاون في التزام شاطئ الاحتياط.
هذا بالنسبة لهذه الطائفة من الأخبار، وأمّا سائر الأخبار فإنّها لم تخلُ من كلامٍ عند أهل العلم من حيث الدلالة خصوصًا الأخبار المفسرة للآيات، وقد تعرّض مصنّف الرسالة إلى ذلك وفصل بين المفاهيم المطروحة كاللهو الوارد في قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث)، والزور الوارد في قوله تعالى: (واجتنبوا قول الزور) حيث طبقت الآيتان على الغناء، وبيّن نحو انطباقها على الغناء هل هو باعتبار الكيفية الصوتية أو باعتبار الكلام؟
ثمّ في سير بحثه تعرض للأخبار التي ظاهرها الترخيص في الغناء، وهي على طوائف: منها الأخبار الصريحة في نفي البأس، ومنها الواردة في التغني بالقرآن، ومنها ما جاء في ترجيع الصوت وتحسينه، وهذه الأخبار جعلت بعض الفقهاء يقسمون الغناء إلى حلال وحرام، لكن قد عرفت مختار صاحب الرسالة في ذلك في الجملة، وله تفصيلات مرتبطة بخصوص تلك العناوين تؤخذ منها.
وفي ختامِ هذه الإطلالة أقولُ: أنّه قد اشتبهت على عامّة الناس مسألة الغناء فصاروا في مقام العمل يغفلون عن المسموع أو المقول في مجالسهم وأوساطهم، مع كونه بنظر كثير من الفقهاء محلُّ إشكال، بل محكومٍ بالحرمة، لصدق الترجيع المطرب عليه أو الصوت اللهوي سواءً في الأصوات المفرحة أم المحزنة، فيجب على طلاب العلم أن يبينوا للناس ما اشتكل عليهم، وفي كلام الشيخ الأنصاري في المكاسب ما ينبه إلى بعض السلوكيات التي جرى عليها الناس في زمنه وهي على خلاف الشرع، وحيث كانت في زمانه (رضوان الله عليه) محلَّ إنكارٍ هي في زماننا من المسكوت أو المغفول عنها مع انتشارها، ومن غير المستبعد أن يُنتصر إليها، والله المستعان.