بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين
اطلعتُ على رسالةٍ للشيخ الفاضل محمد باقر الشيخ حفظه الله قد تعرض فيها لحقيقة القيد الغالبي، وكانت رسالة متقنة وافية اشتملت على كمٍّ وافرٍ من إفادات العلماء في المسألة، فكانت جامعة لشتات يحتاجُ إلى بحث وتنقيب، ممتازة بنظرِ عالمٍ أريب.
فاهتمامًا بها وعنايةً بمطالبها وتوخيًا لمقاصدها وددتُ أن لا تكون وقفتي عليها وقفةَ عابر، فنظرتُ فيها بقدر ما يطيقهُ عقلي الفاتر ونظري القاصر.
وقد وفقني الله سبحانه لكتابة هذه الأوراق التي بين يديك، وهي لا تغني عن الإحالة إلى الرسالة المذكورة، والحوالة إلى مطالبها المزبورة، فهي ناشئة عن التأمل فيها.
وقد تضمنت هذه الأوراق الوقوف على الإشكالات في المسألة ومحاولة تحريرها وتقريبها، ثم التعرّض لبيانات العلماء ومحاولاتهم في دفع الإشكالات ومناقشتها، ومن مجموع ذلك حاولت التوصل إلى بيان تام للقيود الغالبية خالٍ عن الإشكال، ولكون مقالتنا ناظرة إلى رسالة الشيخ الفاضل راعيتُ فيها ما أفاده قلمه المبارك، فلاحظتُ الإشكالات التي التي أوردها ففرقتُ بين ما كان واردًا في مقام الثبوت، وما كان واردًا في مقام الإثبات، وحرصتُ على كون البيان الختامي الذي تخرّج به القاعدة خاليًا من الإشكال في المقامين، وقد تعرضتُ لبيانات العلماء المصححة للقاعدة المذكورة في الرسالة فوحّدت ما اعتقدت اتحاده وإنْ اختلفت عباراتهم وتقريباتهم في بيانه، وحافظتُ على البيان المختلف، وقد تضمنت هذه المقالة مناقشات لما طرحه تصريحًا وتلويحًا.
هذا وأسأل الله تعالى أن يكتب لي وللشيخ الفاضل التوفيق، وأن يكون في هذه المداولة والمدارسة للعلم النفع والفائدة، ورجائي من أخواني أهل العلم جميعًا ولا سيما شيخنا الفاضل أن ينبهوني لموارد الخلل والخطأ، ويطلعوني على مناقشاتهم، فبدون ذلك لا أبلغُ الغاية المرجوة، ورجائي منهم أن يعذروني فلعل سعيي للمكسب -وهو اغتنام الفائدة العلمية- أوقعني في إساءة الأدب، كأنْ غفلت عن مقامٍ من مقامات أهل العلم المرعية، أو تجاوزت ما لا يحسن مني تجاوزه، أو غير ذلك.
هذا ما وددتُ التقديم به، وبعون الله سبحانه أشرع في المقصد وأقول:
إن البحث في أمور:
الأول: بيان معنى القيد الغالبي
الثاني: الإشكالات الواردة على حمل القيود المولوية على ورودها مورد الغلبة.
الثالث: البيانات التي يمكن بها تصحيح حمل القيد على الغالبية
الأمر الأول: في معنى القيد الغالبي
القيدُ الغالبي هو القيد الذي لا يفيد التخصيص ولا الاحتراز، وإنْ كان هو أخص من المطلق، ولا مفهوم له، فلا يفيد انتفاء الحكم عند انتفائه على القول بثبوت المفهوم للوصف، وإنّما يقيد المتكلم به الكلام باعتبار أن المقيّد هو الحصة الغالبة من المطلق، وما يبعث المتكلم على ذلك هو وروده مورد الغالب، فهو لا يقدح في المطلق، ولا يمنع من دلالته على الشمول، ولا خصوصية له بحيث يكون القيد كاشفًا عن إرادة المولى له فيكونُ مُكلِّفًا به ومتعلقًا لغرضه، وهو إنْ حُمِل على التقييد الحقيقي يمنع من الإطلاق ويخصُّ الحكم بحصة خاصة، ويفيد الاحتراز، ويدلّ على قيام الإرادة والمصلحة به، وقد توهم أخصيته كون التقييد به تقييدًا حقيقيًا.
وقد عُرِّف بأنه القيد الذي يُفهم منه عدم إناطة الحكم به وجودًا وعدمًا.
وعُرِّف بأنه الكلمة التي لا يرى العرف بأنّها مقسمة للحكم المنصب عليها.
ومفهوم التقييد من المفاهيم الاعتبارية التي لا تحدّ بالحدود الحقيقية، بل بالتعاريف اللفظية، بإبدال اللفظ بلفظ آخر، فلا يخدش في التعريف كونه غير واجدٍ للشروط المعتبرة عند أهل الميزان، لكن لمّا كان الغرض من التعريف اللفظي عند العقلاء هو الإيضاح والبيان للفظ كان التساوي بين المعرِّف والمعرَّف أقرب في تحقيق الغاية المطلوبة، وإنْ كان التعريف بالأعمّ أو الأخص لا يضرُّ بالمقصد كما هو مقررٌ عندهم، وخاصية التساوي المذكورة غير متحققة في التعريفين، حيث إنهما يشملان القيود التوضيحية، فلو أضيف إليهما ما يفيد أخصيّة المقيد لكان ذلك أجود.
ويمكنُ التمثيل له بمثال من عرفنا الحاضر وهو قولنا: (أعطني كأسًا من الماء) حيث إن الكلام قد قُيِّد بلفظ الكأس لا للتخصيص ولا الاحتراز، بل لغلبة هذه الكيفية في إحضار الماء، ولكون هذا التعبير مما جرى عليه اللسان العرفي وأنس الناس به، ولا خصوصية لهُ مرتبطة بالإرادة والغرض، فلو أحضر بدل الكأس (قنينة) ماء -مما هو شايع اليوم- لكان ذلك كافيًا في تحقيق مطلوبه.
ونحو التقييد بلفظ الرجل في موارد كثيرة كما لو قال المولى: (يجب عليك الدعاء للرجل إذا أعطاك زكاة ماله) فإن التقييد بالرجل واردٌ مورد الغالب حيث إنّ المخاطب مباشرة هو الرجل في الغالب على نحو كان الجاري على لسانهم التقييد بلفظه دون الأعم كلفظ الإنسان، ولا خصوصية للرجل غير الغلبة المؤدية لجري اللسان على التعبير به، فلذا يعممون الحكم لغيره.
الأمر الثاني: الإشكالية في القيد الغالبي
يمكن تصنيف الإشكالات الواردة على القيد الغالبي في مقامين: مقام الثبوت ومقام الإثبات.
أما الإشكالات الثبوتية فهي إشكالات ثلاثة:
الإشكال الأول: ما أشكل به الميرزا الرشتي وحاصلهُ: أن تقييد المولى إنما يكونُ لقيام غرض التكليف بالمقيد، بحيث ينتفي الغرض بتركه، ويتحصل بوجوده، والقيدُ الغالبي لا غرض وراءهُ يرتبطُ بالتكليف وإنّما يُساقُ لوروده مورد الغالب، فتخصيصه بالذكر من المولى مع الاستغناء عنه وعدم الحاجة إليه فيما يرتبط بأغراضه لغوٌ يقبح من الحكيم[1].
الإشكال الثاني: أنّ التقييد بالقيد الغالبي يوهم المخاطبين بدخول القيد في غرض المولى وكون التكليف مقيدًا، فالتقييد بالقيد من المولى مع كونه غالبيًا يفوّت غرضه، والحكيم لا يفوت أغراضه.
الإشكال الثالث: أنّ الإيهام المذكور تغريرٌ بالعباد وهو قبيح.
أمّا الإشكالات في مقام الإثبات -أي في مقام الدلالة- فهي ثلاثة:
الإشكال الأول: وهو ما يمكن استلاله من كلام المحقق القمي في القوانين[2] وصاحب هداية المسترشدين[3]، وسيأتي تقريبهما للإشكال وتفصيهما منه، وكذلك ما يمكن تصيده من كلام الفقيه الخونساري لكنه على خلافهما تمسك بالإشكال، وحاصل ما أفادوه أنّ اللفظ المطلق إذا كان منصرفًا للأفراد الغالبة كان تقييده بالقيد الغالبي كعدمه، وما كان كذلك كان إيرادُهُ لغوًا.
وهذا ما يمكن استفادته من كلام الفقيه الخونساري حيث قال في مقام التعارضِ بين لفظ مطلقٍ وآخر مقيّد:
(وقد يمنع ظهور الأخبار المقيدة في التقييد بدعوى أن القيد وارد مورد الغالب، وفيه أنه يتوجه عليه أنه يمنع من ظهور المطلقات في الاطلاق للانصراف إلى الفرد الغالب إلا أن يدعى أن الغلبة قد تمنع من ظهور الكلام في احترازية القيد ولا تمنع من الاطلاق، وفيه تأمل مع ملاحظة أن الأصل في القيود الاحترازية)[4]
توضيح كلامه:
أنه يتوجه على منْ حمل القيد في الدليل المقيّد على الغالبية ومن ثم التزم بالإطلاق، أن يمنع من ظهور المطلق في الفرد الغالب، فهو ظاهر فيه ومنصرف إليه، فحمل القيد على الغالبية لا ينفعه مادام في مقابل المقيد دليل مطلقٌ، حيث إن المطلق ينصرف لمفاد ذلك القيد، فلا ينفعه إلغاء القيد لإثبات الإطلاق.
وإذا ادعى أن الغلبة تمنع من ظهور القيد في الاحتراز، ولكنها لا تمنع من الإطلاق فنتمسك بالإطلاق، فالجواب على ذلك: أن الأصل في القيود الاحترازية، فالغلبة لا تمنع من الاحتراز فيما إذا قيد المولى بقيد غالبي.
ومما أفاده يمكن أن نتصيّد إشكالًا ممثالًا لما ذكره القوانين والهداية يتجه على القيود الواردة مورد الغالب، لكن بضميمة مقدمة خارجة عن كلامه، وحاصل الإشكال في مقدمات ثلاث:
المقدمة الأولى: أن المطلقات تنصرف للفرد الغالب أو الشائع دون النادر.
المقدمة الثانية: أن مفاد القيد الغالبي هو عدم التقييد حقيقة.
المقدمة الثالثة: أن ذكر القيد الغالبي لا يفيد فائدةً زائدة عند عدم الذكر، فذكره يساوي الإطلاق، ووجوده يساوي عدمه، فلا وجه لتخصيصه بالذكر.
وعليه: إن كل قيد يقيد به المولى فهو محمولٌ على الاحتراز ولا وجه لكونه واردًا مورد الغالب.
والمقدمة الثالثة هي المقدمة الخارجية، فهي غير ظاهرة من كلامه، إلا أنّ صاحب الرسالة حاول تقرير إشكالٍ منه فجريتُ على مجراه في المحاولة، وسيأتي تقريره.
ويمكن تحريرُ إشكال آخر وهو نظير ما يأتي تقريبه عن السيد الخوئي من إباء ظاهر الخطابات عن حمل القيود على الغالبية، بل هي للاحتراز، وهو ظاهر من العبارة عند التأمّل.
هذا فيما يمكن تقريره من إشكال حول القيد الغالبي من كلام الفقيه الخونساري لكن ما قرره صاحب الرسالة يختلف عمّا ذكرناه، وعبارته مغلقة، ولكن بعد التأمّل يمكن توجيها في مقدمات:
المقدمة الأولى: التزم مشهور الأصوليين بمانعية الانصراف عن الإطلاق، فاللفظ مع انصرافه إلى حصة خاصة يحمل على خصوصها، لا على المطلق.
المقدمة الثانية: أن النكتة في انصراف المطلق هو غلبة الوجود، والنكتة في التقييد الغالبي هو كون المقيد هو الحصة الغالبة، فهما من بابٍ واحد.
المقدمة الثالثة: إذا التزمنا بأن القيد الغالبي لا يفيد الاحتراز والتقييد حقيقةً، ولا يمنع من الإطلاق، كان علينا أن نلتزم كذلك بالمثل في الانصراف بأنه لا يفيد التقييد بالحصة الخاصة التي ينصرف إليها، لوحدة النكتة وهي الغلبة، وهو خلف، لما عرفت من مذهب المشهور والتزامهم بمانعية الانصراف عن الإطلاق، وعليه فإنّ نكتة الغلبة لا تنفع في إلغاء التقييد بعد كونها مانعة عن التمسك بإطلاق المطلق.
هذا، وإن عبارة صاحب الرسالة لا تفيد المعنى المذكور في تحرير إشكال الخونساري وإنما وجهتها بذلك للحفاظ على صورة الدليل، والاختلاف في المقدمة الأولى حيث قال "بعدم التزام المشهور بمانعية الانصراف عن الإطلاق"، وإنما تتحصل صورة الدليل بالقول بالتزام المشهور بمانعية الانصراف عن الأخذ بالإطلاق، فإنّه إذا التزمنا بما في متن الرسالة كان المعنى المتحصل من ذلك أنّه: إذا انصرف اللفظ إلى حصة خاصة لم يكن ذلك مانعًا عن التمسك بإطلاقه، فالغلبة في الوجود لا أثر لها في تقييد اللفظ المطلق، ومع تقرير ذلك لا يبقى خدش في القيد الغالبي؛ لأنّ وروده مورد الغالب لا يفيد التقييد حقيقة نظير الانصراف، فكما أن الغلبة في الإطلاق لا تفيد التقييد فكذلك في القيد الغالبي، إذ أنّهما من باب واحد، وهو خلف مراده من تقرير إشكال مانع عن التقييد الغالبي.
وقد يكون في العبارة زيادة من سهو القلم، فزاد لفظ (بعدم) في قوله: (ثم إنه قد ينقض على هذه القاعدة بعدم التزام المشهور من الأصوليين بمانعية الإطلاق عن الانصراف) فمراده أن المشهور التزموا بالمانعية.
الإشكال الثاني: وهو ما أفادهُ السيد الخوئي من أنّه لا مجال لاستكشاف كون القيد غالبيًا لو فرض كونه كذلك، لأنّ الظاهر أن كل قيد في الخطاب له دخالة في الغرض المولوي، وعندئذٍ لا مجال لأن يكون القيد قيدًا غالبيًا؛ ضرورة عدم دخوله في الغرض، فظاهر الخطابات المولوية يأبى عن حمل القيود على الغالبية[5].
وبعبارة: إنّ الغرض أمرٌ ثبوتي، فما لم يكن في عالم الإثبات ما يدلُّ عليه فلا مجال لاستكشافه، وهذا ما تعرّض لوجهه المحقق النهاوندي كما سيأتي.
الإشكال الثالث: ما أفاده المحقق النهاوندي وهو يتوقف على مقدمة حاصلها:
أن القيود الواردة في الكلام ظاهرة في الاحتراز، لكن إذا كان الظاهر يستلزم اللغوية فمن ديدن العرف أن يحكموا بخلاف الظاهر، دفعًا لهذا المحذور، وحمْلُ القيود على الغالبية من هذا الباب، فإنه إذا كشفت القرائن غرض المتكلم وأنّ القيد لا دخالة له في الحكم دار الأمر بين كونه لغوًا وبين كونه قيدًا غالبيًا، فيتعين الثاني دفعًا لمحذور اللغوية.
إذا اتضح ذلك نقول: أن العرف يحكمون بلغوية الظاهر لمكان تجانسهم في الأغراض، إذ هذا التجانس هو القرينة على إرادة خلاف الظاهر.
ولا يُقاس الحال المذكور للعرف على الكلام الملقى من الشارع، لعدم العلم بكيفية أغراضه تعالى شأنه وعدم العلم بأنّ غرضه من الأمر بفعل خاص ما هو غرض لنا منه، بل إننا نعلم من تأليفه المختلفات ومخالفته للمؤتلفات أنّ أغراضه تعالى مغايرة لأغراضنا، ومعه لا يمكن إلغاء التقييد وحمل القيد على الغالبية[6].
الأمر الثالث: البيانات الصالحة لدفع الإشكالية
البيان الأول:
ما ذكره المحقق القمي فإنه قد قرّبَ الإشكال بما حاصله: أن النكتة في التقييد هو التوصل لغير الفرد الغالب، فإنّ اللفظ المطلق يقيد لأجل التوصل لهذا الصنف من الأفراد التي لا تحضر في الذهن بمجرد الإطلاق، وأما الفرد الغالب فهو يحضر في الذهن من اللفظ المطلق بلا حاجة إلى تقييد، فالمتكلم عند إرادته للفرد الغالب مستغنٍ عن التقييد، فإذا قيّد بقيد غالبي كانت النكتة فيه هي غير التنبيه، ومحض كونه غالبيًا لا يسوّغ التقييد به.
ومن هنا التزم بثبوت غرضٍ آخر وراء التقييد بالقيد الغالبي غير وروده مورد الغالب، وعليه صحح حمل القيود على الغالبية.
ومثله صاحب هداية المسترشدين فإنّه قرب ذلك بأنّ الشرط وهو القيد يساوي المشروط وإذا كان كذلك فإنّه لا يفيد التخصيص ولا يثبت مفهومًا أي الانتفاء عند الانتفاء، فلابد من ثبوت نكتة أخرى له.
ويلاحظ على ذلك:
أنهما قد أثبتا وجود غرضٍ آخر في القيد الغالبي، وهو خلفٌ، إذ الفرض أنّ القيد قيد به لمحض كونه واردًا مورد الغالب.
وعليه فلابد من التمسك من الإشكال حسب الفرض المذكور، وإنما تفصيا من الإشكال على القيد الذي يكون غالبيًا وكان هنالك غرض آخر من ذكره، وعليه يقع التفصيل بين القيود الواردة مورد الغالب من حيث جواز التقييد بها وعدمه.
ومن هنا لا نجد هذا البيان وافيًا بدفع الإشكال عند ملاحظة بعض البيانات نحو ما حرره الرشتي حيث فرض أن الباعث على التقييد هو وروده مورد الغالب وحسب.
وبالجملة: إنّ المحذور الثبوتي في التقييد بالقيد الغالبي لا ينتفي إلا بفرض غرض آخر له، وهو خلف.
لكن يمكن التوجيه لهما بأنّ العرف قد جرى على التقييد بالقيود الواردة مورد الغالب، وإذ أنه لا فائدة من التقييد بالقيد الغالبي، لما عرفت من أنه لا يفيد فائدة زائدة مرتبطة بالغرض، فلابد أن يكون ذكرهم للقيد لوجه عقلائي، وليس هو إلا ثبوت غرض آخر من التقييد غير وروده مورد الغالب.
وعليه لا وجه عقلائي أصلًا لفرض قيدٍ خالٍ من كل غرض عدا كونه واردًا مورد الغالب.
ويرد عليه: أنّ التوجيه يبتني على أن أغراض المتكلم محصورة في الكشف عن المراد ومتعلق الغرض، فالتقييد وعدمه إنما هو لأجل الكشف عن ذلك، ولا موجب للتقييد إلا ذلك، ولا يمكن أن تكون التقييدات بداعي الجري على اللسان المألوف.
ثمّ إنّ أصل الإشكال المذكور ومثله ما مرّ تقريبه أيضًا من كلام الفقيه الخونساري من تساوي المطلق مع المقيد بالقيد الغالبي مدفوعٌ بأنّ المطلق إذا احتفَّ بقرينة الغلبة لا يكون مقيدًا على طبقها دائمًا، والمرجع في ذلك إلى ظهور الخطاب في اتكال المتكلم على القرينة وعدمه، فلا يصح القول بأنّ نكتة الغلبة إذا توفرت فهي صالحة للتقييد في المطلق أو إلغائه في المقيد، بل نكتة الغلبة غير صالحة لتعدية حكم من لفظ إلى آخر بحيث لو كانت مؤثرةً في المطلق كانت مؤثرة في المقيد، لما عرفته من توقف ذلك على اتكال المتكلم عليها وعدمه وهو مختلف باختلاف الخطابات والمقامات، ولا خصوصية اقتضائية لها تؤثر مثل هذه الآثار.
البيان الثاني:
ما ذهب إليه الشهيد الصدر وحاصلهُ في مقدمتين:
المقدمة الأولى: أن الأصل هو تطابق مقام البيان مع مقام الإرادة والغرض، أو قل: أن الأصل هو التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت، وعليه فإنّ كل ما يُبينه المولى يريده وقد تعلق به غرضه، فإذا أخذ قيدًا في كلامه كان مرادًا له وتعلق به غرضه، وتقييد الكلام به كاشفٌ عن ذلك.
المقدمة الثانية: أن التطابق بين مقام الإثبات ومقام الثبوت لا ينطبق على تقييدات المولى إلا إذا كان تقييده من باب مولويته، ولو بالأصل، لكن إذا أحرزنا أنه قد أخذ القيد لا من جهة مولويته، بأن كان ظاهر كلامه بأنه قد أخذ القيد لمحض كونه واردًا مورد الغالب، وأنه لا خصوصية لهذا القيد مرتبطة بغرض المولى وإرادته، فعندئذٍ لا مجال للتمسك بأصالة التطابق[7].
ويرد على هذا البيان:
أنه يرتكزُ على إمكان كشف الغرض المولوي من الخطاب، فإنه بالإمكان أن نميز التقييدات الواردة في خطابه هل هي تقييدات من جهة مولويته أو لا؟ وقد عرفتَ من النهاوندي أنّ القرينة التي يمكن أن يعتمد عليها في ذلك هو اشتراك العرف في الأغراض بحيث يكون من الواضح عندهم حال القيد، فإنه لو لم يحمل على الغالبية كان لغوًا في نظرهم بلحاظ أغراضهم، فينحصر حمله على ذلك، ولا يُقاسُ ذلك على المولى الحقيقي لعدم علمنا بأغراضه.
وعليه فإنه لا مجال لكلام السيد الصدر مع تشخيص أن القرينة تعتمد على قياس الخطاب على تجانس الأغراض العرفية وكونها صنفًا واحدًا، فمستند اللغوية التي تبعث الفهم العرفي على حمل القيد على الغالبية هو تجانسهم في الأغراض، وهذا النحو من المجانسة في الغرض غير معلوم في حق المولى الحقيقي، بل المعلوم خلافه فإنه لا يشترك مع العرف في ذلك.
البيان الثالث:
أنّه إذا كان القيد في نظر العرف غيرُ صالحٍ لتقسيم الطبيعة فهو لا يفيد التخصيص والاحتراز، وعليه يكون القيدُ لأجل التوضيح والبيان، ولولا ذلك كان ذكره لغوًا، فدفعًا للغوية يُحملُ على ذلك.
وبعبارة أخرى: إن خاصية القيد الاحترازي أنه قيد مقسّم للطبيعة، فإذا كان القيد لا يقسم الطبيعة في نظر العرف فهو قيدٌ للتوضيح والبيان.
ويرد عليه: أن الاعتماد على هذه الضابطة وهي: كون القيد مقسمًا وعدمه في نظر العرف فإنْ كان مقسمًا فهو للاحتراز وإلا فلغرض التوضيح والبيان هو تقريب يعمُّ القيد الغالبي والتوضيحي، ولا يختصّ بالأول مع الفارق بينهما، وإنْ اشتركا في هذه الخصوصية أعني: عدم التقسيم للطبيعة، فإنه قد يُعترضُ على هذا التقريب بأن الظاهر من الخطاب المولوي حال كون المولى مبينًا لأحكامه أنّ كل قيدٍ فيه يكشف عن غرضه ومتعلق إرادته، والقيد الغالبي لمّا كان أخص من المطلق كان قيام الغرض المولوي على وفقه لا يساوي قيامه على المطلق، ومقتضى أصالة التطابق هو كون التقييد تقييدًا حقيقيًا لا غالبيًا.
وببيان آخر: لمّا كان القيد الغالبي أخص من المطلق كان من الممكن أن يكون مقسمًا بخلاف القيد التوضيحي، وصلوحه للتقسيم هو الموجب لاستشكال بعض الأعلام فيه كالسيد الخوئي، وإنما لا يكون مقسمًا باستظهار حال القيد وكونه مأخوذ في الخطاب لا من جهة مولوية، بنحو ما قرّبه السيد الصدر وقد عرفت أن البيان غير تام إلا بدفع إشكال النهاوندي.
ويمكن الجواب عن إشكال النهاوندي بأنّ المانع المذكور يستلزمُ تخصيص حجية الظهور العرفي، فإن الفهم العرفي لا يرتكز على الدلالة اللفظية كما هو واضح، بل يعمّ القرائن المحتفة بالكلام ومنها القرينة المذكورة، ولم يبين لنا المولى اعتماده على طريقة أخرى هي غير طريقة العرف، فلا مناص من قياس الخطاب على ما يتعقلونه من أغراض في مقام المحاورة والمخاطبة.
نعم، لا تُقاس الأغراض العرفية على غرض المولى الحقيقي في غير الخطابات أي في غير الأمور المرتبطة باللسان والبيان، وهذه قضية ما ذكره من كون الشارع ألّف بين المختلفات وخالف بين المؤتلفات.
أمّا في الخطابات فقد دلّ الدليل على حجية الفهم العرفي مطلقًا.
وبهذا تندفع الإشكالات الإثباتية، أمّا الإشكالات الثبوتية فإنّ المنع من التقييد بالقيد الغالبي لخلوه من الغرض المولوي، أو لاستلزامه إيهام المخاطبين، أو التغرير بهم كلّ ذلك يندفع عند ملاحظة أمرين:
الأمر الأول: أن المولى يكشف عن أغراضه ومراداته بلغة أهل المحاورة فهو جارٍ على لسانهم وطرق بيانهم، فالغرض الذي جعله جارٍ على هذا المجرى هو الذي سوّغ له التقييد بالقيود الغالبية، فكون القيد الغالبي خالٍ من الغرض ولا تتعلق به الإرادة لا ينفي عنه الغرضية مطلقًا بحيث يصيره لغوًا.
الأمر الثاني: أنه لا يلزم من التقييد بالقيود الغالبية مناقضة المولى لغرضه وتغريره بالعباد؛ لأنّ عالم الإثبات والدلالة يمكن له أن يفي ببيان أنحاء القيود بما يدفع المحذور.
فالمتحصّل من كل ذلك: أن المولى قد يقيد تقييدات غالبية لجريه على لسان أهل المخاطبة والمحاورة، ويمكن استكشاف ذلك بالظهور العرفي المعتمد على القرائن المحتفة بالكلام، فإذا أحرزنا أن القيد واردٌ مورد الغلبة حملناه على ذلك، وإلا فالأصل أنه للاحتراز.
هذا وقد فرغت من تحرير هذه المقالة في الرابع من ذي القعدة من العام الثاني والأربعين بعد الألف والأربعمائة للهجرة النبوية المباركة في بلدتنا المحروسة بني جمرة.
والحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
مهدي ابن الشيخ صالح الجمري
..........................................
[1] فقه الإمامية - قسم الخيارات/ تقرير أبحاث الميرزا حبيب الله الرشتي/ تأليف: السيد محمد كاظم الخلخالي/ الناشر مكتبة الداوري/ الطبعة الأولى
[2] القوانين المحكمة في الأصول المتقنة ج1/ ص407/ تأليف: الميرزا أبو القاسم القمي/ دار زين العابدين/ الطبعة الأولى
[3] هداية المسترشدين ج2/ ص436/ تأليف: الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الأصفهاني/ تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي/ الطبعة الأولى
[4] جامع المدارك ج1/ ص27/ تأليف: السيد أحمد الخونساري/ الناشر مكتبة الصدوق - طهران/ الطبعة الثانية/ نسخة إلكترونية
[5] موسوعة الإمام الخوئي- التنقيح في شرح العروة الوثقى ج4/ ص368/ تأليف: الشيخ علي الغروي/ مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي/ الطبعة الثانية
[6] تشريح الأصول/ الشيخ علي بن فتح الله النهاوندي النجفي/ نسخة إلكترونية
[7] بحوث في شرح العروة الوثقى ج1/ ص102/ السيد محمد باقر الصدر/ دار التعارف للمطبوعات/ الطبعة الأولى