بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطاهرين
مقدِّمة:
من القضايا المُشغِلة لبالِنا قضية الأجواء العلمية ومدى حضورها وانعكاسها في مختلف فئات المجتمع؛ فنحن على علم بأنَّه متى ما قَويَتْ وترسَّختِ الأجواءُ العلميَّةُ الدينيَّةُ في مجتمعٍ استوتْ سفينةُ إبحاره على جوديِّ الأمان في حرز من طوفان الحياة.
إنَّ لهذه الأجواء المأمولة ما يُهدِّدُ سلامتها ويعيق تكونها ويُفسِدُ نضجها، منه:
- انزواء بعض العلماء وأصحاب الرأي عن مناقشات الآخرين لما يَطْرَح، ومنهم من يُعرِضُ عن المناقشة ويهمل أمرها.
- ابتعاد بعض، وربَّما الكثير من طلبة العلم وأهل الاختصاص في بلدنا عن مناقشة الآراء، والاكتفاء ببعض الإثارات في حدود ضيِّقة ومغلقة.
- ضيق بعض الصدور وانزعاجها ممَّن يناقشها.
- الإقبال على المناقشات بمسبقاتٍ تمنع من استيعاب الغاية من التداول العلمي الموضوعي.
- ابتلاؤنا بمناقشات وسائل التواصل الإلكتروني؛ فهي مناقشات ذات سمة انفعالية نادرًا ما تنتهي إلى نتائج خيرٍ وصلاحٍ بما ينعكس إيجابًا على الجو العلمي عندنا.
- ضعف مراعاة الأدب واللين في المناقشة ومناقشة المناقشة.
وغير ذلك ممَّا يشكِّل عوامل إخافة تمنع الجو العلمي من التشكُّل فضلًا عن النمو والنضوج، لذا، فإنَّ ممَّا نحرصُ على السعي إليه متابعة وتتبع الآراء والنظر في إمكان مناقشتها تأييدًا وبلورةً أو إيرادًا واعتراضًا، أو استفهامًا واستيضاحًا.
ممَّا أعتزُّ به اعتزازًا بالغًا متابعتي لما يكتبه طلبة العلم والعلماء في بلدنا البحرين، وكذا متابعتي لبعض دروسهم المسجَّلة، وكم تحسَّرتُ لضيق الموقت وكثرة المشاغل ما يمنعني من تقرير بحوثهم ومناقشة ما منها يستدعي المناقشة. ولكن لا يُترك الميسور بالمعسور.
من الدروس والبحوث التي أحرص على متابعتها دروس وبحوث سماحة العلَّامة الأستاذ في حوزة البحرين الشَّيخ محمود الحاج حسن آل الشَّيخ العالي (سلَّمه الله تعالى في الدارين)، وطالما تناقلنا بعض آرائه لمناقشتها مع طلبة العلم وأهل الفضل، فخرجنا بفوائد جسيمة ومعارف منيفة، فجزاه الله تعالى خير الجزاء عن العلم والعلماء.
في هذه المقالة أُعقِّبُ على رأيٍ استقربه سماحة الشَّيخ العالي (أدامه الله تعالى عزيزًا) سائلًا المولى الجليل سبحانه وتعالى الإعانة على نفسي الجانية بالتقوى والورع، وبحبِّ العلم والعلماء، إنَّه سميع مجيب، وصلَّى الله على محمَّد وآله الطاهرين.
الغاية من المقدِّمة: إنَّما حرصتُ على إيراد المقدِّمة أعلاه للتنبيه، على وجه الجدِّ، إلى أنَّ ما نقصده ونسعى إليه هو المساهمة في إحياء روح المناقشات والتداولات العلمية بين طلبة العلم في بلادنا البحرين، وهي روح كانت من مميزات العلماء وطلبة العلم من أهل هذه الأرض الطيبة، ودونكم ما حقَّقه ويحقِّقه ثلَّةٌ من المهتمين، فقد أظهروا للقاصي والداني علوَّ المُكنة العلمية وقوَّة النظر والرأي عند علماء البحرين، بل وتميُّزهم بأسلوب فقهي واستدلالي خاص.
ولا ينبغي حمل ذلك على التفريق بين عالِمٍ من هذه البلد وآخر من تلك، بل ما ندعو إليه ونقصده عينًا هو المساهمة ما استطعنا في النهوض العلمي الحوزوي في مختلف البلاد والأمصار طولًا لا عرضًا، فاحذر من المذاهب أن تذهب بك.
يطول الكلام في هذا الأمر المهم، إلَّا أنَّ المقام لا يناسبه أكثر من إلماعة قد أدَّينا حقَّها.
قلتُ راجيًا التقويم والإرشاد:
تطرَّق سماحة العلَّامة الشَّيخ محمود العالي (حماه الله تعالى وزاده علمًا وتقوى) في بحثه الشريف لمسائل الاستطاعة من كتاب الحج، وكان في معرض مناقشة تَحَقُّقِ الاستطاعة من عدمها بالنسبة لِلمَدين إذا حَلَّ الأجل دون مطالبة من صاحب المال، ثُمَّ أنَّه (دامت تأييداته) لم يُسلِّم إلى ما ذهب إليه السَّيد الحكيم (قُدِّس سرُّه)، وهو: التمسُّك بقاعدة السلطنة كجهةِ مَنْعٍ من تحقُّق الاستطاعة، فَتَفَضَّلَ قائلًا:
"ولكن لا يبعد أن يكون حديث السلطنة ناظرًا للأموال الخارجية، بقرينة قوله: (مسلطون) أي أن تكون الأموال تحت أيديهم، ولا يشمل الأموال الذمية"، مؤكِّدًا سماحتُه على عدم نفي السلطنة إلَّا في مرتبة من مراتبها وهي مرتبة كون المال تحت اليد فعلًا، وإلَّا فهي ثابتة لما في الذمَّة ولكن بمرتبة أدون غير أنَّ هذه غير منظور لها في النبوي الشريف، أي أنَّ حديث "الناس مسلَّطون على أموالهم" ناظرٌ إلى خصوص المال المُتسلَّط عليه بتمام السلطنة فعلًا، مستفيدًا من قوله (صلَّى الله عليه وآله): "على" كقرينةٍ على إرادة هذا الفرد الأتم من أفراد السلطنة.
فيه:
1- السلطنة واحدة ومظاهرها الخاصَّة متعدَّدة، وإنَّما منع مانعٌ مظهرًا منها وهو خصوص التصرُّف الفعلي المباشر، وبقي منها إمكان الهبة وتجديد الدين والحوالة، وما نحو ذلك من مظاهر خاصَّة لنفس السلطنة. وأقصد بالمظاهر الخاصَّة المظاهر الشرعية التي ترجع إلى السلطنة، وإلَّا فغير المالك قد يتسلط ويتصرَّف تصرُّف المالِك، وهذه سلطنة غصبية في قبال السلطنة الشرعية.
بعبارة أخرى: لا يُقال سلطنة لنفس التصرُّف المباشر أو بالبيع أو الهبة أو ما نحو ذلك، وإنَّما هو فعل يرجع إلى السلطنة، وليس هو سلطنة.
أمَّا القول بكون السلطنة كلِّي مشكك فهذا يصح لو كان نفس التصرف سلطنة، والحال أنَّه ليس كذلك؛ فالسلطنة عنوان وصفي لأنواع وأشكال التصرف، سواء كان التصرف مرضيًا شرعًا أو لا. ولجهة كونه وصفًا للتصرف حال وقوعه لم تصح المقارنة بين مثل التصرف المباشر باليد في المال الخارجي وغيره من أشكال التصرف؛ إذ كلُّ واحد بحسبه.
2- إذا تمَّ ما قلناه انتفى الانصراف وهو ما استقربه سماحة الشَّيخ (أدامه الله تعالى في سلامة وعز)، ويكون الحمل على الفرد الخاص من مجموع الأفراد التي ترجع إلى السلطنة الشرعية إخراجًا له من تحت عموم الصفة المنتزعة وهي السلطنة، ولا طريق إليه غير التقدير، وهو خلاف الأصل.
3- الظاهر من النبوي الشريف ثبوت السلطنة بثبوت الملكية؛ قال (صلَّى الله عليه وآله): "الناس مسلَّطون على أموالهم"[1]، فمتى ما ملك المال ثبتت له السلطة الشرعية عليه. ومن آثارها ما ذكره السَّيد الحكيم (قُدِّس سرُّه) وغيره من بطلان صلاة المصلي في غير ملكه لو رجع المالك في إذنه، والحكم على من بُذِل له مال الحج بالحصر فيما لو رجع الباذل عن بذله بعد إحرام من بذل له المال وانحصار إمكان الإتمام في المال المبذول.
يُفهم من ذلك عدم انحصار آثار السلطنة في التصرف الفعلي في المال المملوك، ولكن تتعداه إلى إبطال العبادة وإلحاق الإثم، وهذه راجعة إلى عدم الإجازة أو الرجوع فيها وهي فرع السلطنة.
وهذا مضافًا إلى أنَّ إطلاق عنوان (السلطنة) على القاعدة لكون النبوي مدلولها "بتمامه وكماله" كما هو تعبير السَّيد المصطفوي، وإلَّا فهي مُفادةٌ من نصوص أخرى، كما في رواية أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) قَالَ: قُلْتُ لَه:
"الرَّجُلُ لَه الْوَلَدُ أيَسَعُه أَنْ يَجْعَلَ مَالَه لِقَرَابَتِه؟
فَقَالَ (عليه السَّلام): هُوَ مَالُه يَصْنَعُ بِه مَا شَاءَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَه الْمَوْتُ إِنَّ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَالِه مَا شَاءَ مَا دَامَ حَيّاً إِنْ شَاءَ وَهَبَه وإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِه وإِنْ شَاءَ تَرَكَه إِلَى أَنْ يَأْتِيَه الْمَوْتُ فَإِنْ أَوْصَى بِه فَلَيْسَ لَه إِلَّا الثُّلُثُ إِلَّا أَنَّ الْفَضْلَ فِي أَنْ لَا يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُه ولَا يُضِرَّ بِوَرَثَتِه"[2].
وغيرها من النصوص، وقد عبَّر الشَّيخ ناصر مكارم الشِّيرازي (دام ظلُّه) عن مضامينها بقوله: "وليست السلطة على المال غير ذلك".
4- أشار سماحة الشَّيخ (حفظه الله تعالى) في بحثه إلى أنَّ العرف يفهم من كلمة (الناس مسلَّطون على أموالهم) خصوص الأموال الخارجية.
وفيه: أنَّ هذا قد يتمُّ، مع الإغضاء عن باقي الإيرادات، فيما لو لم تَكُنِ الصيغة باسم المفعول[3]، فلو كانت باسم الفاعل (متسلطون) لانتقلنا إلى مناقشة إمضاء الشارع لأصل السلطنة، غير أنَّ قوله (متسلطون) فيه تنبيه إلى أنَّ السلطنة محل الكلام هي خصوص الجهة الشرعية منها، فيضعف إمكان الإحالة إلى العرف.
اعتُبِرَ النبويُّ بعمل الأصحاب؛ فالطريق إلى اعتباره والإغضاء عن ما فيه هو عمل الأصحاب، وبذلك يُلتزَم بالمضمون الذي أفادوه وبان في تطبيقاتهم، ويضعف تحكيم الألفاظ؛ إذ إنَّه فرع الصدور. ولذا أشرنا إلى أنَّ مرجع القاعدة هو كثرةٌ من النصوص الشريفة، وإنَّما اكتسبتْ القاعدةُ عنوانها من النبوي للمناسبة ولكونه مدلولها بتمامه وكماله.
تمَّ في 24 من شهر رجب 1442 للهجرة
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
البحرين المحروسة
....................................
[1] - عوالي اللئالي – ابن أبي جمهور الأحسائي
[2] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 7 - ص 8 - 9
[3]- العلوي: تنبَّهتُ لهذه الجهة من مناقشة لسماحة الشَّيخ صالح الجمري (حفظه الله تعالى).