بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
نَشَرَ سماحةُ الفاضل الشَّيخ نُهاد الفيَّاض (حفظه الله تعالى) في بعض مواقع التواصل الإلكتروني فائدةً من درس الأستاذ في حوزة النجف الأشرف سماحة آية الله الشَّيخ باقر الإيرواني (دام ظلُّه)، قال:
(فائدة أصولية)
بسم الله الرحمن الرحيم
▪️ أفاد أُستاذنا سماحة آية الله الشيخ باقر الإيرواني دامت بركاته في مجلس درسه المنعقد في يوم السبت (23 شوَّال 1442 للهجرة) فائدةً في تقديم السنة القطعية على غيرها، فقال ما مضمونه:
▪️ لو تعارضتْ رواية مع جملة من الروايات؛ كخمس روايات أو أكثر، فيقال: إنَّ تعدد الروايات هذا يتشكَّل معه عنوان السنة القطعية، ومع التعارض تُقدَّم السنة القطعية على غير القطعية.
▪️ والمستند في هذا الأمر هو الروايات المتعددة المسلَّمة التي تقول: "ما خالف كتاب ربنا فهو باطل، وزخرف، وعلى الجدار[1]".
▪️ ثمَّ إنَّ هذا الأمر غير مختصّ بما خالف القرآن فقط، وذلك لعدم الخصوصية للكتاب الشريف، بل لأنه حكمٌ قطعيٌ، ولهذا يقدَّم ما ثبت بالسنة القطعية على غيره، لنفس النكتة.
بقلم: الشيخ نُهاد الفيَّاض
النَّجف الأشرف 1442هج
بمراجعة تسجيل الدرس[2] وجدنا أنَّ موردَ الكلامِ كان البحث في مسألة: هل أنَّ خيار الحيوان شاملٌّ للمتبايعين أو أنَّه مُختَصٌّ بالمشتري دون البائع؟
كان صاحبُ السماحةِ في معرض مناقشة انتقال الشَّيخ الأعظم (رحمه الله تعالى) إلى أصل اللزوم بعد ثبوت التكافؤ بين الروايات الدلالة على اختصاص الخيار بالمشتري، وبين صحيحة محمَّد بن مسلم الدالة على ثوبته للمتبايعين. قال (رحمه الله تعالى):
"ولكنَّ الإنصاف أنَّ أخبار المشهور من حيثُ المجموع لا يقصر ظهورها عن الصحيحة مع اشتهارها بين الرواة، حتَّى محمَّد بن مسلم الراوي للصحيحة، مع أنَّ المرجع بعد التكافؤ عموم أدلة لزوم العقد بالافتراق، والمتيقن خروج المشتري"؛ أي أنَّ أحد المتبايعين لا يخرج إلَّا بدليل خاص من تحت الأدلة على لزوم البيع بالافتراق، وقد ورد في خصوص المشتري".
أمَّا الصحيحة التي تُثبِتُ الخيار للمتبايعين فيسقط ظهورها تمسُّكًا باللزوم؛ إذ إنَّ الشكَّ بعد استقرار المعارضة إنَّما هو في شمول الخيار للبائع.
وقد ظهر في نقل الفاضل الشَّيخ نُهاد الفيَّاض (حفظه الله تعالى) ما ذهب إليه صاحبُ السماحة الإيرواني (دامت بركاته)؛ وهو سقوط صحيحة محمَّد بن مسلم عن الاعتبار؛ لمعارضتها بسنُّة قطعية ظهرت بتظافر خمس أو ست روايات.
أقول: الكلام في مقامين:
الأوَّل: تنقيح الكبرى: وموضوعه تحرير معنى المخالفة في قوله (عليه السَّلام): "ما خالف".
الثاني: النظر في الصغرى: من جهة وقوع المخالفة من عدمها.
أمَّا الأوَّل: فقد نصَّت الآثار الشريفة على عدم الأخذ بما خالف الكتاب العزيز، منها:
في الكافي: عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ يَحْيَى الْحَلَبِيِّ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ الْحُرِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السَّلام) يَقُولُ: "كُلُّ شَيءٍ مَرْدُودٌ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ زُخْرُفٌ"[3].
عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنِ النَّوْفَلِيِّ عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله): "إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُورًا، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّه فَخُذُوه ومَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّه فَدَعُوه"[4].
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وغَيْرِه عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله) بِمِنًى فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، مَا جَاءَكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّه فَأَنَا قُلْتُه، ومَا جَاءَكُمْ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّه فَلَمْ أَقُلْه"[5].
وفي الخصال: عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن كليب بن معاوية الأسدي، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: "ما أتاكم عنا من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو باطل"[6].
والمخالفة على قسمين:
الأوَّل: مخالفةٌ تأبى الجمع أو التوجيه. ومنها فيما لو أباح المحرَّمات التي لا ترخيص فيها، كما في الخمر والزنا وما نحوهما. أو قال بألوهية، أو ربوبية نبيٍّ، أو رسولٍ، أو وصيٍّ، أو غيرهم من البشر. أو ما نحو ذلك ممَّا لا يمكن معه الجمع، وهو ممَّا يبرأ منه المعصوم (عليه السَّلام)؛ لقوله: "فَلَمْ أَقُلْه".
الثاني: مخالفةٌ تَقْبَلُ الجَمْعَ أو التوجيه.
وثمَّة قسمٌ ثالثٌ يُفهم من قوله (صلَّى الله عليه وآله): "إذا حدثتم عنِّى بالحديث فأنحلوني أهنأه وأسهله وأرشده، فإنْ وافق كتاب الله فأنا قلتُه، وإن لم يوافق كتاب الله فلم أقله"[7].
وهو دال على نفي جهات التكلُّف، منها أنَّه "إذا وردت عليكم أخبار مختلفة فخذوا بما هو أهنأ وأسهل وأقرب إلى الرشد والصواب مِمَّا علمتُم منا، فالنحلة كناية عن قبول قوله (صلَّى اللهُ عليه وآله) والأخذ به. ويحتمل أن تكون تلك الصفات قائمة مقام المصدر؛ أي أنحلوني أهنأ نحل وأسهله وأرشده، والحاصل أنَّ كلَّ ما يرد مِنِّي عليكم فاقبلوه أحسن القبول، فيكون ما ذكره بعده في قوة الاستثناء منه"[8].
ولأنَّ المُخَالَفَةَ للنص القرآني أو للسُنَّة القطعية من القسم الأوَّل نادرٌ، بل يكاد أن يكون معدومًا بعد زمن النص؛ لما تعرَّضت له الروايات من غربلة وتمحيص، فإنَّ العلماء سلكوا مسلك الأئمة الأطهار (عليهم السَّلام) في الجمع بين النصوص، وهي سيرة ثابتة لهم (عليهم السَّلام) بكثرة كاثرة من الأحاديث الشريفة التي يمارسون فيها بوضوح أنواعَ الجمعِ. ومن هنا اشتهر بين الأعلام أنَّ الجمع ما أمكن فهو أولى من الطرح. قال ابنُ أبي جمهور: "أنَّ كلَّ حديثين ظاهرهما التعارض يجب عليك، أوَّلًا البحثُ عن معناهما وكيفيات دلالات ألفاظهما، فإنْ أمْكَنَكَ التوفيقُ بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات، فأحرص عليه واجتهد في تحصيله، فإنَّ العمَلَ بالدليلين مهما أمكن خيرٌ من ترك أحَدِهِمَا وتَعْطيله بإجماع العلماء"[9].
والظاهر أنَّ عدمَ النصِّ الصريح على القاعدة راجع لاستغناء المقام؛ حيثُ إنَّ عِلمَ المتقدمين من الأكابر قائمٌ على أصول، منها: أصل الجمع، وهي سمة التهذيبين مثلًا.
وكيف كان، فإنَّ المُعَارَضة التي تقتضي الحكم على المعارَض بالزخرف والبطلان هي المعارضة من القسم الأوَّل؛ لكون غيرها قابلًا للجمع، وقد استقرَّ علماء الطائفة استنادًا إلى سيرة أهل البيت (عليهم السَّلام) على أنَّ الجمع ما أمكن أولى من الطرح.
أمَّا المقام الثاني، فبالرجوع إلى صحيحة محمَّد بن مسلم عن الإمام الصادق (عليه السَّلام): "المتبايعان بالخيار ثلاثة أيَّام في الحيوان، وفيما سوى ذلك من بيع حتَّى يفترِقَا"[10] نرى أنَّه "لا يمكن التخلُّص من موضوعية وجود الفردين كليهما (البائع والمشتري)، فالخيار منحلٌّ - من حيثُ التفعيل والتصرُّف - فيهما"[11].
قرَّر الأعلام محاولات للجمع ذكرها الشَّيخُ الأعظمُ (علا برهانه) وتعرَّض لمناقشتها حتَّى انتهى إلى نفي المشكوك والتمسُّك بأصل اللزوم. وهو ما لم يرتضه الشَّيخ الإيرواني (دامت بركاته)؛ لعدم وصول النوبة إليه بعد ثبوت معارضة صحيحة محمَّد بن مسلم للسنَّة القطعية.
أقول:
لا مخالفة في اللغة فيما لو ذهبنا إلى أنَّ قوله (عليه السَّلام): "المتبايعان" هو كناية عن حدث البيع، وهو الذي يثبت فيه الخيار، أي أنَّ هذا الخيار ثابت في حدث بيع الحيوان، أمَّا كونه حقًّا للبائع أو المشتري أو لكليهما فتبينه الروايات المعارضة، وهو منحصرٌ في المشتري.
والوجه المصحِّح للكناية هو الإلزام الشرعي للبائع بالقبول فيما لو أراد المشتري الفسخ في الثلاثة، فهو موافق فيها دائمًا لما يختاره المشتري، فصحَّ أن يضمَّ إليه فيُقال "المتبايعان" كناية عن حدث البيع.
وبعبارة أخرى: تُثبِتُ الصحيحة الحاكمية للخيار، سواء قلنا بثبوته لهما أو لأحدهما.
أشار السَّيد الخوئي إلى هذا الوجه فقال: "وتأويل الطائفة الثانية (يقصد صحيحة محمَّد بن مسلم) بأنّ المراد ليس ثبوت الخيار للبائع بحياله في مقابل المشتري، بل المراد ثبوت الخيار بينهما؛ أي بين المجموع وعدم لزوم العقد، ويكفي فيه ثبوته للمشتري فقط" وردَّه بأنَّه: "مُنْدَفِعٌ بأنَّ المُرَادَ بالمتبايعين في كُلٍّ مِن خِيَارَي المَجلِس والحيوان واحِدٌ، وقد ذُكِرَا في روايةٍ واحِدَةٍ، ولازِمُ ذَلِكَ عَدَم ثُبُوتِ الخيار للبائع في خيار المجلس أيضًا، وبِمَا أنّ المُرَادَ بِهِمَا هُو كُلُّ واحدٍ مِنَ البَائِعِ والمشتري في خيار المجلس فليكن المراد بهما ذلك في خيار الحيوان أيضًا، وعليه فالطائفتان متعارضتان"[12].
يُجاب بأنَّ الموضوع في صحيحة محمَّد بن مسلم هو حدث البيع، وقد كُني عنه بـ(المتبايعين)، أمَّا موضوع الطائفة الأولى فهو حقيقة (المتبايعين). وقلنا بأنَّ الصحيحة لو لم تكن مُعارضة لما قلنا بالكناية ولتمسكنا بالانحلال.
وبالتالي، لا معارضة في المقام بين الروايات المُصرِّحة باختصاص المشتري بالخيار في الحيوان، وبين صحيحة محمَّد بن مسلم.
ثُمَّ إنَّه لو سلَّمنا بوقوع المعارضة فللأعلام أوجه للجمع ذكروها في استدلالاتهم. وكيف كان فإنَّ الطرح الذي ذهب إليه صاحبُ السماحة الشَّيخ الإيرواني (دامت بركاته) مردود بكون المعارضة من القسم الثاني، ومورد الطرح هو المعارضة من القسم الأوَّل. وهو ما أشرنا إليه.
ملاحظة: قال شيخنا الحرُّ العامليُّ (نوَّر الله مرقده الشريف) في تعليقه على صحيحة محمَّد بن مسلم: "حمله أكثر الأصحاب على بيع حيوان بحيوان، وإلَّا لم يكن للبائع خيارٌ لِما مضى ويأتي، ويُحْتَمَلُ الحَمْلُ على التقيَّة وعلى الشرط"[13].
فيما يخصُّ الحمل على التقيَّة قد أشار الشَّيخ الإيرواني (دامت بركاته) في بحثه الشريف إلى اختصاص الشيعة بخيار الحيوان، قد راجعتُ في بعض كتب القوم، وسألتُ، بواسطة أحد المُقرَّبين، عالِمًا من العامَّة عن خيار الحيوان فأجاب بما وقفتُ عليه؛ وهو عدم اختصاص الحيوان بخيار خاصٍّ عندهم.
إلَّا أنَّ المُحدِّث البحراني (عطَّر اللهُ تعالى مرقده الشريف) يوسِّع موارد التقية، فقال فيما نحن فيه: "إنَّ الحمل على التقية لا يتوقف على وجود القائل بذلك منهم، فإنَّه لمَّا كان الأصحابُ سَلَفًا وخَلَفًا - سوى المرتضى (رضى الله عنه) - على هذا القول المشهور، وأخبارهم كما عرفت متظافرة به، فإنه يعلم بذلك كونه مذهب الأئمة (عليهم السلام) وليس لما خالف ذلك- مما ورد عنهم- محمل غير التقية"[14].
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
7 من ذي القعدة 1442 للهجرة
البحرين المحروسة
.................................................
[1] - الظاهر أنَّ مقولة: (ما خالف الكتاب فاضروا به عرض الجدار أو لحائط..) هو من المشهور الذي لا أصل له، فلم نقف في الآثار الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السَّلام) ما فيه (اضربوا به عرض الجدار أو الحائط أو ما نحوهما)، ولا شكَّ في أنَّ الالتزام بالنصوص الشريفة سلامة وأمان.
[2] - الرابط الإلكتروني للتسجيل المرئي للدرس على موقع (YouTube): https://www.youtube.com/watch?v=dLjMQO_VVTM&t=911s
[3] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 69
[4] - المصدر السابق
[5] - المصدر السابق
[6] - المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي - ج 1 - ص 221
[7] - المصدر السابق
[8] - بحار الأنوار – العلَّامة المجلسي – ج2 ص242
[9] - عوالي اللآلئ – ابن أبي جمهور الإحسائي – ج4 ص136
[10] - تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 7 - ص 24
[11] - هذه العبارة مُقتَبَسة من مناقشتي للمسألة مع الفاضل سماحة الشَّيخ أحمد ابن الشَّيخ عبد الحسن نصيف.
[12] - التنقيح في شرح المكاسب -السَّيد الخوئي- ج3 ص153-154
[13] - وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 18 - ص 10
[14] - الحدائق الناضرة – الشَّيخ يوسف البحراني – ج19 ص23