عنوان الكتاب: تحصيلُ الرشادِ وتحصينُ العِباد (رسائلُ في البناء الفكري).
مؤلف الكتاب: السيَّد محمَّد السيَّد علي العلوي.
الطبعة: الأولى 1439هـ/ 2018م.
الناشر: مداد للثقافة والإعلام.
عدد الصفحات: 461 صفحة.
.........................................................
مقدَّمة المراجعة:
الكتاب عبارةٌ عن مجموعةٍ من البحوث والرسائل والمقالات والأوراق العلمية كتبها المؤلف (حفظه الله) متفرقة، ثمَّ جمعها في هذا الكتاب تحت عنوانٍ واحد، وقد أتمكَّن من تسميتها باسمٍ عام، فأقول هي ثلاثة عشر مقالًا أو رسالةً كما اختار المؤلف، تنوَّعت بين العلمية الحوزوية، والعَقَدية، والفكرية والثقافية العامة، والعنوان الفرعي يُبين محتوى هذا الكتاب بوضوح، وهو (رسائلُ في البناء الفكري).
مقدَّمة الكتاب تعرض عرضًا مختصرًا لمحتواه يساعد القارئ على فهم ما هو بصدد قراءته، وتبيِّن شطرًا بسيطًا عامًّا من دواعي كتابة هذه الرسائل الفكرية.
الرسالة الأولى: الحُبور في القطع بالصدور:
مقدمة:
يشير المؤلف للمَبْنَيين الرئيسيين في قبول الحديث وردَّه عند الإمامية، والأول هو القول بصحة صدور بعضها عن المعصومين إذ يرى أصحابه أنَّ السندَ قرينةٌ كباقي القرائن، والثاني هو القول بحاكمية السند ما لم تقم قرينةٌ على الصدور، ثمَّ يرسم ملامح البحث وخطوطه الرئيسية، وهو أمرٌ مهمٌّ يساعد القارئ على أنْ يعيش البحثَ باتِّزانٍ ووضوح.
المدخل:
البدء بالتعريف بعلم دراية الحديث وببعض الحيثيّات التي يحتاجها المؤلف في البحث، ثمَّ تحديد المشكلة التي عُقِد من أجلها البحث وهي: هل حديث أميرِ المؤمنين (عليه السلام) -المذكور في الصفحة ٢٦- مطلقٌ في كلِّ نقل، أو أنَّ المنقول عن المعصومين (عليهم السلام) خارجٌ؟ وإنْ كان الثاني، فهل خروجه تخصُّصًا أو تخصيصًا؟
يطرح المؤلف بعد ذلك بعض (الاحتمالات العامّة لفلسفة الإسناد)، ويطرح عنوانًا جديدًا وهو (بينيات السند)، كما ينبِّه لأمرين مهمَّين خصوصًا مراعاة الظروف السياسيَّة والاجتماعيَّة للحقبة موضوع البحث.
المبحث الأول: الاستدلال على حجِّية خبر الثقة بآيتي النبأ والنَّفْر:
يذكر المؤلف دليلين من أدلَّة القائلين بحاكمية السند، وهما آية النبأ وآية النَّفْر، ثمَّ يطرح رؤيته الخاصة في الآيتين ليصل بعد ذلك لقصور الدليلين وخروجهما عن مقام الاستدلال على المراد.
المبحث الثاني: الذِّكر وحديث الثقلين، بالبناء على نصوص الأمر بالطاعة:
يستدل الكاتب على الأمر بالطاعة بالآيات دونَ الروايات -وقد يكون لعدم التعرُّض لإشكال الاعتماد على ما لم يثبت صدوره الآن-، ثمَّ بالرواية عن الرسول بالبناء على الآيات، كما أنَّ الرواية المذكورة متواترةٌ معنًى على أقل تقدير، ويرى أنَّ عدم الضلال جزاءٌ للتمسُّك وهو الشرط في كلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، والأمر بالتمسُّك والأخذ والاتّباع وما في حكمها فرعٌ لثبوت عِلم المأمور بمتعلَّقاتها، ولا يناسب الباري -الحكيم- الأمر بالتمسُّك بغير الثابت المعروف الواضح، وعليه يذهب لكون الأحاديث مشمولةً في الذِّكر ومحفوظةْ بنصِّ القرآن الكريم.
المبحث الثالث: إشكال الوضع والدَّس:
يرى المؤلف أنَّ الأئمة (عليهم السلام) عالجوا مشكلة دسِّ الأحاديث في تراثهم حتى حُفظت الأحاديث في الأصول الأربعمائة تحت إشرافهم، ثمَّ أنَّ الله تعالى قيَّض العلماء لجمع ما في الأصول في مجاميعهم الحديثية فهي لم تضِع، ثمَّ يسوق بعض الروايات المؤيدة لما ذكره، كما أنَّه يرى أنَّ تدوين وحفظ ومراجعة الحديث وعرضه على الأئمة (عليهم السلام) كانت مسؤوليةً تحمَّلها نفرٌ من خُلَّص الأصحاب، أمَّا حالة إنكار الحديث التي نشهدها اليوم فهي حالةٌ متكرِّرةٌ كما تدل عليه بعض الروايات المذكورة في البحث [راجع ص٥٠].
لما مرَّ ذكره -وربَّما لغيره أيضًا- يرى المصنِّف رجوع المسألة إلى بعدٍ مولويٍّ أعلى، ومنه تأتي محورية قاعدة اللطف، ثم يبيِّن قاعدة اللطف والدليل على وجوبها، ثمَّ يبين الملازمة المذكورة في الدليل، وبعد ذلك يبين المقصود من قاعدة اللطف بذكر بعض الأقوال.
التفاتةٌ:
يتساءل قائلًا: كيف يتوب العبد، وكيف يستحق رحمة ربه وهو لا يدري كيف يطيعه؟
وفي تساؤلٍ آخر في طيات الكلام: يغلب الضعف من جهة الإسناد أو ظنِّيَّة الصدور على الأحاديث فماذا نفعل؟
تنبيهاتٌ ثلاثة:
وهي باختصار:
١/ ما هو العقلي من الأمور الذي يكون ميزانًا للقبول والرفض؟
٢/ للرفض والقبول عدَّة بواعث من أهمها الباعث الثقافي.
٣/ إذا أُحكِم ما يُفترض أنْ يكون قاعدةً حكِّم، ولا يُنقض بالمصداق على قاعدةٍ خارجية.
توضيح:
يوضِّح فيه الجهة الثانية من التنبيه الثالث ثمَّ يذكر ما يذهب إليه من قطعيَّة صدور الأحاديث ومرتكزاته الثلاثة، وعدم إمكان النقض على النتيجة بحديثٍ أو بآخر [أي بالمصداق].
المبحث الرابع: الفائدة الثامنة من فوائد الشيخ الحرّ العاملي:
- ذكر الشيخ الحرُّ العامليُّ (قدِّس سرُّه) في هذه الفائدة من فوائده جملةً من القرائن على القطع بالصدور، يرى المؤلف أنَّ أغلبها تفيد عدم الردِّ إلا إذا ضُمَّت إلى أصلٍ يذكره لاحقا، فتكون للاستئناس ليس إلا، والأصل هو قاعدة اللطف المُثبَتة في علم الكلام.
- بالرجوع للإلفاتة الأولى -التي مرَّت عند كلامه في تنويع الحديث- عن طُرق نقل الخبر، وبالبناء على ما مرَّ هناك يكون أخذ الأحاديث من الأكابر ونقلهم لها في كتبهم لا بدَّ أنَّه كان بعنايةٍ بالصحة، وعليه فالأخذ منهم أخذٌ عن ثقة.
وبذلك يكون عندنا أصلان: الأول هو وثاقة المحدِّث المباشر كالشيخ الكليني (قدِّس سرُّه)، والثاني هو قاعدة اللطف.
المبحث الخامس: مقدِّمتا الشيخ الحدائقي:
استطرد الشيخ يوسف البحراني (قدِّس سرُّه) في الاستدلال على مذهب القطع بالصدور في مقدِّمتين، اعتمد في النظر فيهما على بحثٍ اجتماعيٍّ معلولٍ لظروفٍ سياسيةٍ وثقافية.
في المقدِّمة الأولى:
نجد العديد من النقاط التي ساقها الشيخ لإثبات ما يدَّعيه تتمحور حول مسألة التقية وأثرها، وحول تنقية الكتب بجهود الأئمة (عليهم السلام) والأصحاب، منها:
1/ اتخاذ الأئمة منهج التقية وحثّ الشيعة عليه.
2/ مخالفة الأئمة بين الأحكام حفاظًا على أنفسهم وشيعتهم.
3/ عدم اختصاص التقية بوجود قائلٍ من المخالفين.
4/ قيام الأئمة ومخلِصي الأصحاب بتنقية كتب الأحاديث من الدسِّ والوضع لمدة ثلاثة قرونٍ تقريبا.
5/ خروج التوقيعات بلعن الكذابين وأهل البدع.
6/ تورُّع الأصحاب في نقل الحديث لفطنتهم لخطورته وأهميته.
في المقدِّمة الثانية:
تحدَّث عن تنويع الحديث والصحيح عند المتقدمين، حيث قال أنَّ الكثير من العلماء حتى من المجتهدين كالشيخ المجلسي (قدِّس سرُّه) قد قطعوا بصدور الأحاديث على منهج المتقدمين، وذكر وجوهًا لبطلان تنويع الحديث وصحة الأخبار، لم تكن تخلوا من قوة، ثمَّ أضاف أنَّ الكتب الأربعة ليست الوحيدة المقطوع بصحتها -كما قد يُتوهَّم- بل هناك كتبٌ أخرى كثيرةٌ للمتقدمين غيرها مقطوعٌ بصدور أحاديثها.
مقدِّمة مؤخَّرة:
وقد أخَّر المؤلف هذه المقدِّمة للابتعاد عن محذور المصادرة، وفيها قرَّر نتيجة البحث وهي ضرورة القطع بصدور الأحاديث المجموعة من الأصول والمصادر الأولية المعتبرة وُفق ثلاثة تقريرات، وهي:
١/ الاختلاف من حيث الحكم والتحقيق بين الأحاديث العامة والأحاديث الخاصة، فيكون للخاص منها سيرةٌ عقلائيةٌ خاصةٌ تليق بظرفه وشأنه.
٢/ تسجيل الملاحظات على الاستدلال بآيتي النبأ والنَّفْر.
٣/ إرجاع القول بالصدور القطعي إلى محورٍ عقائديٍّ توحيديٍّ يقوم على قاعدة اللطف، وقد فصل هذا التقرير في هذه المقدِّمة المؤخرة.
الرسالة الثانية: المُكنة البنائيّة في الإجازة الروائيّة (ورقةٌ في توسعة الغاية من علمي الدراية والرجال):
مقدمة:
يشير الكاتب في المقدمة لاهتمام المسلمين منذ بدايات عصر الوحي بمسائل إسناد النصوص والوقائع إلى ناقليها، ويبدو أنَّ الغاية كانت التوثّق من الأخبار من خلال معرفة حال الناقل، وأنَّه من المعروف في الأوساط العامة والخاصة أنَّ الغاية من الإسناد هي الوقوف على المنقول من حيث القبول والرَّد.
إلا أنَّه يرى أنَّ هناك أبعادًا أخرى يمكن أنْ نستفيدها من حالة الإسناد، خصوصًا مسألة الإجازة الروائية وسلسلة رجالها كما سيبيِّن.
من الواضح عدم دخول الإجازة اليوم في تصحيح الحديث كما يرى المحقّق البحراني (قدِّس سرُّه) ويتفق المؤلف معه في ذلك، إلا أنَّ هناك بعض اللفتات في كلام الشيخ البحراني يمكن أنْ نستفيد منها كما يرى المؤلف، ومن أهم ما يُلفت النظر هو اعتبار الشيخ كون المُجاز أهلًا للمقام كما قرَّر في لؤلؤة البحرين.
يرى المؤلف دخول الإجازة الروائية في عمق البناء الثقافي والتنظيم الإداري للمجتمع، وهذا ما سيتطرق إليه في خمسة عناوين متلاحقة، مع أنَّ المُجيزون والمُجازون قد يكونون غير ملتفتين لهذه المستبطنات، لكنَّ ذلك لا يعني عدمها، فوجودها موضوعيٌّ في الإجازة.
الكاشفية العلمية وبُعد حراسة العلم:
تكشف الإجازة عن مستوًى من العلم والمعرفة يراها المُجيز في المُجاز وعنايته بذلك، ويؤيد هذه الدعوى المقامات العالية التي نجدها للواقعين في سلسلة الإجازات الروائية.
لذلك يلعب رجال سلسلة الإجازة دورَ حماية الحديث روايةً ودرايةً وفهمًا يحمي المجتمع من الفهم الخاطئ لثقل العترة ومن إثارة الفتن، فيما قد تحقق الإجازة حراسةً أمنيةً للإسلام، فتصير سورًا جامعًا طاردا.
بناء النفسية المسؤولة:
يحمل المجاز كلامًا نوريًّا مقدّسًا فيدفعه ذلك لأنْ يؤدِّب نفسه ويجعلها في لياقةٍ دائمةٍ لتحمُّل هذه الأمانة العظيمة.
تقلّص المسافات بين المدارس الفقهية والاجتهادية، وانحصار فرص التقول:
تتشكَّل التوجُّهات الفكرية بحسب الاختلاف في المباني والرؤى، ويرجع هذا غالبًا إلى الظروف السياسية والاقتصادية للإنسان، من جهةٍ أخرى نرى -على سبيل المثال- الامتداد الثقافي بصبغةٍ واحدةٍ للأحزاب على مدى عقودٍ من الزمن مع بعض الاختلافات داخل الإطار، حيث إنَّ الأمر يرجع لأدبيَّات الحزب.
لذلك مع ضبط مسألة الإجازة يمكن تقليص التفاوت والأفهام والرؤى بين المؤمنين.
التباني الثقافي والتقارب الفكري:
تستوعب الإجازة مناطق متباعدةً من مواطن العلماء والمؤمنين، ومع امتداد هذه السلسلة التي أُجيزت في نفس الكتاب أو في عدَّة كتبٍ يكون لديها أرضيةٌ ثقافيةٌ خاصة أوجدها ضبط الكتب، وتنعكس هذه الأرضية المشتركة على المؤمنين لإشراف رجال السلسلة عليهم.
الترابط الاجتماعي، ووحدة القاعدة التربوية:
لو تمَّ البناء الثقافي على متانة الأرضية التي توفِّرها الإجازة لتمكَّنت المجتمعات الشيعية من تقليص المسافات بينها، حيث إنَّها عولمةٌ طبيعيةٌ للثقافة والفكر المبني عليها من منطلقاتٍ إسلاميةٍ متينةٍ وازنة.
كلمة الختام:
يرى المؤلف أنَّ ما ذكره رؤوس أقلامٍ ليس إلا، بينما لو اهتم المختصون في العلوم الإنسانية من المؤمنين، لا سيما علمي النفس والاجتماع، وتمكنوا من الوقوف على أهميتها لبناء مجتمعٍ متماسك، لربَّما كانت نقلةً نوعيةً نحو نهضةٍ إسلامية.
تعقيب:
لا يغيب عن المتأمل أهمية ما ذكره المؤلف، وضرورة أخذ الأمر على محمل الجد، خصوصًا من جهة النتائج المتوقعة، ثمَّ العمل على ما يمكن الوصول من خلاله إليها، إما بالإجازة الروائية أو بطرقٍ أخرى سليمة يرضاها الله عزَّ جلَّ ورسوله (صلَّى الله عليه وآله).
الرسالة الثالثة: النداء الأعظم:
مقدَّمة:
ينتظم الفكر في عمله بانتظام سلسلة المفاهيم ويتعقَّد هو وحركته كلما تعاكست واضطربت، وهو قانونٌ تكوينيٌّ لا دخالة للدين فيه، ونحن كمسلمين لا نشعر بهذا الاستقرار الفكري؛ لأنَّنا لا نستطيع أنْ نتحول بهذه التعاليم من الدُّورِ إلى خارجها، لاختلاف نظام الحكم عندنا عن الآخرين، ولمَّا حاول البعض التصدي لإبراز الطرح الإسلامي بشكلٍ دقيقٍ من خلال الثقلين المقدسين، لم يلبثوا إلا قليلًا حتى ظهرت خطوطٌ قويةٌ شُغلها الشاغل هو التشكيك في النصوص المحفوظة عن المعصومين (عليهم السلام)، وردِّ كلِّ حديثٍ يُظهر مقاماتهم العالية (صلوات الله عليهم)، حتى أصبح التضعيف هو الأصل في الأحاديث الشريفة، ما أدى للابتعاد عن محور الوجود والتشتت.
فوجد المؤلف أنَّه لا بدَّ من إحياء أهل البيت (عليهم السلام) في فكر وثقافة الأمة مجددا، وممَّا كتبه في هذا المجال هذه الرسالة المبنية على محورية الأئمة (عليهم السلام) في كل معادلات الوجود الممكن.
اعتمد بالدرجة الأولى على كتاب الحُجَّة من الكافي الشريف للشيخ الكليني (قدِّس سرُّه)، وهذه الرسالة تقع في فصلين: الأول: في الاستدلال على محوريَّة أهل البيت (عليهم السلام)، والثاني: في المدارات، وهي المقامات الشامخة لهم (عليهم السلام)، ثمَّ خاتمة في توضيح القصد من مجرى الفكر في مدارات المحور وهي الغاية من الرسالة.
تنبيهات:
من المفترض أنْ يكون الحديث عن المقامات العالية لأهل البيت (عليهم السلام) محلًّا لاستئناس الشيعة واستقرار نفوسهم، لكنَّ الحاصل في الكثير من الفئات هو النفور غير المبرر من ذلك.
تحت عنوان (تنبيهات) يذكر المؤلف ستة تنبيهاتٍ مهمةٍ قبل الشروع في الفصل الأول من الرسالة.
الفصل الأول: محورية الولاية:
مسألة الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام):
يبين المؤلف في هذا الفصل محورية الولاية في القبول من عدمه عند الله تعالى، بعد الانطلاق من قضية إبليس ورفضه السجود لآدم (عليه السلام) حسدًا وتكبُّرًا، ومفاضلته بين الطين والنار، والذي يظهر أنْ منشأها هو الحسد، لكنَّ هذه المفاضلة تحتاج إلى جهة قياسٍ قاسَ عليها إبليس (لعنه الله) ما أدى به لتفضيل النار على الطين، وليست هذه الجهة إلا أنوار أهل البيت (عليهم السلام)، وهم النور الذي جعله الله تعالى في صلب آدم (عليه السلام)، والنار أقرب إلى النور من الطين فجعلها إبليس جهةً للمفاضلة.
الفصل الثاني: مدارية الصفات:
مدارات المحور:
يوضح المؤلف معنى التأويل أولًا قبل الانطلاق في ذكر المدارات، لأهميته في الفهم السليم لما نحن فيه، ثمَّ ينطلق لذكر الأحاديث الشريفة بحسب ترتيب الشيخ الكليني (قدِّس سرُّه) وتبويبه لها في كتاب الحجة من الكافي الشريف، ويقتصر على ذكر حديثٍ أو أكثر كنموذجٍ للمطلوب، وتبلغ المدارات بحسب هذا التبويب ثلاثةً وعشرين مدارا.
رسالة الرسالة:
لمَّا كان التمسك بالثقلين عاصمًا من الضلال وجب التنبيه إلى أنَّ العصمة لا تتحقق بالتزام قولهم في الحلال والحرام فقط، بل اللازم هو أنْ نبني ثقافتنا على أدبياتهما وأصولهما، وعدم ترك المجال لتحكيم أيِّ شيءٍ عليهما مطلقا.
هذه الرسالة تدعو إلى أنْ يتحمل المؤمنون مسؤولية البناء الداخلي بالجري في ثقافاتهم وفكرهم على وُفق المدارات الراسخة حول محورية الولاية، وهو ما يستدعي الصبر على تُهم الرجعية، والجمود، والأصولية، وغيرها.
الرسالة الرابعة: المسؤول في النية والفِعل والمفعول:
مقدَّمة:
اشتملت على بعض النكات المهمة، ولعل أهمهما اثنتان:
١/ لا يرِد أو يعرض النقص على الدين بعد تصريح القرآن بتمامه وكماله.
٢/ ينبغي الردُّ على الإشكالات الواردة على الإسلام، لا سيما العقديَّة منها، بما يُخرج المؤمن بضرورة وجود خالقٍ لهذا الوجود من الإجمال في إيمانه إلى التفصيل والدقة.
يبين المؤلف بعد ذلك في عَرْضٍ مُوجزٍ أسباب عقد هذا البحث.
المبحث الأول: معاقد المشكلة:
في بداية المبحث يبين المصنف طريق التفكير ومُنطلَقه للكشف عن المجهولات، ثمَّ يتعرَّض لبعض الإشكالات التي قد نواجهها في البحوث الإلهية العليا:
١/ مشكلة الإجابة عن طريق الانحباس في القياس والمقارنة على عالم الإمكان.
٢/ مشكلة تمحور الإنسان حول ذاته.
٣/ مشكلة ضيق العبارة.
٤/ مشكلة تكرار ما قيل على اعتبار أنَّ هذا التكرار علمٌ واحترامٌ للعلم والعلماء، وكذلك المناقشات حيث إنَّها محصورةٌ في دوائر ضيقةٍ قد تتسم بالعمق، ولكن ليس بالسعة.
بيَّن المصنف بين طيات المبحث بيانًا عامًا لخارطة الارتباطات الوجودية الممكنة من خلال قصة النبي موسى (عليه السلام) والعبد الصالح، كما ذكر ثلاث تأسيساتٍ يفتقر لها البحث في المسائل الإلهية العليا، ثمَّ بنى عليها بالحكم بخطأ أيِّ نتيجةٍ تساوي أو تشابه بين الخالق والمخلوق بأي شكلٍ من الأشكال.
المبحث الثاني: أطراف التصور والتصديق:
يشير المؤلف إشارةً إلى التعريف والبناء الاحتجاجي كونهما أمرين ضروريين لأيِّ بحثٍ موضوعي، ثمَّ يبين الاختلاف بين تصور الخالق وتصور المخلوق.
المبحث الثالث: دعوى البحث:
يقول المصنف أنَّ العقل البشري لا يتمكن من استيعاب أي حالةٍ خارج إطارَي الزمان والمكان، ومنه جاءت معضلة فهم الخطاب الإلهي فهمًا توحيديًا كما تقتضيه العقيدة المستقيمة الصحيحة، ومثَّل بحديث الله تعالى مع الملائكة وآدم (عليهم السلام)، وبحديثٍ آخر حول استجابة الدعاء.
في طيات المبحث ذكر التفاتةً حول فهم من سأل الإمام (عليه السلام) عن مشيئة الله دون حاجةٍ للإعادة والاستيضاح منه.
تحت عنوان ما نذهب إليه قال:
1/ بعبثية القول بالحُلول والاتحاد لعدم المجانسة.
2/ بقيام الوجود الممكن على قوانينَ تكوينيةٍ دقيقةٍ يعجز العقل البشري عن استيعابها.
3/ باستيعاب القوانين كل احتمالات الاختيار والحركة مطلقًا.
4/ أنَّ خارطة الوجود -التي بيَّنها- هي ظرف الفعل.
5/ أنَّ الفاعل -وهو الإنسان هنا- هو الذي يختار.
6/ بتقاطع ما يُضمِره الفرد مع غيره من المخلوقات بشكلٍ معقد، والخلق الفعلي العملي الغالب في هذا الصراع هو لصاحب النية الصادقة فردًا وجماعة.
المبحث الرابع: طريق النظر:
وأعرضه في نقاط:
1/ بيان الحاجة إلى نفي التعارض المنهجي في الاستدلالات العقائدية بين العقل والنقل.
2/ التأكيد على ضرورة الرجوع للعترة الطاهرة في كل أمر.
3/ تبيين أساسٍ أصيلٍ أطلق عليه المصنف اسم (القاهرية العظمى) للخالق.
4/ إيضاح القوة الإيجادية للحرف والكلمة تحت عنوان مستند البحث.
5/ يذهب المصنف إلى أنَّ أمر الله جلَّ وعلا هو ما يُجسِّده القَدر والقضاء، بعد أنْ أكّد مسبقًا على أنَّ الفعل منه تعالى لا يمكن أنْ يكون مظروفا.
6/ بيان القدر والقضاء ومحل الاجتماع المعنوي بينهما.
المبحث الخامس: صراع الصدق:
يبين الكاتب المراد من الصدق في عنوان المبحث، وهو الصدق في القناعات سواء كانت مستقيمةً أو مُعوَجَّة، ولا يقصد به صدق الإنسان مع نفسه الذي يُرجعه لفطرته السليمة، ثمَّ يفسر انتصار أهل الدنيا على أهل الإيمان في الدنيا -في الجملة- لصدقهم مع قناعاتهم بخلاف المؤمنين بالآخرة.
تعليقي:
استمتعت كثيرًا بقراءة هذا البحث المتميز، فمداد المؤلف مع تميزه المعهود إلا أنَّه مع ذلك زاد تألقًا وتميزًا في هذا البحث، ولا أخفي مدى الارتياح والاستقرار الذي خلقه في نفسي، وكعادته أيضًا يُدعِّم المؤلف آراءه ومدَّعياته بالفهم المتميز للمنقول، وبالأدلة والبراهين الرصينة، وهو ممَّا يساعد دون شكٍّ على مناقشته وعلى الأخذ والردِّ باحترامٍ وعلميةٍ وموضوعية.
الرسالة الخامسة: براءة المُطْمَئِن:
مقدَّمة:
يدعو المؤلف للانشغال بالبناء عوضًا عن الانشغال بالمخالفين والمُشنِّعين والرد عليهم، لا سيما وأنَّهم لا ينظرون بعين طالب الحق، وهذا الانشغال بالرد عليهم لعدَّة قرونٍ أدى للكثير من النتائج السلبية التي أنتجت الدعوة إلى مراجعة وتنقية التراث!
ينتقل بعدها للتهمة القديمة للشيعة بالشِّرك والغُلو، حتى صارت هذه التهمة واقعًا مؤثِّرًا حتى في تعاطينا مع الأحاديث الشريفة، مع وضوح بطلان هاتين التهمتين، بل الأحاديث الشريفة نفسها تنفيهما بوضوح.
في هذه الرسالة يسعى المؤلف لإبطال استدلال المخالفين على شِرك وغُلوِّ الشيعة، بالارتكاز على ما انتهى إليه نظره في مضامين ومقاصد قوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}.
الرسالة:
يتأمل الكاتب مفردات الآية محل الكلام وينطلق منها، فيبدأ بمفردة (نعبدهم) ثمَّ ينتقل لتحليل حالةٍ طبيعيةٍ من الخوف يعيشها الإنسان منذ الولادة تدعوه للبحث عن جهة استيثاقٍ تشعره بالأمان في كل حال، يتعلق بها ويتقرب إليها حتى يتحول للعبادة بشكلٍ من الأشكال، وهذا ما تقود إليه الفطرة الإنسانية.
في طيات الكلام يُلفِتُ المؤلف إلى الفرق بين جمع العبد على (عبيد) و(عباد)، ومحل استعمالهما، فالعباد هم من حققوا نسبةً من المعرفة بالمعبود، أما العبيد فهم المقهورون المجبورون على فعل الشيء، والثاني أعم من الأول مطلقا، ويدعم ذلك باستعمالات الباري تعالى في القرآن الكريم، ثمَّ يُرجِّح كون عبادة عبَّاد الأصنام عباديةً أيْ عن معرفةٍ لا أنَّها من القسم الثاني.
والمذموم هو التقرُّب إلى الله تعالى بعبادة غيره، كما فعل عبدة الأصنام، لا مطلق وسائل التقرب، فقد أمر تعالى باتخاذ الوسيلة إليه بشكلٍ واضحٍ في القرآن الكريم.
ينتقل بعد ذلك لمفردة (ليقرِّبونا)، واللام توضِّح أنَّ العبادة اتُّخذت لغاية التقرب منه تعالى بعبادة الأصنام، والأصنام فاعلةٌ للتقريب، فيكشف عن عقيدتهم بقدرة الأصنام على الفعل وأنَّ لها اتصالا خاصًّا بالله.
ثمَّ المفردة الثالثة وهي (زلفى)، وهي القربة والدرجة والمنزلة.
دعوة الرسول (صلَّى الله عليه وآله):
بعد الفراغ من أنَّ عبدةَ الأصنام من قريش وغيرهم أرادوا شيئًا ملموسًا يُوصلهم بالغيب، جاءت دعوة الرسول لتحدِّد الواسطة التي ينبغي اتخاذها بين العباد والله تعالى، وطبيعة هذه الواسطة وطبيعة التعامل معها وحدود اعتمادها كواسطةٍ مجعولةٍ من الله تعالى.
الإشكال هو في جعل ربٍّ في عَرْضِ الله تعالى، أمَّا الولاية الطولية التي صرَّح بها القرآن فلا إشكال فيها مطلقا، بل هي مؤكِّدةٌ للأصل حيث إنَّها لا تتخلف عنه، بل إنَّ "التفريط في الارتباط بالوسيلة بدعوى تخليص عقيدة التوحيد من الشِّركيَّات هو في الواقع ضلالٌ وبُعدٌ محتَّمٌ عن التوحيد، إذ أنَّه ممتنع الإصابة دون الوسيلة المقرَّرة".
الرسالة السادسة: سبيل الرشاد في إثبات وَهن الإلحاد:
مقدَّمة:
ما دعا الكاتب للكتابة في هذه المسألة هو قضية ظهور حراكٍ إلحاديٍّ في البحرين، وتباين المواقف تجاهه، فسعى لتوجيه النظر لما يرى أنَّه ينبغي توجيه الأنظار نحوه، وهو منشأ هذه الظواهر، ويدَّعي أنَّ المنشأ هو: الضعف الشديد في البناء البرهاني.
الغاية من طرح هذه الورقة: قال: "يجد المتأمل أنَّ مناشئ الإلحاد موجودةٌ قائمةٌ شاخصةٌ في مختلف سُوح وزوايا المجتمع، حتى بعض التدينية منها".
بيان:
في مسألة النسبية:
تحدث في هذه المسألة طارحًا بعض النقاط:
1/ إنَّ المذهب السفسطائي التشكيكي يعود عبر العصور بأثوابٍ متجددة، وقد أسَّس لثقافة لذة الشك على أنَّها الحقيقة الأحدية في العصور المتأخرة.
2/ إنَّ المناهج التربوية والثقافية الأعم تتحرك في اتجاه نشر ثقافة (اللا ثابت).
3/ إشارةٌ لمشكلة القول بالنسبية مطلقا، وتحديد المنشأ للوقوع فيها، وهو التغرُّب عن البرهان.
4/ منشأ هذا التغرب عن البرهان هو المصالح الدنيوية التي دعت للقول بالنسبية بهذا الشكل.
يسعى الكاتب في هذه الورقة لتفكيك المشكلة على أنْ يكون هذا مقدمةً لحَلِّها بإقامة البرهان على ما ينتهي إلى بطلان كل ما يثيره الملحدون والحداثيون والمشكِّكون ومَن في حكمهم، وفي ختام المقدمة أثار مسألة الخالق وكيفية الرد على التساؤلات في هذا الإطار والتعاطي معها.
مدخل:
الكلام في قولهم: (فكرة الخالق/ الإله/ الله):
1/ هل الخالق فكرةٌ أم حقيقة؟
تحدث تحت هذا العنوان الفرعي بما يلي:
ـ ينتهي الملحدون لكون الخالق صناعةً بشريةً أنتجها ضعف الإنسان وخوفه.
ـ ما يراه الملحدون نتيجةً يُقرُّ بها المؤمنون حاجةً تنتج الدوافع والبواعث لمعرفة الإله.
ـ بيان قيام الوجود على التقابل، وبيان أقسام التقابل.
ـ تقسيم المفاهيم الكلية إلى كليٍّ متواطئ وكليٍّ مشكك.
ـ إثبات الخالق من خلال إثبات جهة الاستيثاق بالبرهان، بناءً على ما قدَّم به من الكلام في التقابل وتقسيم المفاهيم الكلية.
ـ مطابقة البرهان بحديث انكسار السفينة بالبحر والتمسك بجهةٍ غيبية.
2/ مردُّ الإشكالات وخطأ الردود:
ـ مردُّ إشكالات الملحدين هو إشكالٌ واحدٌ وهو الزمن وعدم تصور وقوع شيءٍ خارجه.
ـ خطأ الاعتماد على الردود النقضية دون إِتْباعها بالردود الحلَّية.
تفكيكُ المشكل:
تطرق الكاتب تحت هذا العنوان إلى عدَّة أمور:
1/ بداية الكلام من مقولة (إنكار الخالق) فإنَّها تحتمل أمرين: إنكار المبدأ، أو القول بمبدأ ماديٍّ طبيعيٍّ لا قبل قبله.
2/ تصور إنكار المبدأ يكون إمَّا على نحو الإنكار مطلقًا ولازمه التسلسل، وإمَّا الإسناد إلى عجز العقل عن إدراك مبدأ حقيقيٍّ فيرجع الإنكار حينها لانسداد باب العلم وباب العلمي.
3/ مناقشة القول الأول (مسألة التسلسل) وتوجيه الكلام لمناقشة (مسألة الزمن).
4/ إثبات وحدة الزمن وقيامه مبدأً حتميًّا لكل العِلل والمعلولات مطلقا.
5/ وممَّا مرَّ يظهر بطلان القول الثاني (الانسداد).
6/ إثبات حاجة الزمان إلى بداية، وهو الغني المطلق.
7/ ظهور فساد القول بمبدأ ماديٍّ طبيعيٍّ لا قبل قبله من البيان السابق لاحتياج الزمن الذي هو ظرف العِلل والمعلولات.
حلٌّ وتركيب:
ـ يتحدث الكاتب هنا عن إشكال السِنخية والردِّ عليه بعد الإقرار بموضوعيته.
ـ تعيُّن الرجوع غير المباشر للغني المطلق لثبوته برهانيا، وثبوت الفقير المطلق حضورًا وشهودا، واستحالة الرجوع المباشر لأنَّه ينفي الغِنى المطلق المُبرهن عليه مُسبقا.
ـ الحلُّ إذًا في الوجود العِلِّي المتوسط.
ـ رأيٌ خاصٌّ للمؤلف: أنَّ لكل موجودٍ وجوداتٍ متعددةٍ بتعدد النشآت، فيكون الموجود موجودًا هو بنفسه في كل نشأةٍ بحَسَبِها.
ـ الوجود المعلول كله يرجع إلى العِلَّة المتوسطة، وقد ثبت بالبرهان، وكذلك بنصِّ المعصوم في قول أمير المؤمنين عليه السلام: "وبِنا احتجبَ عن خلقه".
ـ الكلام -في الختام- في مسألة الغلو وحدودها، وتنزيه الخالق عن كل ما يقع عليه الوهم.
أقول:
ورقةٌ مهمةٌ جدًّا، وطرحٌ منظمٌ وفي غاية المتانة كما هو المعتاد من المؤلف حفظه الله تعالى.
الرسالة السابعة: برهان النَّظْمِ والقانونية المُحكَمة للنسب الربطية:
كانت المقالة بالهيكلة التالية:
ـ واقع الحال: انتقال الإنسان من مرحلة إرجاع الأمور إلى الغيب لمرحلة التخلي عن الإرجاع للقوة الغيبية كلما تقدَّم الفكر في إدراكاته وإبداعاته، وفي مقابل هذا يأتي من يردُّ هذا المُدَّعى وتستمر المسألة على نحو الردِّ وردِّ الرد.
ـ من نتاج هذه التحديات قرَّر علماء الإسلام برهانًا في التوحيد أطلقوا عليه (برهان النظم).
ـ طرح الكاتب بعد ذلك شيئًا ممَّا دار بين العلماء من الفريقين حول المسألة، ثمَّ طرح ما يراه، وهو: "النظم المقصود هو مطلق ما يحقق الارتباط بين الموجودات معروضةً وعارضة، حتى في كلامنا هنا وفكرنا.. في كل هذا الوجود بأدق تفاصيله".
ـ بعد ذلك يبين الكاتب ما يذهب إليه بشيءٍ من التفصيل مع طرح بعض الأمثلة لتوضيح ما يريد.
ـ إثبات وجود الخالق بالارتكاز على الإحكام المطلق زمانًا ومكانًا -كما بين الكاتب في المقالة- وحاجته لعِلةٍ مُوجِدةٍ وعلةٍ مُبقية.
الرسالة الثامنة: الحالق في إثبات صمدية الخالق:
مقدِّمة:
يشير المؤلف إلى موطن القوة في البحث البرهاني واللذة المترتبة عليه.
تتكفل هذه الرسالة ببيان لازمٍ من اللوازم الفكرية في بحث المفاهيم، وهو فهم حقيقة الصورة المُنتزَعة، ولوازم ونتاجاتٍ أخرى.
دعوى البحث:
أنَّ من أكثر البراهين عمقًا على وجود الباري تعالى ما أسماه الكاتب (برهان العَوْدِ التَّعقلي)، وعنوانه: أنا أفكر، فإذن أنا أُقِرُّ بالصمد تبارك ذكره.
تقرير دعوى البحث:
تبعًا للعنوان قال: "انتزاع المفهوم من المصداق الخارجي هو محاولةٌ للمطابقة، أو فهم الحقيقة التي خُلق المصداق على وفقها".
ثمَّ أخذ في بيان ما بين القوسين لتتضح دعوى البحث.
في عملية انتزاع المفاهيم ودورها في تضييق دائرة المفاهيم غير المنتزعة كلما انتزعنا مفهوما، وبالتالي يتكثَّف التراكم العلمي والمعرفي للمُدرِك.
"عندنا إذن: (إدراك - مصداق - انتزاع - مفهوم)".
لا يوافق المؤلف القول بأنَّ الانتزاعات المفاهيمية عمليةٌ ذهنيةٌ لا وجود لها في الخارج، فعدم تشخص شيءٍ للحواس الخمس لا يعني عدم تشخصه مطلقا، وإمكان الانتزاع كاشفٌ عن وجود المنتزَع في ظرفه حال الانتزاع، وهو الوجود الخارجي، غاية الأمر أنَّه غير مقدورٍ للحواس الخمس، دون غيرها من الحواس، كما وإنَّ النظر قاضٍ بوجودٍ حقيقيٍّ وُجِد المصداق على وفقه، وهذا الوجود هو الذي يحاول الفكر الكشف عنه بالانتزاع، فالمصداق الخارجي للذهن طريقٌ للكشف عن الواقع، وهو طريق الإثبات للمطابقة مع الثبوت.
تحرير المسألة:
"الموجود المُمكن الخارجي موجودٌ فعليٌّ إظهاري، لاقتضاء التكوين أنْ يكون العلم بالشيء سابقًا على فعليته الخارجية".
بيانه في توضيح التوالي العِلِّي للموجود من العلل الأربع، الذي ينتهي منه إلى أنَّ التفكير هو عبارةٌ عن محاولاتٍ مُستديمةٍ للكشف عن الحقائق، والحقائق الحقة تقف وراء المشخِّصات الخارجية، فيكون مجرد التفكير إقرارٌ فطريٌّ تكوينيٌّ بوجود حقيقةٍ وراء المُشخَّص الخارجي، والحقيقة عِلم، ولا يُعقل العلم بلا عالم، فيتحصَّل بالبرهان اليقيني المقصود من وراء كل معلوم، وهو الصمد تبارك ذكره.
الرسالة التاسعة: تقنية تصوير الفاصل الزمني، ومسألة الوحي والنظر التجريدي:
يُعرِّف المؤلف تقنية الفاصل الزمني ويمثل لها بمثال، ويمكن من خلال هذه التقنية التصويرية إثبات أنَّ هناك أمورًا في الواقع لا تدركها الحواس، كما اتضح من فلمٍ أخرجه لوي تشوارتسبرغ، ومع جمال ما تقدِّمه مثل هذه التقنية تبقى هناك بعض المحاذير.
أول محذورٍ هو العنوان العربي لمقدِّم المشهد الذي اشتمل على عبارة: "المُخرج (لوي تشوارتسبرغ) تخطَّى حدود الزمان والمكان"، والواقع أنْ تخطي حدود الزمان والمكان يلزم منه اجتماع النقيضين وهو محال، لأنَّ عالم الخلق واقعٌ بالضرورة تحت قاهرية الزمان والمكان.
المحذور الآخر، الأخطر من الأول، أنَّ "الانغماس في التدوينات المادية يؤسس لارتباط التعقلات البشرية بالتجربة المادية"، لذلك نجد أنَّ بعض العلماء والباحثين قد سعى لإثبات الآيات القرآنية والمعاجز النبوية ببعض المقرَّرات العلمية، في حين أنَّ هذه المقررات العلمية متغيرةٌ بحسب الجهد البشري.
يذكر المؤلف قاعدةً في غاية الأهمية، هي: القطع اليقيني بخطأ العلوم التي يعارضها نصُّ معصوم، فالنصُّ المعصوم حاكمٌ على كل الوجود طولًا وعرضا.
تحت عنوان (العقيدة والتجرد) الفرعي ينتقل للجزء الثاني من عنوان المقالة، ويرى عناية الوحي بدفع الفكر باتجاه الإعمالات النظرية الدقيقة، ليكون التجريد مقدمةً للمعرفة، ويشهد له النصُّ المعصوم قرآنًا وسُنَّة.
تعليقٌ بسيط:
مع التحذيرات التي أطلقها المؤلف إلا أنَّه لا يُنكر هذه الجهود العلمية، وهو أمرٌّ يدل على موضوعيته، أضف إلى ذلك أنَّ هذه المقالة تكشف عن مستوًى عالٍ من النباهة والتدقيق في الأمور.
الرسالة العاشرة: كربلاء من السجود إلى غَضبة الصُّوْر:
مدخل:
يشير فيه إلى كتاب كامل الزيارات الذي اشتمل على عددٍ كبيرٍ من الأحاديث الصحيحة العجيبة في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وعَظَمتها، ويذكر فيه مجموعةً من الروايات التي تثبت عظمة الحسين (عليه السلام) ويومه وزيارته.
يؤكد المؤلف أنَّ المقاتل مَعلَمٌ من معالم السيرة البشرية، وقد سبق أنْ تعرَّض الأخيار والعظماء كالأنبياء لمثل هذه التعديات الخطيرة، وليس الإسلام مستثنًى في ذلك، بل ولا زلنا نجد اليوم الكثير من الفظائع تُرتكب في حقِّ المُستضعَفين والمُضطَّهدين، مع ذلك يقول الإمام الحسن (عليه السلام): "لا يومَ كيومك يا أبا عبد الله"، فينتقل للسؤال: لماذا وبماذا مُيِّزَ الحسين (عليه السلام)؟
الجواب: وهو دعوى البحث: "رجوع عِظَم كربلاء إلى أكثر من علة، وعدم اقتصاره على البعد المأساوي الدموي الإنساني فقط".
كربلاء.. التحقُّق الواقعي للقضية الكونية العظمى:
يريد بالقضية الكونية العظمى هو ما وقع بين إبليس (لعنه الله) ونور الولاية الإلهية، حيث أراد الإمام الحسين (عليه السلام) العودة بالأمَّة إلى جادَّة الإسلام بتوجهه إلى كربلاء، وهذه العودة ناقضةٌ لوظيفة إبليس التي اتَّخذها لنفسه، وبالتالي تكون كربلاء قمة المواجهة المباشرة بين الخلوص لله تعالى، والإخلاص لإبليس (لعنه الله).
كربلاء.. محور، وما دونها مدارات:
انكشفت نفس إبليس له بعد أنْ رفض السجود لآدم حسدا، ومن هنا بدأ المسير إلى كربلاء، حيث إنَّ هذا الحسد كان لتشريف الخلق الطيني بأنوار أهل البيت (عليهم السلام) دونه، وأمَّا وجه التفضيل في الخلقتين فغير ظاهرٍ بين الطين والنار، فمَّا يظهر للمؤلف أنَّ التفضيل الذي أظهر الحسد في نفس إبليس (لعنه الله) هو تفضيل آدم (عليه السلام) بالأسماء.
كربلاء أرض الولاية بعظمتها ومحوريتها في عالم الإيجاد والإدراك:
لم تكن كربلاء في معارف إبليس لكنَّها تجسَّدت حين استكبر ورفض أمر الله تعالى بالسجود لآدم (عليه السلام)، وهو ما قامت عليه فاجعة الطفِّ وما دونها من صور المواجهة بين الحق والباطل.
أما علة الاستكبار الإبليسي وجهة قياسه هي قرب خلقته النارية من الخلقة النورية لمحمَّدٍ وآل محمَّدٍ (صلوات الله عليهم)، فكان يريد أنْ يكون هو محلًّا لنور الولاية لا آدم (عليه السلام)، لكنَّه لم يحظَ بذلك فحصل ما حصل.
كربلاء.. الولاية في مقامها الانفعالي:
للولاية مقامٌ فاعلي، وآخر انفعالي، وهو ما سعى المؤلف لبيانه تحت هذا العنوان، وينتهي لخوف إبليس من بلوغ الإمام الحسين (عليه السلام) المقام الأول، فانتهى إلى قتله.
كربلاء بهويتها الرسالية هدمٌ لصناعة الخط الإبليسي:
عمل الشيطان على محورين أحدهما أعم من الآخر، وقد تعرضا للمناهضة الحسينية في كربلاء، وهما:
المحور الأعم: سياسة الإغواء والحرف.
المحور الأخص: الإِطماع بالصدارة والخلود.
أمَّا سياسة الإغواء فلقوة الولاية ولكونها مركوزةً في فطرة الإنسان كان من الصعب الضرب المباشر فيها، لأنَّ بروزها الأول المجرد في الإنسان هو بروز هوية، وتغيير الهوية من أصعب المهام التغييرية، لذا انطلق إبليس في سياسته الإغوائية والإبعاد عن الولاية بطُرقٍ أخرى كاستثارة مواطن الشهوة في النفس البشرية، ومن أخطر مسالكه هو الإغراء بالصدارة والخلود وهو المحور الأخص..
الانعطافة بعد كربلاء:
الانعطافة هي: "هانَ عندهم دم الحسين (عليه السلام)، فلا حُرمة بعده، وهذه الملازمة تكوينية"، وتحت نفس هذا العنوان يبين المؤلف الملازمة التكوينية، ويذكر بعض الأحداث دليلًا على ما يذهب إليه، ويشير لتأييد النصوص لهذا الأمر، ينتقل بعد ذلك للبرهنة على فطرة الولاية. ثمَّ أنَّ العداء لأهل البيت (عليهم السلام) معاكسةٌ للفطرة، وهو عداءٌ لله تعالى كذلك، فهو بالتالي انحرافٌ وارتماءٌ في أحضان الضلال، وتحولٌ إلى جنديٍّ من جُند إبليس.
القوة في تجدد انبعاث (الأنا):
بعد التذكير ببعض مظاهر التعدي البشعة على حرمة الإمام الحسين (عليه السلام)، ينطلق المؤلف إلى التأكيد على أنَّهم لم يريدوا قتل إنسانٍ يعادونه فقط، بل أنَّهم أرادوا اقتلاعه (عليه السلام) من فطرتهم، ليزيلوا ما يردعهم عن شهواتهم وأهوائهم.
مسؤولية دم الحسين (عليه السلام):
يتحمل مسؤولية دم الحسين (عليه السلام) والثأر له الأرض ومن عليها، فكل عاقلٍ إذًا يتحمل دمه الشريف، وذلك على مرحلتين، الأولى قبل الظهور الشريف والثانية بعده، فيتضح أنَّ من مسؤولياتنا اليوم إقامة العلاقة وإصلاحها مع إمام زماننا (عجَّلَ الله فرجه الشريف).
ثمرة الكلام:
أنَّ الالتزام بخطِّ الإمام الحسين (عليه السلام) والاقتداء به، ومعرفة الشريعة الحقَّة، والقيام عليها، هو سبيل النجاة.
تعليق:
يظهر في مثل هذا البحث القوة التي يتمتع بها المؤلف في تحديد الأصول والكلِّيات والإرجاع إليها، ومن ذلك إرجاع الحرب الإبليسية وما وقع في كربلاء لأصولٍ محددة، لذلك لو اختلفتَ معه فإنَّك تعلم جيدًا أين يقع اختلافك وتكون المناقشة يسيرةً سهلة.
في الواقع لم أقف على من طرح قضية الإمام الحسين (عليه السلام) بهذه الطريقة سابقا.
الرسالة الحادية عشر: مُختصرٌ في الأطر العامة لأطوار المأتم الحسيني:
توطئة:
بعد الثناء على البحوث المكتوبة في هذا المجال إجمالًا ينتقد المؤلف ضعف استثمار تلك البحوث في فهم طبيعة الخلافات بين أبناء الطائفة، من هنا شرع في كتابة هذا المختصر.
المقالة:
إشارةٌ مختصرةٌ لما قد يلعبه التطوير والانتقال من حالٍ إلى حال، واحتمال الابتعاد عن الأصل فيه، ثم يحدد الأطر الثلاثة محل الكلام، وهي:
الإطار الأول: ما رسمه أهل البيت (عليهم السلام) من بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) إلى استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام):
يُشكِّل هذا الإطار العناوين المأتمية المعروفة، وهي البكاء وقراءة الشعر والنعي والإطعام، ثمَّ كان التطوير في داخل هذا الإطار، وبعد المجالس الحزينة الطبيعية في يوم الواقعة ومجالس الكوفة والشام بدأ الإمام زين العابدين (عليه السلام) التأسيس لمرحلةٍ جديدةٍ بالحثِّ على البكاء لمصيبة الإمام الحسين (عليه السلام)، وواصل التأسيس الإمام الباقر وابنه الصادق (عليهما السلام)، ولم يحصرا المسألة في يوم العاشر فقط، وهكذا توالت التأسيسات العتروية. وبناء على ما ذكرناه وما تحيط به من حيثيات "ترسَّخ في الوجدان الشيعي مبدأ المحافظة على وهج المصيبة العظمى، بل أصبح ذلك من الضرورات التي لا يمكن التعرض لها بغير التسليم التام"، والذي "يبدو لي هو أنَّ حكمة المعصومين (عليهم السلام) كانت في استثمار العاطفة الشيعية أنْ تكون رابطًا وثيقًا بين الشيعي عقلًا وثقافةً وفكرا، وبين مبدأ الحق الذي قام عليه هذا الوجود".
الإطار الثاني: الدولة البويهية:
في زمن الدولة البويهية في العام 352هـ تحديدًا بدأت المواكب تطوف الشوارع بأمرٍ من مُعزِّ الدولة الديلمي، وقد كانت هذه الفترة فترة المتقدمين من فقهائنا، فسمة هذا الإطار هي تسيير المواكب العزائية في الطرقات، وبقيت هذه السُّنَّة في العراق مدة الحكم البويهي، ثم صارت الإحياءات العزائية بعد الدولة البويهية تتوارى حينًا وتظهر أخرى بحسب الحكومات المتعاقبة، فيتضح الدور السياسي في مثل هذه القضية.
الإطار الثالث: الدولتان الصفوية والقاجارية:
خرجت الإحياءات في العهد الصفوي بشكلٍ صريحٍ من المآتم المغلقة إلى الشوارع والطرقات، وقد عبَّر بعض الباحثين عن هذه المرحلة بأنَّها مرحلة (تحولٍ جذري)، وهكذا تحرَّك الإحياء العاشورائي في هذه العناوين الصريحة من مواكب وتصويراتٍ وما نحوها، إلى أنْ جاءت الدولة القاجارية لتوسع وترسخ الإحياء التمثيلي لعاشوراء.
يشير المؤلف أيضًا تحت هذا الإطار لدور العلماء وفتاواهم في إمضاء أو تقنين هذه الأطوار، في كل فترةٍ على حدا، ويظهر من اختلاف الفقهاء أنَّ رسم الأطر العامة للإحياء ما بعد الإطار الأول ليست محل اتفاقٍ بين فقهاء الطائفة.
يختم المؤلف كلامه بهذا التصور: إنَّ مظاهر الإحياء ترجع لأمرين رئيسيين، الأول هو فهم الغاية من التأسيس الأول على يد المعصومين (عليهم السلام)، والثاني البُعد النفسي والاجتماعي في جانب التحديات وخصوصًا في جانب الهوية والوجود، ولذا فإنَّ أيَّ نقدٍ أو معارضةٍ لا بدَّ أن تُبنى على قاعدةٍ من الرؤيتين الفقهية والنفسية الاجتماعية، وإلا فمن البعيد أنْ تكون النتائج إيجابية.
أقول:
أراد الكاتب -كما أشار- تحديد هذه الأطر الثلاثة لتكون نقطة انطلاقٍ لمن أراد البحث في تاريخ الأطوار الحسينية، وكي لا يتجاهل أحدٌ دور كل إطارٍ وحقبةٍ زمنيةٍ وأثره على هذه الأطوار، وبهذا يتحقق قدرٌ كبيرٌ من الموضوعية والعلمية في تناول القضية، وكذا أراد التنبيه إلى ما انتهى إليه من قاعدةٍ لنقد مظاهر الإحياء العاشورائي.
الرسالة الثانية عشر: الدعوة إلى (تهذيب وتنقية) مظاهر الإحياء في عاشوراء.. مسألة التباني الثقافي، ورؤيةٌ في المنهج:
مقدمة:
لم يكن استحداث مظاهر جديدة للإحياء مقبولًا على إطلاقه لدى الفقهاء، منذ الانعطافة الأولى في زمن الدولة البويهية، وما تلتها من انعطافات، والملاحظ أنَّ مظاهر الإحياء تسير في خطٍّ تصاعديٍّ في الحركة العامة، ولهذا الأمر أسبابه، ويسجل المؤلف ملاحظته على طريقة النقد المتبعة ويناقشها، ويطرح رؤيته القانونية الكلية كمفهومٍ دون النظر للمصاديق، فيقع كلامه في أصل التغيير، فيقدم هذه الورقة تحت أربع نقاط:
الأولى: طبيعة التباني الثقافي:
تتردد الثقافة في وجودها بين الضعف والقوة، ومرجع ذلك لأمرين رئيسيين:
الأول: الكم: ظهور العقل الجماهيري أو الجمعي وما يُشعِر به من قوةٍ ومنعةٍ وأمان، وهو وجودٌ نفسيٌّ يؤسس لأدبيةٍ عامةٍ تُقرِّر صحة سلوك الجماعة. يبقى الشخص محكومًا بالضغط الجمعي ما لم يستقل بالنظر إلى الفكرة بحسب الموازين الصحيحة، وهذا العقل الجمعي يتوفر على سلوكٍ تسقيطيٍّ استعدائيٍّ ضد الخارجين عنه بعد انضوائهم تحته.
الثاني: طبيعة الاعتناق: القوة الجمعية تظهر بشكلٍ أشد عندما يكون موضوع التباني ذا صبغةٍ عقدية، في أيِّ مجال، لدرجةٍ ترتفع عندها قوة الاستعداد للتضحية بالنفس. وقد تغني الطبيعة العقدية عن الزيادة الكمية أحيانا.
الثانية: محل موضوعية الحكم بالصحة والخطأ على السلوك الجمعي:
إذا اكتسب السلوك قوته الوجودية من خلال التباني الكمِّي في العقل الجمعي، فلا موضوعية حينها للنظر في صحته أو خطئه، ولذا ينبغي التمييز بين نتاج العقلين النظري والعملي، والحذر من التداخل، ففي العقل النظري حالةٌ من التجرد عن ضغوط الخارج، وعادةً يكون هذا متعذِّرًا في الثاني.
الثالثة: موضوعية البعد الثقافي المُنتِج:
بعد عجز المعادين للأديان السماوية من السيطرة عليها بالعنف، انتقلوا منذ مطلع القرن الثامن عشر إلى المواجهة الثقافية بقوة، وكان هذا نتاج عملٍ عِلميٍّ فكريٍّ فلسفيٍّ بدأ من القرن الرابع عشر، واستمر حتى وصلنا إلى ما عليه العالم اليوم، عن طريق استثمار العقل الجمعي وإيهامه أنَّه واع، حتى وصل الحال ببعض المسلمين للتشكيك في مفردات الإسلام.
الرابعة: الإعابة بالتخريف والتطقيس وما شابه:
يتضح ممَّا مرَّ أنَّ الإعابة على المظاهر المحكومة بالعقل الجمعي خطأٌ يؤدي إلى تقسيم وتمزيق المجتمع، وقد يتحول الفاعل للإعابة سببًا لانتشار ما هو بصدد محاربته! تتعمق المشكلة عندما يكون طرفَا الإعابة لهما رأيٌ فقهي، فالمُعيب والمُعاب يسقطان كل منهما عند جماعة الآخر.
مشكلة التشكيك في اجتهاد بعض العلماء تكمن في النَفَسِ الحزبي، الذي لا يرتاح إلا بتسقيط المخالف لحزبه، ولا بدَّ من أنْ يسعى الكبار لحل هذه المشكلة.
تنبيه:
التباني العقلي الجمعي مطلوبٌ وضروريٌّ لتقوية وصيانة البناءات الثقافية والفكرية الصحيحة للأفراد، لذا نجد المفسدين يتمادون في عبثهم بنشر ثقافة إطلاق الرفض للعقل الجمعي من خلال تشكيل عقلٍ جمعيٍّ رافض!
خلاصة القول:
تغيير السلوك الجمعي يحتاج إلى إحداث تغييراتٍ ثقافيةٍ في المجتمع بشكلٍ عام، وفي خصوص أهل التباني الجمعي السلوكي، فالتغييرات الثقافية مقدمات وتغير السلوك الجمعي معلولٌ لها.
أقول:
يظهر في مثل هذه الورقة القدرة التي يمتلكها المؤلف في استثمار العلوم الإنسانية لما فيه الصالح العام، وهو أمرٌ إيجابيٌّ ينبغي للباحثين المؤمنين الانتباه إليه.
الرسالة الثالثة عشر: منبر المأتم.. الواقع ومعايير التقييم:
مدخلٌ موضوعي:
احتفظ منبر البحرين إلى زمنٍ قريبٍ بطابعٍ خاصٍّ تميز بطرح السيرة والتسلسل من خلالها لذكر المصيبة، ثم حدثت في إيران والعراق انعطافةٌ منبريةٌ مهمةٌ فرضت واقعًا ثقافيًا وفكريًا على الطرح المنبري، فتحول المطلوب من خطيبٍ صاحب صوتٍ شجيٍّ إلى منبريٍّ قادرٍ على طرح ما تُرَدُّ به الشبهات وما تقوى به العقيدة، بالإضافة لقدرته على النعي والرثاء، وهذا يتطلب نوعًا خاصًّا ليكون المنبري قادرًا على أداء هذا الدور، وهذه الانعطافة انتقلت للبحرين في الظرف الزمني للثورة الإسلامية في إيران.
أطروحة الجهة المُلزِمة:
يتحدث البعض عن ضرورة وجود جهةٍ مَّا تقوم على رعاية المنبر وترشيده وصيانته، ولكنَّ الأمر متعذِّرٌ جدا، بل قد يوقعنا في شرورٍ عظيمة.
الخصوصية في معايير تقييم المنبر:
بعد الفراغ من ضرورة ومحورية الجانب الرثائي يأمل المؤلف من المنبر أنْ يكون أحد ثلاثة، في الدرجة الأولى ينتظر من الخطيب طرحًا علميًّا وازنا، وإلا نَقل السيرة مسندةً إلى مصدرها، وإلا فلا أقلَّ من بعض الأحاديث الوعظية، ويجدر بكل منبريٍّ أنْ لا يُقحم نفسه فيما لا يناسبه. ومن هذه الثلاثة يمكن أنْ ننطلق للتقييم والنقد بشكلٍ صحيح.
معايير التقييم ومشكلة ترتيب الطرح:
لا بدَّ من وجود معايير صحيحةٍ للتقييم والنقد العلمي المنضبط، لكنَّ الحاصل ليس كذلك، فسيرة عامة الناس على ضابطة ترتيب البحث ترتيبًا أكاديميًا ممَّا يؤثِّر على نظرة المستمع أو القارئ، وفي الواقع هذه الضابطة وما يترتَّب عليها من تقييماتٍ بعيدة عن الموضوعية.
الحيثية الثقافية في تحديد معايير التقييم:
لكل إنسانٍ ثقافةٌ يقوم عليها بناؤه الفكري، فتؤثر دون شكٍّ في تقييمه، وتبعده عن الموضوعية في كثير من الأحيان، ويؤسس التقييم المبني على الثقافة الشخصية إلى نسبية المعايير، وهو أمرٌ في غاية الخطورة والسوء.
في الواقع هناك إطارٌ عامٌّ ينبغي الوقوف عليه، يأتي بعده إطارٌ أخص يحكم الطبيعة الخاصة لكل منبر، ويأتي تحتهما إطارٌ أكثر خصوصية، وهكذا ننتهي إلى حكمٍ علميٍّ وازن، ومعايير الإطار العام هي:
1/ توضيح منهجية الطرح.
2/ الالتزام بالموضوعية.
3/ إسناد الآراء إلى أصحابها، وإلى نفس الخطيب إنْ كان له رأيٌ خاص.
مشكلة النقل التاريخي:
لا بدَّ للجمهور من الالتفات لتعدد مناهج النقل التاريخي، وفهم هذا يؤدي إلى الامتناع عن رمي النتائج بالخرافة والنكارة وغير ذلك، ومن المعايير التقييمية المهمة عدم نفي حادثةٍ ما لعدم ثبوتها على وفق منهجٍ بحثيٍّ معين، والاكتفاء بالتصريح بعد ثبوتها وفق المنهج المتبع من الباحث أو الناقل.
حقيقة المشكلة:
تنحصر المشكلة مع المنبر المأتمي في بُعدين رئيسيين: الأول هو ضعف الحالة التقييمية من المنبري لنفسه، والثاني ضعف اهتمام عامة المؤمنين بتصنيف المنابر مقدمة لتقييمها، بالإضافة لتحكيم الأبعاد الثقافية على معايير التقييم.
نقاطٌ عامةٌ حول الكتاب والمؤلف:
الأولى: يتضمن هذا الكتاب مجموعةً كبيرةً من المباني الفكرية التي يعتمدها المؤلف في علومٍ مختلفة، ويمكن الوقوف على شيءٍ منها عند قراءة كل فصلٍ من فصول الكتاب.
الثانية: أهم مصادر المعرفة التي يعتمد عليها المؤلف هي القرآن الكريم، ونصوص الرسول الأعظم وأهل البيت (صلوات الله عليهم)، والعقل.
الثالثة: لا يتردد المؤلف في طرح ما يتوصل إليه إذا كان فيه صالحًا للمؤمنين.
الرابعة: يتمتع المؤلف باحترامه وتقديره للجهة المُخاطَبة على اختلافها علميًّا وثقافيًا وفكريًّا، وكذلك على اختلاف مجالاتها.
الخامسة: يتميز الكاتب بعدم الركون لما وصل إليه غيره وتبنَّاه حتى لو كان من العلماء الكبار، فتجده يبحث ويتأمل ويطرح ما يصل إليه بكل رصانةٍ وقوةٍ علمية، وهذه السمة وجدتها بارزةً في هذه المقالة.
السادسة: يتميز الكتاب باحتوائه على بعض الآراء الجديدة بالنسبة لموضوعاتها، انتهى لها الكاتب بجهده الخاص، وهذا يشكل داعيًا مهمًّا لمطالعة الكتاب.
خاتمة المراجعة:
ذهبتُ مع الكاتب في رحلةٍ فكريةٍ متنوعةٍ واسعة، واستفدت كثيرًا من كنوزها، فالرسائل التي تضمنها الكتاب كعناوين -أيْ الرسائل الثلاثة عشر الرئيسية- وما اندرجت تحتها من عشرات الرسائل كانت مفيدةً للغاية.
أما لغة الكتاب فهي متوازنةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ بين اللغة العلمية الحوزوية وبين اللغة الثقافية التي تناسب غير الحوزوي، على تفاوتٍ بين رسالةٍ وأخرى.
ولا أبالغ إنْ قلت أنَّ هذا الكتاب من أهمِّ الكتب التي قرأتها في السنوات الثلاث الأخيرة لأسبابٍ متعدِّدة، ليس المقام مناسبًا للحديث عنها، لذلك كنتُ ولا أزالُ أنصح بالاطلاع عليه، ومناقشة المطروح فيه.
أما لغة المراجعة فأعتذر للقارئ الكريم لتفاوتها بين رسالة وأخرى، وذلك لأنني قرأت الكتاب في فتراتٍ متفرقة، فتطرأ الكثير من التغييرات على المستوى الشخصي دون شك، ما أدى لهذا التفاوت، وقد حاولت إصلاح ما يمكن إصلاحه عند كتابة هذه المراجعة النهائية. أمَّا طول المراجعة فهو راجعٌ لتعدُّد المواضيع المطروحة في الكتاب.
...................................
محمود أحمد سهلان العكراوي
العكر الشرقي – البحرين
الاثنين 8 ذو الحجة 1442هـ
الموافق 19 يوليو 2021م