بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
النفائس البحرانية في مناقشة المحاسن النفسانية
مناقشةٌ لجواب علَّامة البحرين (نوَّر الله مرقده الشريف) على سؤال عن اعتقاده في علمائنا الأصوليَّة
مقدَّمة:
لا زلتُ محتفظًا بنفسي بعيدًا عن الدخول في التنازعات والبينيات بشكل عام، وعلى وجه الخصوص تلك التي بين الشيعة الكرام، إلَّا أن يوفِّقني الله تعالى لكلمة إصلاح وتقريب؛ فضرر التصنيف في النفس ليس بأقلِّ من ضرر النزاعات والخصومات بين شيعة أمير المؤمنين (عليه السَّلام)، وهو أمر لا مفرَّ منه، حيث إنَّ من السِمات السيئة في المجتمع انسباق التفكير إلى تصنيف المتحدِّث أو الكاتب بمجرَّد دخوله في قضيةٍ خلافيةٍ بين تيارين، أو حزبين، أو ما شابه من ألوان التحزبات المقيتة، بل وأكثر من ذلك اتِّهامه بالتذبذب والتلون في حال عجزهم عن عدِّه على جهة بعينها!
مع هذا التحفظ والاحتراز ينقبض القلبُ لمؤمنٍ يجرفه التيَّار فينتمي لجهة، أو يصطف إلى جهة، ويَحْمِلُ على أُخْرَى، وها نحن نعيشُّ المرَّ والغُصص بسبب التصنيفات المرجعية الكريهة.
إنَّنا لا نقول بتوحيد الطائفة وإلغاء حقِّ الاختلاف، ولكنَّنا نرفض رفضًا قاطعًا، وننفر نفورًا، ونتقزَّز بشدَّة مِن التحزب وما يُنتجه من بناءات على (نحن وأنتم). إنَّ لهذه الحالة توصيفات في غاية العنف والإقصاء، إلَّا أنَّني أمنعها من الجريان في حبر قلمي احترامًا للمقام وتقديرًا لمشاعر القرَّاء الكرام.
إنَّه من الضرورة بمكان أن نقف على الحدود التي يصحُّ في مساحتها الاختلاف، بل هو حقٌّ طبيعي يقتضيه اختلاف الأفهام والتفاوت الذهني بين الناس، غير إنَّ الوقوف على تلكم الحدود ليس من الأمور المتيسرة لكلِّ أحد؛ إذ إنَّ إحرازها متوقفٌ على تحرير الكثير من المفاهيم تحريرًا دقيقًا يعقبه تقريرٌ متين.
من المؤسف أنَّ المفاهيم التي تُعرَفُ بها الحدود لم تُحرَّر، بل أخشى أنَّها لم تُعطَ الدقَّة المطلوبة في بحثها والوقوف على جهاتها وقوفًا علميًا صحيحًا، فنتج عن ذلك جهلٌ مركَّبٌ سيطر على بعض الأفهام ممَّا تسبَّب في أزمات لا زلنا نعاني شرَّها.
دَعَتْ، في السنوات الأخيرة، بعضُ الأزمات إلى أنْ نَقِفَ لتأمُّلِ أسبابها وجِهَات نُشُوئِهَا، لا سيَّما وقد أخَذَتْ بِتَلابِيب بعضِ طَلَبَةِ العِلم فأفْقَدَتْهُم شيئًا من رُشْدِهِم، وهذا ممَّا لا يصحُّ السكوتُ عليه بحال.
ظهرتْ مِنَ البعض مواقفُ غريبة من بعض العلوم الحوزوية، مثل أصول الفقه، والكلام، والمنطق، وغيرها من العلوم الآلية، حتَّى اللغة وعلومها! والحجَّة في ذلك أنَّها من علوم المخالفين وأهل الكفر، وهذا، بحسب أفهامهم، ممَّا نهانا عنه أهلُ البيت (عليهم السَّلام).
بل إنَّ منهم من سكنه الخوف من حضور هذه الدروس خشية من أن يُقبَض وهو على هذه الحال!
وفي المقابل رأينا من طلبة العلم من يُشنِّع على الروايات الشريفة ويتِّهم كتُبَنَا المعتبرة بالضعف وباشتمالها على الغثِّ والسمين، ويشير بأصابع الاستصغار إلى علمائنا الأخباريين.
إنَّ لهذا النظرة خلفيات فاسدة أو مختلة، ونتائج من سنخها.. للأسف؛ فهي عقلياتٌ غريبةٌ وأفهامٌ مُتطرفةٌ مُخيفة.
بشيء من السؤال والتتبع تبيَّن أنَّ لكتاب علَّامة البحرين الشَّيخ حُسين العصفور (نوَّر الله مرقده الشريف) الموسوم بـ(المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية) دورًا في إحداث ما يحتاج إلى معالجة وتصحيح، فعقدتُ العزم على المساهمة في ذلك، وكلِّي خجلٌ ممَّا أن مُقدِمٌ عليه؛ فقامة مثل قامة شيخنا العلَّامة البحراني (قُدِّست روحه الشريفة) لها حقوقٌ علينا، أقلُّها التأدُّب بحفظ اللسان عن المناقشة والإشكال، ولكنَّ الضرورة قد وقعت ورجائي أنْ أكون ملتزمًا جادَّة الأدب والموضوعية والإنصاف من أوَّل حرفٍ إلى نقطةِ الانتهاء، وإن وقع منِّي خلافُ ذلك فهو بالقطع واليقين ليس عن قصد، فأسأل الله تعالى العفو، ومن روح شيخنا علَّامة البحرين (رفع الله درجاته في عليين) العذر والسماح.
مادَّة المقالة:
كانت المسألة الأولى عن رأي علَّامة البحرين (نوَّر اللهُ مرقده الشريف) في الأصوليين من علماء الطائفة المرحومة، والظاهر أنَّ منشأ السؤال هو تعرُّض البعض من علمائنا الأخباريين إليهم بالذم، وفي ذلك قال السائل: "ولقد رأيتُ قومًا من الأخباريين يذمُّونهم غاية الذمِّ، ويَحْذَرُون عن مجالستهم كالحية والأرقم والعدو الأعجم، ويعدونهم من المخالفين، بل من النواصب المضلين"[1]، وهو تعرُّضٌ مُحيِّر بالنسبة للسائل لما وجده من الأصوليين من قوَّة في الدين وإعلاء لكلمة ربِّ العالمين، إذ "أنَّهم صنَّفوا في الأصول أصولًا، وفي الفروع أبوابًا وفصولًا. وكلُّ واحدٍ منهم في التوحيد وحيد، وفي العدل ليس لهم عدول ولا كلام فضول، وفي النبوة والإمامة كالردم المشيد، بل هدموا جدران شكوك المخالفين، ونقضوا دلائلهم الركيكة، وحججهم السخيفة بتأليف الكتب والرسائل، ودرجوا فيها من الدلائل القاطعة والبراهين الساطعة ما يشفي العليل ويروي الغليل، ويزيل الشكَّ والارتياب عن قلوب أولي الألباب، ككتاب الألفين"[2].
النظرُ في جَوابِ صَاحِبِ السَّدَادِ (طَابَ رَمْسُهُ):
ارتكزَ جَوابُ الشَّيخ العلَّامة (رحمه الله تعالى) على مقدِّمة تحليلية لتاريخ طريقة العلماء في استنباط الأحكام الشرعية؛ ارتكز فيها على أنَّ الله تعالى قد أكمل الدين كمالًا يُغْنِي عن إفادةِ شيءٍ من مسائل العلوم من غير ثقليه، كتاب الله والعترة الطاهرة، وبالتالي فإنَّ الضلال لازمٌ لأي اشتغال في تقعيدٍ، أو تأسيسٍ، أو تأصيلٍ ديني من خارج نصوصِهِمَا الشريفة؛ لأنَّه استغناءٌ عنهما وطلبُ العلم من غير جهته المرضية لله سبحانه وتعالى.
ثُمَّ إنَّه (قُدِّس سرُّه) ساق الكثير من الآيات والروايات ليستدل على أحقية مذهب أهل الصدر الأوَّل، وهو ما عليه الأخبارية بحسب ما انتهى إليه، وعدم صحَّة مذهب الاجتهاد وهو ما عليه الأصولية.
أقول:
إنَّنا لا نجدُ، في مقام المناقشة، بُدًّا من سرد أدلَّة وبيانات شيخنا العلَّامة البحراني (علا برهانه)؛ طلبًا لبناء الكلام على أسس ومطالب واضحة.
أوَّلًا: قال: "تكثُّر الأوامر القرآنية وتواتر الأخبار المعصومية بسلوك الطريقة القديمة، والذم لارتكاب الأهواء الذميمة، قال الله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[3]، وفي أخرى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[4]، وفي أخرى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)[5]. وقال تعالى: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ)[6]، وقال جلَّ مِنْ قائِل: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)[7]، وقال جلَّ مِنْ قائل: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)[8]، وقال جلَّ شأنُهُ: (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)، وقال تعالى: (وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)[9].
ثُمَّ إنَّه (طاب رمسُه) عقَّب بأخبارٍ شريفةٍ، هي:
- عن أبي عبد الله الصادق (عليه السَّلام)، قال: "إنَّ الله تبارك وتعالى عَيَّرَ عِبَادَه بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا حتَّى يعلموا، ولا يَرِدُوا ما لم يعلموا، قال الله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ)، وقال: (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)"[10].
- قال أبو عبد الله (عليه السَّلام): "أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال؛ أن تدين الله بالباطل وتفتي الناس بما لا تعلم"[11].
- عن عبد الرحمن بن الحجَّاج، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السَّلام): "إيَّاك وخصلتين؛ ففيهما هلك من هلك، إيَّاك أن تُفْتِي الناسَ برأيك، أو تدين بما لا تعلم"[12].
- عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: "فوالله لَنُحِبُّكُم أن تقولوا إذا قلنا، وأن تصمتُوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله عزَّ وجلَّ، ما جعل اللهُ لأحدٍ خَيرًا في خِلَافِ أمْرِنَا"[13].
- وعنه (عليه السَّلام) أنَّه قال: "حسبكم أن تقولوا ما نقول وتصمتُوا عمَّا نصمت؛ إنَّكم قد رأيتم أنَّ الله عزَّ و جلَّ لم يجعل لأحد من الناس في خلافنا خيرًا"[14].
- قال أبو عبد الله (عليه السَّلام): "من دان الله بغير سماع عن صادقٍ ألزَمَهُ اللهُ البتة إلى العناء، ومن ادَّعى سماعًا من غير الباب الذي فتحه الله فهو مُشركٌ، وذلك الباب المأمون على سرِّ الله المكنون"[15].
- قال الإمام الرضا لإبراهيم بن محمود: "لقد اخبرني أبي عن أبيه عن جدِّه (عليه السَّلام)، أنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قال: "من أصغَي إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطِقُ عن الله عزَّ وجلَّ فَقَدْ عَبَدَ اللهَ، وإن كان الناطِقُ عن إبليس فقد عبد إبليس". إلى أن قال: "يا ابن أبي محمود، إذا أُخِذَ الناسُ يمينًا وشمالًا فالزم طريقتنا؛ فإنَّه مَنْ لزمنا لزمناه ومن فارقنا فارقناه. إنَّ أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يقول للحصاة هذهِ نواه ثُمَّ يدين بذلك ويبرء ممن خالفه! يا بن أبي محمود، احفظ ما حدَّثتُكَ بِهِ؛ فَقَدْ جَمَعْتُ لكَ خيرَ الدُنيا والآخرة"[16].
- عن سليم بن قيس الهلالي، قال: سمعتُ أميرَ المؤمنين عليًّا (عليه السَّلام) يقول: "احذروا على دينكم ثلاثة؛ رجلًا قرأ القرآنَ حتَّى إذا رأيت عليه بهجته اخْتَرَطَ سَيفَهُ على جَارِهِ ورَمَاهُ بالشرك. فقلتُ: يا أمير المؤمنين، أيُّهما أولى بالشرك؟ قال: الرامي. ورجلًا اسْتَخَفَّتْهُ الأحاديثُ كُلَّمَا أُحْدِثَتْ أُحدُوثَةٌ كذب مدَّها بأطول منها، ورجلًا آتاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ سُلطَانًا فزعم أنَّ طاعَتَهُ طَاعَةُ الله ومعصيتَهُ معصيةُ الله"، إلى أن قال: "إنَّما الطاعةُ لله ولرسوله ولولاة الأمر، وإنَّما أمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ بطاعة الرسول لأنَّه معصومٌ مُطَهرٌ، لا يأمر بمعصيته، وإنَّما أمَرَ بطاعة أولي الأمر لأنَّهم معصومون مُطَهرُون لا يأمرون بمعصيته "[17].
- عن فضيل بن يسار، قال: سمعتُ أبا جعفرٍ (عليه السَّلام) يقول: "كُلُ مَا لم يخرج مِنْ هذا البيتِ فهو بَاطِلٌ"[18].
- عن أبي بكر الحضرمي، قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السَّلام): أمَا سمعتُ عليك بالحديث فيقول بعضنا قولنا قولهم؟ قال: فما تريد؟ أتريدُ أن تكونَ أمانًا بِكَ؟ مَنْ رَدَّ القولَ إلينا فَقَدْ سَلِمَ"[19].
- في قوله تعالى (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ)، قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام): "مَنْ أخَذَ دِينَهُ مِنْ أفواه الرجالِ أزالتْهُ الرِجَالُ، وَمَن أخَذَ دِينَهُ مِنَ الكِتَابِ والسُنَّةِ زالتْ الجِبَالُ ولم يَزَل"[20].
- علي بن إبراهيم في (تفسيره) عند قوله تعالى: (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ). قال: قال أبو عبد الله (عليه السَّلام): "نزلت في الذين غيَّرُوا دين الله وتركوا ما أمَرَ الله، ولكن هل رأيتم شاعرًا قطُّ تبعه أحدٌ؟ إنَّما عنى بهم: الذين وضعوا دِينًا بآرائِهِم فَتَبعهم الناسُ على ذلك". إلى أن قال: "(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وهم أمير المؤمنين (عليه السَّلام) وولده (عليهم السَّلام)"[21].
- في مجمع البيان (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ)، وروى العياشي بالإسناد عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: "هم قومٌ تَعَلَّمُوا أو تَفَقَّهُوا بغير عِلمٍ فَضَلُّوا وأضَلُّوا"[22].
- عن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: سألتُهُ عن قول الله: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ). قال: أمَا إنَّهم لم يَتَّخِذُوهم آلهةً، (إلَّا أنَّهم أحَلُّوا لهم حلالًا فأخذوا بِهِ، وحَرَّمُوا حرامًا فأخذوه به)[23]. فكانوا أربابهم من دون الله"[24].
- عن حذيفة، سُئلَ (الإمام الصادق عليه السَّلام) عن قول الله: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ)، فقال: "لم يكُونُوا يعبدونهم؛ ولكن كانوا إذا أحَلُّوا لهم أشياء استحلُّوها، وإذا حَرَّمُوا عليهم حَرَّمُوها"[25].
- في خطبة لأمير المؤمنين (عليه السَّلام)، قال: "خاضوا بِحَارَ الفِتَنِ، وأخذوا بالبدع دون السُنَنِ، وأَرَزَ المؤمنون، ونطق الضالون المُكَذِّبُون. نحن الشعار، والأصحاب، والخزنة، والأبواب. لا تؤتى البيوت إلَّا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سُمِّيَ سَارِقًا". إلى أن قال: "فإنَّ العَامِلَ بغير علمٍ كالسَائِرِ على غير طريق، فلا يزيدُهُ بُعْدُهُ عن الطريق إلَّا بُعْدًا من حَاجَتِهِ. والعامل بالعِلمِ كالسَائِرِ على الطريق الواضح، فلينظر ناظرٌ أسَائِرٌ هُوَ أمْ رَاجِع"[26].
- وقال عليُّ بن أبي طالب (عليه السَّلام): "وإنَّما النَّاسُ رجُلانِ؛ متبع شرعة، ومبتدع بدعة ليس معه من الله سبحانه برهانُ سُنَّةٍ ولا ضِياءُ حُجَّةٍ"[27].
- عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) في حديثٍ أنَّهُ سُئِلَ عن اختِلافِ الشيعة، فقال: "إنَّ دين الله لا يُعرَفُ بالرجال، بل بآية الحقِّ، فاعرف الحقَّ تعرف أهلَهُ. إنَّ الحقَّ أحسن الحديث، والصادع بِهِ مُجَاهِدٌ، وبالحَقِّ أُخبرُكَ فارعني سَمعَكَ. وذَكَرَ كَلامًا طويلًا، حَاصِلُهُ؛ الأمرُ بالرجوع إليهم (عليهم السَّلام) في الأحكام وتفسير القرآن وغير ذلك"[28].
- عن الحسين، أنَّه سَألَ جعفر بن محمَّد (عليه السَّلام) عن قول الله تعالى: (أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ). قال: أولي الفقه والعلم. قلنا: أخَاصٌّ أم عَامٌّ؟ قال: بل خَاصٌّ لَنَا"[29].
- عن محمَّد بن عبيدة، قال: قال لي أبو الحسن (عليه السَّلام): يا محمَّد، أنتم أشدُّ تقليدًا أم المُرَجِّئَة؟ قال: قلتُ: قَلَّدْنَا وقَلَّدُوا. فقال: لم أسألك عن هذا. فلم يكن عندي جواب أكثر من الجواب الأوَّل! فقال أبو الحسن (عليه السَّلام): "إنَّ المُرَجِّئَة نَصَبَتْ رجُلًا لم تفرض طَاعَتَهُ وقَلَّدُوه، وأنتُم نَصَبْتُم رَجُلًا وفَرَضْتُم طَاعَتَهُ ثُمَّ لم تُقَلِّدُوه؛ فَهُم أشَدُّ منكم تقليدًا"[30].
- عن ضريس، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) في قول الله عز وجل: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ). قال: "شِركُ طَاعةٍ وليس شِركُ عِبَادَةٍ. وعن قوله عزَّ وجلَّ: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ). قال: إنَّ الآية تنزل في الرجل ثُمَّ تكون في أتباعه. ثُمَّ قلتُ: كُلُّ من نصب دونكم شيئا فهو مِمَّن يعبُدُ اللهَ على حرفٍ؟ فقال: نعم"[31].
- قال الإمام الصادق (عليه السَّلام): "الحُكْمُ حكمان؛ حكمُ اللهِ عزَّ وجلَّ، وحكمُ أهلِ الجاهلية، فَمَن أخْطَأ حُكْمَ الله عزَّ وجلَّ حَكَمَ بِحُكم أهل الجاهلية، ومن حكم بدرهمين بغير ما أنزل اللهُ عزَّ وجلَّ فقد كفر بالله تعالى"[32].
- عن أبي حمزة الثمالي، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السَّلام): "إيَّاك والرئاسةَ، وإيَّاك أنْ تَطَأ أعْقَابَ الرِجَالِ. قال: قلتُ: جُعلتُ فداك؛ أمَّا الرئاسة فقد عرفتُها، وأمَّا أنْ أطأ أعقابَ الرِجَالِ فَمَا ثُلُثَا ما في يدي إلَّا مِمَّا وطئتُ أعقَابَ الرِجَالِ! فقال لي: ليس حيثُ تذهب؛ إيَّاك أنْ تَنْصِبَ رَجُلًا دُونَ الحُجَّةِ فَتُصَدِّقه في كُلِّ ما قال"[33].
- عن محمَّد بن مسلم، قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) يقول: "أترى لا أعرف خياركم من شراركم؟! بَلى واللهِ؛ وإنَّ شِرَاركم مَنْ أحَبَّ أنْ يُوطَأ عَقِبُهُ، إنَّه لا بُدَّ مِنْ كَذَّابٍ أو عَاجِزِ الرأي"[34].
- عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، قال: الحُكمُ حكمانِ؛ حكمُ اللهِ وحكمُ الجاهلية، وقد قال اللهُ عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، وأشهدوا على زيد بن ثابت؛ لقد حَكَمَ في الفَرَائِضِ بِحُكْمِ الجَاهليَّةِ"[35].
- عن أبي بصير، قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) يقول: "مَنْ حَكَمَ في دِرهَمينِ بغير ما أنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ فهو كافِرٌ بالله العظيم"[36].
- عن معاوية بن وهب، قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) يقول: "أيُّ قاضٍ قضى بين اثنين فأخطَأ سَقَطَ أبْعَد مِنَ السَّمَاءِ"[37].
- عن عبد الرحمن بن الحجَّاج، قال: كان أبو عبد الله (عليه السَّلام) قاعِدًا في حَلَقَةِ ربيعَة الرأي، فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألةٍ فأجَابَهُ، فلمَّا سَكَتَ قَالَ له الأعرابي: أهو في عُنُقِكَ؟ فَسَكَتَ عنه ربيعةُ ولم يَرُد عليه شيئًا. فأعَادَ عليه المسألةَ فأجَابَهُ بِمثلِ ذَلِكَ، فقال له الأعرابي: أهو في عُنُقِكَ؟ فَسَكَتَ ربيعةُ. فقال له أبو عبد الله (عليه السَّلام): هو في عُنُقِهِ. قال: أو لم يقُلْ: وكُلُّ مُفْتٍ ضَامِنٌ؟"[38].
- قال أبو جعفر (عليه السَّلام): "من أفْتَى النَّاسَ بغير علمٍ ولا هُدىً مِن اللهِ لَعَنَتْهُ ملائكةُ الرحمة وملائكةُ العذاب، ولحقه وزرُ مَنْ عملَ بِفُتيَاه"[39].
- عن أبي بصير، قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السَّلام): تَرِدُ علينا أشياءُ ليس نَعرِفُهَا في كتاب الله ولا سُنَّةٍ، فننظر فيها؟ فقال: لا، أمَا إنَّك إنْ أصَبْتَ لم تُؤجَر، وإنْ أخطَأتَ كَذبتَ على اللهِ عزَّ وجلَّ"[40].
انتهى (قدَّس الله تعالى نفسه الزكية) من سرد الأحاديث الشريفة، ثُمَّ عقَّب فقال:
"وهي في هذا المعنى بالغة حدَّ التواتر، فلا يمكن الإتيان على آخرها. ولا كلام في صراحتها في عدم الاجتهادات التي أسَّسها العامَّة (...) وأخَذَ ببعضِ طُرُقِها جماعةٌ من علمائنا كما قدَّمنا؛ إمَّا إلزامًا للمخالفين في مقام الاحتجاج عليهم، أو غفلة عن تلك الأخبار التي ذكرناها ولشدَّة مخالطتهم"[41].
أقول:
ارتكز شيخُنا العلَّامةُ العصفوري (طاب رمسه) على أمور مأخذها، بحسب نظره الشريف، نصوصهم (عليهم السَّلام)، وهي:
أوَّلًا: العمل بالظن، وهو منهي عنه صراحةً.
ثانيًا: عدم انضباط مدارك المسلك الاجتهادي فروعًا، "وكثيرًا ما يقع التعارض فيها، واضطراب النفس، ورجوع كثير من فحول العلماء عمَّا به أفتى، فلا يصلح أن يجعل مناط أحكامه تعالى"[42].
ثالثًا: اختلاف المسالك الاجتهادية باختلاف الأذهان.
رابعًا: الاستنباطات الظنِّية المضطربة لا تصلح لتكون أساسًا للشريعة السمحاء السهلة.
خامسًا: عدم جواز اختلاف الفتاوى من غير ضرورة التقية.
هذه هي الأمورُ الأمُّ، وما دونها ممَّا أثبته (نوَّر اللهُ مرقده الشريف) فخارجٌ عن موضوعية البحث. وكيف كان فلمن أراد فليراجع.
أمَّا الظنُّ؛ فإنَّ تحرير معناه يكشف عُمْقَ الاشتباه الذي وقع فيه كثيرون دون التفات، فرتَّبوا الآثار وأطلقوا الأحكام فوقعتِ المشاكل وتعقدت الأزمات. بيان ذلك:
الظنُّ في المنطق هو "أن تُرَجِّحَ مضمونَ الخَبَرِ أو عدمه مَعَ تَجْويزِ الطَرَفِ الآخَر"[43] وقال الشَّيخ المُظفَّر: "وهو أدنى قِسْمَي التصديق"[44]، وهذا هو حال الإنسان في عموم تصديقاته؛ حيث إنَّ القطع عن يقين وانكشاف، والجزم عن حسٍّ ومشاهدة عزيزٌ، بل قد ننفيه في القضايا المعقولة عن سمعٍ أو تحليل أو فهم، سواء كان هذا الأخير من نصوص في المطلوبات أم في استظهارات من الألفاظ وتركيبات الجُمَل، بل حتَّى في الأخبار المتواترة فإنَّ بعض المعاصرين تغلَّب على هامش عدم التصديقِ فيها بحساب الاحتمالات، وإلَّا فإنَّها لا تُحقِّقُ العلم بما يُعَبَّر عنه بنسبة (100%).
وعند الأصوليين فيُطْلَق الظنُّ "على الأعمِّ مِنَ الظَنِّ المنطقي، والشك والاحتمال المنطقيين، فمطلق ما ليس بيقين يُعَبَّرُ عنه عندهم بالظن، نعم، الاطمئنان والذي يكون معه احتمالُ الخِلافِ مَوهُومًا لا يُعَبَّر عنه عندهم بالظنِّ كما هو كذلك في الاستعمالات العرفيّة، بل قد يُعَبِّرُون عن الاطمئنان باليقين وإنْ كانوا يُسَلّمُون بأنَّ الاطمئنان لا يساوق اليقين الرياضي، والذي لا يكون معه احتمال الخلاف وارِدًا، ولو كان بمستوى الوهم، أو ما هو أدنى من ذلك لو كان ثمّة مستوى أدنى من الوهم".
وللتنبيه، فإنَّ "الأصل هو عدم حجيّة مطلق الظن على اختلاف مراتبه وتفاوت مناشئه إلَّا مع قيام الدليل القطعي على جعل الحجيّة له امّا مطلقا أو في موارد خاصة عند ما ينشأ عن مناشئ معينة"[45].
أمَّا في اللغة فقد ذكر ابنُ الأنباري للظنِّ معانٍ أربعة، أوَّلها (الشكُّ) وشواهده أكثر من أن تُحصى، وثانيها (اليقين)، ومنه قوله تعالى (وأَنَّا ظَننَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ في الأَرْضِ ولَنْ نُعْجِزَهُ هرَبًا) "معناه عَلِمْنَا". وقالَ جلَّ اسمه: (ورَأَى المُجْرِمُونَ النَّارَ فظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها). "معناه فعلِموا بغير شكّ". وثالثها (الكذب)؛ قلت: ظَنَّ فلان، أَي كَذَب، قال الله عزَ وجلّ: (إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)، "فمعناه: إِنْ هُمْ إِلاَّ يكذبون"؛ ولو كان على معنى الشكّ لاستوفَى منصوبَيْهِ، أَو ما يقومُ مقامَهما. والرابع بمعنى (التّهمة)، فهو أَن تقول: ظننت فلانًا، فتستغنيَ عن الخبر، لأَنَّكَ اتَّهمته، ولو كان بمَعْنَى الشكّ المحْض لم يُقْتَصرْ به على منصوب واحد. ويُقالُ: فلان عندي ظَنِين، أَي متَّهم، وأَصله مَظْنون، فصرِف عن مفعول إِلى فعيل. وقالَ الله عزَ وجلّ: ومَا هُوَ على الغَيْبِ بِظَنِين، فيجوز أَن يكون معناه: بمتَّهم. ويجوز أَن يكون معناه: بضعيف، من قول العرب: وَصْلُ فلان ظَنون، أَي ضعيف[46].
وقال الشَّيخ المُظفَّر في كتاب المنطق: "فانَّ المفهوم منه لغةً، حسب تتبع موارد استعماله، هو الاعتقاد في غائب بحدسٍ أو تخمين مِنْ دُونِ مُشَاهَدَةٍ، أو دليلٍ، أو برهان، سواء كان اعتقادًا جازِمًا مُطَابِقًا للواقع، ولكن غير مستند إلى عِلَّتِهِ؛ كالاعتقاد تقليدًا للغير، أو كان اعتقادًا جازمًا غير مطابق للواقع، وهو الجهل المركب، أو كان اعتقادًا غيرَ جازمٍ بمعني ما يُرجَّح فيه أحدُ طَرَفي القضية، النفي أو الإثبات، مع تجويز الطرف الآخر. وهو يساوق الظن بالمعني الأخص باصطلاح المنطقيين المقابل لليقين بالمعني الاعم"[47].
وأمَّا العلم، والكلام في الحصولي منه، فهو الصورة الذهنية المستندة في حصولها إلى علَّة علمية، وليس بالضرورة أن تكون الصورةُ مطابقةً للواقع ما لم تكن عن طريقٍ ينتهي إلى اليقين به، أي بمطابقتها للواقع؛ والوجه فيه أنَّ الطريق ما لم يكن كذلك، فإنَّه لا مفرَّ من وجود هامش، ولو كان ضئيلًا، صِفَتُهُ اللازمة هي التكذيب للصورة العلمية الحاصلة، ولذلك قالوا بأنَّ العلم الحصولي يقبل الخطأ، وهذا لا يسلبه صفته العلم.
موضوع العلم والظن:
للدليل جهتان: أولاهما دليليته وحجَّيته، وثانيهما مؤدَّاه، وممَّا تقدَّم يتَّضح أنَّ موضوع الحرمة في القول أو الفتوى بغير علم هو:
- دليلية وحجية الدليل.
- أدوات الاستدلال بعد ثبوت حجية الدليل.
القطع بالأدلة الأصل، وبأدوات الاستدلال موضوعي، كقطع القاضي بشهادة العدلين؛ فإنَّ اعتبار شهادتهما والأخذ بها واجب مع عدم المُعَارِض. وإن كان المشهود به مخالفًا للواقع فإنَّ القاضي لا يؤاخذ، بل ولا الشاهدين مع الاشتباه العادي.
الأمر هو هو مع كلِّ ما يحتمل أن يكون دليلًا على حكم شرعي أو مسألة عقدية؛ فالمدار هو ثبوت حجيته ليصحَّ الإسْنَادُ إليه فيخرج المُستدِل إلى العلم المستند إلى دليل علمي، ولا يكون قد ارتكب ظنًّا.
إذا اتَّضح لك ذلك، فإنَّ ما يبحثه الأصوليون في أصول الفقه هو دليلية وحجية ما يمكن أن يكون موضوعًا للقطع بكونه دليلًا مرضيًا للشارع المقدَّس، وهو عينُ ما يفعله الأخباريون في استظهاراتهم وأخذهم بالعموم والإطلاق، والجمع بين الأدلة، وغير ذلك ممَّا لا يصحُّ اعتباره ما لم تثبت حجيته، وإلَّا لكان عملًا بالظن المنهي عنه.
المتحصل:
إنَّ الأخباريين والأصوليين، لا أحد منهما يعمل بالظن، أو يقول، أو يفتي بغير علم، إلَّا فردٌ يأتي الكلام عنه في حينه إن شاء الله تعالى.
نعم، يصحُّ النقاش في دليلية وحجية هذا الدليل أو ذاك، وهو أمر حاصلٌ بين الأخباريين في ما بينهم وبين الأصوليين في ما بينهم، ولكنَّه ليس كذلك بين الأصوليين والأخباريين بعد اكتفاء كلِّ فريق بإدانة الآخر وإسقاط حجية أدلته بتهمة ظنِّيتها دون مناقشةٍ موضوعيةٍ مجرَّدةٍ لأصل ثبوت الحجية لها. بل إنَّني أقطع بأنَّ ما بين الفريقين ليس من الخلافات الجوهرية، وإنَّما هو في طريقة عرض الأدلة؛ أمَّا الأصوليون فيعرضون أدلتهم في ضمن تسلسل علمي منهجي تحت عنوان (أصول الفقه)، وليس كذلك الأخباريون، فهم يمارسون قواعد وأدوات الاستدلال، ولكن دون عرضٍ لها تحت عنوان القواعد والأصول، وهذا أمر سوف يتَّضح قريبًا إن شاء الله تعالى.
يتَّضح بذلك أنَّ الظنَّ المنهي عنه منحصرٌ في القياسات الباطلة والاستحسانات وما نحوها ممَّا لا يستند إلى دليل، فتبصَّر رعاك الله.
أمَّا عدم انضباط مدارك المسلك الاجتهادي فروعًا، وقول شيخنا العلَّامة: "وكثيرًا ما يقع التعارض فيها، واضطراب النفس، ورجوع كثير من فحول العلماء عمَّا به أفتى، فلا يصلح أن يجعل مناط أحكامه تعالى".
فأقول:
هي ليست مناط الأحكام، وإنَّما هي مناط الاستدلال، ولا يُقال بأنَّ المحصل واحدٌ؛ فإنَّه قد مرَّ بيانُ أنَّ القطع بالدليل أو الأداة موضوعيٌّ، وما تُؤدِّي إليه تلك الأدلة والأدوات يُقطع بها موضوعيًا، وطالما أنَّ الدليل التفصيلي وأداة الاستنباط ليست من الأدلة المنصوصة تصريحًا فقد يتراجع عنها الفقيه، وأثر ذلك ليس بما يُخلِّ بساحة التشريع، ولذلك نرى عدول أساطين المتقدمين عن فتاواهم، ولك ان تراجع كتبَ شيخ الطائفة الطوسي (نوَّر الله مرقده الشريف).
إنَّ التراجع عن الفتوى معلولٌ لكثرة المراجعة والنظر العلمي في المسألة، وهذا دليل آخر على أنَّ الإفتاء عن علم لا يعني مطابقة الفتوى للواقع ونفس الأمر. بل إنَّ عدم عدول الفقيه عن بعض فتاواه قد يُثيرُ الشكَّ في مراجعاته العلمية، بل قد يُشكُّ في كون ما أفتى به من نتاج نظره الفقهي!
لذا فإنَّ نسبة الرجوع عن الفتوى إلى عدم انضباط مدارك المسلك نسبة غير صحيحة، بل من الواضح المستغني عن إثبات أو استشهاد هو الانضباط البالغ للمسالك الاجتهادية، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا، وإنَّ ضبط الأصوليين لمسالكهم في بحوثهم المُقرَّرة يتيح المجال كاملًا أمام من يريد مناقشتهم فيها؛ فهي مُقرَّرة واضحة وقد أُشبِعَت بحثًا ونقدًا كما لا يخفى، وهو على خلاف مسالك الأخباريين ما عدا المُحدِّث البحراني الشَّيخ يوسف العصفور (طاب رمسه)؛ الذي اختار منهجًا واضحًا شهدت به حدائقه الناضرة، وقبله العالم النحرير الشَّيخ الحر العاملي (عطَّر الله مرقده الشريف)؛ فإنَّه قد بذل جهودًا لا نظير لها ولا شبيه، قاصدًا إثبات القواعد من النصوص الشريفة، ودونك الفصول المهمَّة في أصول الأئمة (عليهم السَّلام) لتقف على ما بذله من جهد عظيم للوصول إلى غايته الشريفة، هذا وبالرغم من موقفه من الأصوليين إلَّا أنَّ مِن شأن ما حاوله أنْ يُفضي إلى ردم الهوَّة بين الفريقين لو اتُّخِذ مادَّةً لاستخراج الأصول وضبطها وتدوينها.
أمَّا بالنسبة لدعوى اختلاف المسالك الاجتهادية باختلاف الأذهان، فأقول:
لا تختلف المسالك الاجتهادية، وإنَّما الاختلاف في فهم وتعيين المدلول، وقد يرجع ذلك إلى اختلاف الأذهان، وهو أمر طبيعي، وقد نراه بوضوح في مثل تسبيحة الجبر التي يرى العلَّامة البحراني (علا برهانه) وجوبها بالرغم من قول مشهور الفقهاء باستحبابها، بل قد يتجاوز القول باستحبابها حدَّ الشهرة.
إنَّ لذهنية الشَّيخ حسين العلَّامة (قدَّس الله روحه الطيبة) حضورها الواضح في فتاواه التي يخالف فيها المشهور، ما قد يكشف عن كونها ذهنية ذات مسلك حادٍّ لا يقبل باعتبار نظر العلماء في مقام الاستنباط، لا لسقوط نظرهم بدليل علمي، وإنَّما لجهة في طبيعة ذهنية شيخنا العلَّامة (طاب رمسه).
أُقرِّب بمثال:
لو أنَّ الفقيه وقف في الأدلة على وجوب أمر ما، ولكنَّه بمراجعة أقوال الفقهاء وجد المشهور بين الأساطين هو القول بالاستحباب، فإنَّه يعتبر قولهم لكونهم ذوي نظر فقهي علمي، ولكنَّه قد لا يتمكَّن من تخطئة نظره، فيحتاط حينها بالوجوب.
أمَّا الذهنية ذات الطبيعة الحادَّة فإنَّها في الغالب تسلك أحدَ مسلكين، فإمَّا أنَّها تُسقط نظرها وتفتي على المشهور، وإمَّا العكس.
إنَّ أصل اختلاف الأذهان أمر طبيعي، وقد وردت في ذلك النصوص الصريحة دالَّة على أنَّ عقول الناس متفاوتة، ومن ذلك ما عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام)، قَالَ: "إِنَّمَا يُدَاقُّ اللَّهُ الْعِبَادَ فِي الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ فِي الدُّنْيَا"[48]، ولذلك اعتنى العلماء بضبط القواعد والمسائل حماية للفقيه من الشذوذ المُسبَّب للذهن وما يعرض عليه.
أمَّا في ما يخصُّ دعوى أنَّ الاستنباطات ظنِّيةٌ ومضطربة، وما هذا حاله لا يصلح ليكون أساسًا للشريعة السمحاء السهل، فأقول:
لا يكون الاستنباط ظنيًا، بل هو علمٌ مقطوع بعد ثبوت حجية الدليل أو الأداة، وقد مرَّ الكلام في ذلك.
أمَّا سهولة وسماحة الشريعة فهذا لا يعني سهولة فهم الأدلة وإتاحتها لكلِّ أحد، بل ممَّا وقع بلاءً على الطائفة لا سيما في عصرنا تجرُّؤ بعض الشباب على كتب الحديث والاكتفاء بالجمع وتتبع الكلمات في الروايات الشريفة طلبًا لمعناها المقصود، فظنُّوا أنفسهم علماء فقهاء وصَمُّوا آذانهم عن كلِّ ناصح ومرشد، بعد أن ضُلِّلوا، عن قصد أو عن غير قصد، بعدم حاجة الفقيه لا للغة، ولا لمنطق، ولا لأصول، ولا لأيٍّ من العلوم.. ولا يطلب منه أكثر من تتبع النصوص الشريفة والتعلم منها!
إنَّ مثل هذه المسالك هي في الواقع تمحُّضٌ في الظنِّ وغَرَقٌ حدَّ الطمِّ في الجهل المركب.
أمَّا في ما يخصُّ عدم جواز اختلاف الفتاوى من غير ضرورة التقية، فأقول:
إنَّ عدمَ الجوازِ خاصٌّ بقول الإمام المعصوم (عليه السَّلام)، وهو كذا في عالم الواقع ونفس الأمر، أمَّا في الاستدلال فلا يتمكَّن أحدٌ من ادِّعائه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ الاختلاف في موارد التقية اختلاف مقصود، أمَّا في ما نحن فيه فبحسب الدليل الذي ثبتت له الحجية، لذا فإنَّ حصر الاختلاف في موارد التقية وقياس اختلاف الفقهاء عليه أمر لا نترقبه من شيخنا العلَّامة (طاب رمسه).
وربَّما تحسنُ الإشارة إلى أنَّ نفس مناقشة الشَّيخ حسين العلَّامة (علا برهانه) للأصوليين كاشفةٌ عن رجوع النتائج المقرَّرة إلى أفهام الفقهاء؛ حيث إنَّ هناك من يرى مقالة شيخنا العلَّامة (قُدِّس سرُّه) بعيدة عن مبادئ ومطالب الأصوليين، هذا والأذهان وإن كانت ليست متساوية، إلَّا أنَّ الاختلاف في ما تنتهي إليه طبيعي بحسب الحالة البشرية المعروفة. أمَّا حمل العلَّامة على الأصوليين وحمل بعض الأصوليين على الأخباريين فمرجعه هو التأثُّر الذي انتقده الشَّيخ العلَّامة، ولكنَّه هنا ليس تأثر بأهل الخلاف، وإنَّما بالفرز والتصنيف التحزيبيين والتحزبيين، وهو ما سوف نبينه قريبًا إن شاء الله تعالى.
وإن قيل: للسلامة من نتائج الاختلاف في الفتاوى الشرعية فلا طريق غير الالتزام بما ورد في النصوص الشريفة تاركين القواعد والأدوات الاجتهادية الأصولية.
قلنا: فلنرجع إلى أوَّل الكلام ونتم بالتالي، فتنبَّه:
تحرير مفهوم العلم:
إنَّ للتغاير بين العلوم جهات يبحثها العلماء بناءً على أنَّ لكلِّ علم مسائله الخاصَّة التي تشترك موضوعاتها في وحدة تُسمَّى موضوع العلم، وبذلك كان موضوع العلم هو الذي ترجع موضوعات مسائله إليه، فقال بعضٌ بأنَّ التمايز بين العلوم بالموضوعات، وقال آخرون بانَّه بالغايات والأغراض، وقال غيرهم بغير ذلك[49]. فمثلًا؛ إذا قيل اليوم (علم الفلسفة) فالمعنى عند السامع هو مجموعة من المسائل تخصُّ عِلْمًا يُسَمَّى (فلسفة)، وهذا معنى حاصل ولو على نحو الإجمال عند غير المطلع.
يرجع هذا التبادر إلى واقع التمايز بين العلوم بتدوينها، سواء قيل بأنَّا التمايز بالموضوعات أو بالغايات أو بغير ذلك؛ فإنَّ التلميذ في المدرسة يمايز بين العلوم التي يدرسها بمجرَّد ثبوت العنونة الخاصَّة لكلِّ علم، فهو يعرف بأنَّ اللغة العربية كعلم ليست جغرافيا، والجغرافيا كعلم ليس كيمياء، وهكذا..
قبل تدوين العلوم وجمع مسائلها كانت المسائل، بطبيعة الحال، موجودة في الخارج، وإن دوَّن الطبيب مسائل الطب فعمله جمعٌ للمسائل وليس تدوين للعلم على وفق الموازين والقواعد العلمية في التدوين، كما وأنَّ جَمْعَ العَالِمِ لِمَسَائِلِ العلم يكون في العادة لبيان طريقته العلمية وفهمه للمسائل[50].
إذا اتَّضح ذلك فإنَّه على مَدَى التاريخ البشري كان هناك مهندسون وأطباء وفلاسفة وأصوليون وفيزيائيون، كلٌّ بحسب ما يتقن من مسائل العلم، ولكن بعد تدوين العلوم ضُبِطَ البُعد التخصُّصي بعد أن مُنِعت الصفة العلمية عن متعاطي العلم ما لم يدرس ويتقن المسائل المدونة تدوينًا علميًا على وفق القواعد والموازين التي تخضع اليوم لسلطة اليد الأكاديمية.
أقول: لو أنَّهم لم يُدَوِّنُوا عِلمَ (أصول الفقه) لما نشأت الحزازة التي نراها ونعيش واقعها بين الأخباريين والأصوليين، والحال أنَّ كلَّ من يحمل على أصول الفقه يمارس ما ثبت عنده من مسائله دون إشارة إلى كونها من أصول الفقه؛ والنكتة في ذلك أنَّ المسائل العِلمِيَّة ليست مُخْتَرَعَة مِنْ غير واقع الإنسان وحياته وبيئته. نعم، يصحُّ رفض ومنع مسألة أو أداة من أن تكون تحت عنوان العلم، كما لو رفض الطبُّ العلاجَ بالكي -مثلًا-، فإنَّ القائل به قد يبقى مقتنعًا بكونه علاجًا (طبِّيًا) ناجعًا، إلَّا أنَّ قناعته لن تغير من واقع رفض (علم الطب) له لسبب علمي معيَّن. وكذا فإنَّ القول في أصول الفقه -مثلًا- بثبوت المفهوم لجملة الشرط لا يمنع من أن يُدَّعى رفضه لظنيته غير المعتبرة، فيُناقش في هذا السبب نقاشًا علميًا موضوعيًا، لا أن يُرفَض كلُّ العلم؛ فهذا فعل غريب لا يمكن فهمه، وقد أسلفنا أنَّ مسائل كل علم موجودة وكلٌّ منَّا يعلم شيئًا منها ويمارسها بشكل طبيعي، فهل تَحرُمُ وتُحَارَبُ لانْتظَامِها في عِلْمٍ مُدَوَّن؟!
إذا وعيتَ ذلك فإنَّك بصير إذن بمرجع ذمِّ أئمة الهدى (عليهم السَّلام) لبعض العلوم مثل الفلسفة والكلام، كما في قول الإمام الصادق (عليه السَّلام): "فَتَبًّا وخَيبَةً وتَعْسًا لِمُنْتَحلي الفلسفة؛ كيف عَميَتْ قُلوبُهُم عَنْ هَذِهِ الخلقة العجيبة حتَّى أنْكَرُوا التَّدبيرَ والعمد فيها؟"[51]. وفي حديث الإمام العسكري (عليه السَّلام) عند ذمِّه لبعض الأزمنة، قال: "عُلَمَاؤهُم شِرَارُ خَلْقِ اللهِ على وَجهِ الأرض، لأنَّهُم يَميلُونَ إلى الفَلْسَفَةِ والتَّصَوفِ"[52]. فإنَّه لا يُعقلُ الذمُّ للمسائل لدخولها تحت العنوان اللفظي للفلسفة؛ وإنَّما الحقُّ هو ذمُّ كلِّ مسألةٍ يُحكَّمُ فيها التحليل الفلسفي العقلي على النصِّ بما يُعارِّضُ أصول الدين عقيدة وفقهًا بالمعنى الأعمِّ، كما لو انتهى النظر إلى القول بأنَّ الله تعالى (روحٌ) تعالى سبحانه عمَّا يصفون، أو إلى القول بأنَّ الحياة الآخرة حياة معنوية سواء في الجنَّة أو في النار، وأنَّ الحشر للأرواح لا للأجساد؛ بناء على مسألة التجرُّد الكلِّي في أُولَى وفي آخر النَّشَئات، فمثل هذه المسائل (الفلسفية) مَرفُوضَةٌ ولا مجال للنقاش في إمكان قبولها؛ وذلك لمعارضتها بصريح النصوص الواردة في الثقلين، الكتاب والحديث الشريف. والحكم هو هو في كلِّ مورد يُستغنى فيه عن الثقلين ويُقدَّمُ غيرُهما عليهما.
أمَّا في مثلِ أنَّ الواحد لا يصدر عنه إلَّا واحد، فهذه مسألة فلسفية أيضًا، ولكن يُمكِنُ مُنَاقَشَتُها والنظرُ، إن صحَّتْ، في حدود سلطتها، وكذا في مثلِ قانون العليَّة، وبطلان التسلسل، وغير ذلك من المسائل الفلسفية التي تصل اليوم إلى أكثر من 1200 مسألة.
الوجه في ذلك انَّ الله تبارك ذكرُه خلق قوانين كبرى وقوانين تفصيلية يقوم عليها هذا الخلق العظيم، وهي ممَّا يُفكِّر فيها الإنسان من واقع جبِلَّته التي جبله اللهُ تعالى عليها. أمَّا النظر الفلسفي فيبذل جهده فيها للكشف عنها، ولكنَّ المحذور فيما لو استقلَّ في نظره عن النصوص الشريفة، والحال أنَّ الإنسانَ، عالِمًا كان، أو مُتَخَصِّصًا، أو ذا نظر وفكر، فإنَّ الضرورة الدينية قاضية بأنْ ينضبط دائمًا بالثقلين، الكتاب والعِترة للسلامة مِنَ الزلل والانحراف.
إن قيل: ولِمَ لا ينطلق من النصوص الشريفة مقتصرًا عليها في نظره وفهمه وبنائه الفكري والسلوكي؛ فيكفي نفسه شرَّ الوقوع في مثل هذه المحذورات الخطيرة؟
قُلنا: لا يمكن للنصِّ أن يستوعب تمام المعنى الدال عليه إلَّا عند الدلالة التصوريِّة، أمَّا عند التصديقيتين الأولى والثانية فهناك ما يعتمد عليه المُتحدِّث ويدخل في تشكيل مراده الجدِّي، وهي قضايا لُبِّية لو أراد التعبير عنها باللفظ لاحتاج إلى صفحات من أجل الوفاء بحق مُرَادٍ واحِد!
لا شكَّ ولا شبهة، بل لا تردُّد على الإطلاق في القطع بضيق النصوص عن مرادات صاحبها مهما بلغت من بلاغة وفصاحة وقوَّة بيان، بل نفس البلاغة والفصاحة وقوَّة البيان هي التي يُعوَّل عليها في استنهاض الفكر لجمع القرائن اللبيَّة لتُضم إلى النصِّ فتظهر صورة المراد كاملة تامَّة.
مثال:
عندما يضعف المكلَّف عن الصَّلاة من قيام فإنَّه يتردَّد بين سقوط الفرض أو لا، ولا يرتفع التردُّد إلَّا بنصٍّ يبين وظيفته في مثل هذا الظرف.
أمَّا مثل الروايات الدالة على الفضل العظيم في زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السَّلام)، فليس من العقل التعامل معها دون النظر في المِلاكات الأخرى التي ترجع إليها وظائف المُكلَّف ويكون لها دخلٌ في موازين تفكيره عند النظر في قرار الزيارة.
تنظر النصوص الشريفة إلى بيان فضل الزيارة، أمَّا بيانات التعليق على إمكان الإتيان بالزيارة أو على عدم وجود مزاحم أهم منها، وأنَّ هذه الأهمية للمُزاحم ليست بالمقارنة إلى فضل الزيارة وإنَّما لنفس الظرف وحيثياته.. فهذه وغيرها من لُبِّيات يعتمد فيها المتحدِّث لبيان جهات وحيثيات مراده الجدِّي على تَعَقُّلَات المُكلَّف، وإلَّا لاحتاج صاحب البيان إلى صفحات وكتب لبيان كلِّ الجهات لفظًا، زيادة على أنَّ حصر المقاصد في النصوص اللفظية مخالِفٌ لأصول المحاورة والتخاطب.
مِثال آخر:
قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)[53].
هنا فروض، منها: هل يتعدَّى عدم رضاهم ليشمل كل مخالف لهم؟ أو أنَّه خاصٌّ لكون النبي (صلَّى الله عليه وآله) نبيًّا يدعو لدين ثالث؟
ومنها: هل عدم رضاهم لخصوصية في يهوديتهم ونصرانيتهم، أم لِسِمَةٍ لازِمَةٍ لِمَنْ يكون على عقيدة، أو فكرة ككون اليهود والنصارى على يهوديتهم ونصرانيتهم؟
بالإجابة على مثل هذه التساؤلات تُنتزع من الآية الكريمة قواعد كُلِّية تدخل في علوم قائمة، مثل علم النفس وعلم الاجتماع، والسياسة، والتربية..
مِن مناشئ مثل هذا الإعمال للنظر التطلع لفهم تمام مراد المتكلم بالبحث في ما لا يسعه المقام اللفظي، بل لو حاول بيان تمام المراد باللفظ لخالف أصول المحاورة ولبان متكلِّفًا.
خصوصية المسائل الشرعية:
لا بدَّ من التنبيه على أنَّ اعتماد المسائل اللبية ليس فتحًا لباب الاستحسان ولا هو تسويغ للظن وإعطائه صبغة شرعية، بل إنَّ فقهاء الطائفة بالغوا في الاهتمامِ وبذلِ الجُهود العلمية لضبط النظر في المسائل اللبية، وهو ما نراه بوضوح في مثل بحوث الترتب والتزاحم ومقدمة الواجب، والأصالات مثل أصالة عدم التقدير، والتزام القدر المتيقن، وما إلى ذلك ممَّا يُبحث استغناؤه عن النصِّ عليه لفظًا؛ اعتمادًا على كونه من القوانين التكوينية التي خلقها الله تعالى لتسير عليها حياة الإنسان صحيحة في مختلف جهاتها النفسية والفكرية والاجتماعية والتربوية، غير ذلك.
أقول قاطعًا وباطمئنان: لم يتخلَّف الأخباريون عن اعتماد المسائل اللُبية واعتبارها في فهم الأدلة والإفتاء، غير إنَّهم لم يُفردوا لها بحوثًا خاصَّة كما فعل الأصوليون، وهذا ما أشرنا إليه. فلا تغفل.
الإفراط:
إنَّنا لا نجد مشكلة بين الأصوليين وبين شيخنا المُحدِّث صاحب الحدائق الشَّيخ يوسف العصفور (عطَّر الله مرقده الشريف)؛ وذلك لأنَّه تعامل مع الآراء الأخرى تعاملًا علميًا رائقًا؛ فناقش وقبل ما قبل وردَّ ما رد، فلم يرفض الجمل بما حمل، وإنَّما حفظ منهجه العلمي في كتب متينة مستوعبة للمطالب بقلم منصف التزم النمرقة الوسطى.
غير إنَّ من التزم حدود النص بصرامة واعتبر غير ذلك خروجًا عن الدين وابتداعًا في شريعة سيد المُرسلين (صلَّى الله عليه وآله) فإنَّه لم يجدَّ لنفسه طريقًا غير اعتزال المؤمنين في غير الأمور العادية؛ ويرجع ذلك إلى فقدانه لغة التفاهم الطبيعية مع الآخرين، بل ولغة الحياة الطبيعية، ما اضطره إلى التراجع في جماعات مغلقة مُوهِمًا نفسه بأنَّ ذلك ضريبة للتدين والتزام الثقلين، الكتاب والعترة!
ليس شيخنا العلَّامة (نوَّر الله مرقده الشريف) من هؤلاء، وهذا ما تشهد به سيرته الشريفة، ودونك الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرايع لتقف في استدلالاته على نظره الناشئ عن ذهنية تحليلية خاصَّة. وإن أردتَ البادية السهلة فخذ طريقة جمع الأدلة الحديثية وسطرها متتالية لوحدةٍ في الموضُوع يَرَاهَا الفقيه، فإنَّ نفس الجمع بهذا الشكل لم يرد فيه دليل خاص، كما وأنَّ الوحدة الموضوعية إنَّما هي باجتهاد الفقيه ونظره، فهل نقول بتخطئته لعمله دون دليل؟ أو نقول بأنَّ هذا لقاعدةٍ يراها؟
لا شكَّ في أنَّها قاعدة علمية مُتَعَقَّلة وموافقة لبعض مبادئ البحث العلمي. هذه واحدة سهلة، وإلَّا فنفس البحوث في الأنوار اللوامع وغيره لا يمكن لها القيام ما لم تستند على اجتهاد الباحث وجهده في إعمال المسائل التي نصطلح عليها باللبية في قبال النصوص اللفظية.
وفي الجانب الآخر فإنَّ المُغرِق في أصول الفقه لا يرى الحياة خارج قوانينه وضبط مسائله، وهو أيضًا يعجز عن الأخذ، في بعض المقامات والكثير من الموارد، بتلك المسائل اللبية وما منها من قرائن ومُفسِّرات، فيجمد على القاعدة الأصولية وحدود تطبيقها على النص!
هذا أيضًا يضطر لاعتزال الحياة والانزواء مكتفيًا باتهام الناس بالتخلف وضعف الفهم والوعي؛ والحال أنَّ العيب فيه بعد أن أفقد نفسه لغة الفهم والحوار الطبيعية.
مشكلة التصنيف التحزيبي والتحزُّبي:
إذا كان هناك ما ينغي رفضه والتحذير الشديد منه فهو تصنيف الشيعة الإمامية المؤمنين وتحزيبهم في تيارات وما نحوها؛ فإنَّه ليس بخاف على ذي مسكة من عقل ما للتسميات التحزيبية من آثار تمزيقية تنوء بحمل بشاعتها الجبال. وليُلتفت إلى أنَّ كلامي في خصوص المؤمنين من الشيعة الإمامية. فافهم.
جاءت النصوص في الكتاب العزيز وأحاديث العترة الطاهرة بتسمياتٍ لبعض الفِرَق لتمييزها عن الشيعة فلا يختلط أهل الباطل بأهل الحق، ومن هنا نقف على خطورة التسميات وخطر التصنيفات.
مِنَ البِدَع العظيمة التي أثقلت الأمَّة وأخسرتها فوائد جليلة بِدعة تصنيف العلماء إلى أصولية وأخبارية، وإنَّني لأعضُّ على يدي تأسُّفًا لمرور هذا التصنيف على أكابرنا وأولي العلم منَّا.
إنَّ للتصنيف قوَّةً رادعةً ضدَّ أي محاولة خيِّرة تقصد نفيه وتسعى لكشف زيفه؛ والسرُّ في ذلك أنَّ نفس التصنيف يتحول إلى هويَّة يُعرف بها المُصنَّف وينتمي إليها فيرفض المساس بها، وإلَّا فقد بُذِلَت بعض الجهود العلمية الناضجة والحكيمة لكشف زيف التصنيفات البدعية، ولكنَّها، ويا للأسف، خُنِقَتْ بتغوُّل المسميات.. ولله درُّ سماحة الفقيه السَّيد محمَّد سعيد الحكيم (دامت بركات وجوده الشريف)، فقد تحدَّث حول واقع تسميتي الأخبارية والأصولية[54] بما كشف زيف التسميات بلسان سهل وقلبٍ تنيره الحكمة، ولكن، للأسف، هناك من لا يجد نفسه خارج تلك التصنيفات والمسالك الحادَّة فرمى كلام السَّيد بالسذاجة والتسطيح، والحال أنَّ سذاجته هو وعُقده النفسية منعته من استيعاب العمق المقصود في كلام السَّيد الحكيم.
تُصرُّ هذه الفئة، سواء من الأخباريين أو من الأصوليين، على أنَّ الاختلافَ بين هذين المُسمَّيين اختلافٌ عظيمٌ وفي أصول كثيرة، وهو على استعداد تام لجمع الفتات وتسطير الشتات، ثُمَّ تضخيمه وتعظيمه لِيُسَوِّد بِه صفحات وصفحات لإثبات مدَّعاه! ومثل هؤلاء يصعب الحديث معهم وتتعقد مناقشتهم؛ فهم لا يثبتون على مبدأ للمناقشة ولا يفهمون معنى الموضوعية في البحث.
إنَّني عندما أستعمل هذين المصطلحين الكئيبين فلا لاختيار أرضاه، ولكن لواقع أتعاطاه مُكرَهًا. ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.
انتقادٌ مختصر:
لم أكن لأتمنى أن يسلك شيخُنا العلَّامةُ (علا برهانه) مسلك المصادرة، فهو (رضوان الله تعالى عليه) في جوابه على سؤال السائل حكم من السطر الأوَّل بضلال الأصوليين وتأثرهم بمسالك المخالفين، وحصر الكلام في سرد تاريخي ليبين الكيفية التي وقع فيها العلَّامةُ الحليُّ (رضوان الله تعالى عليه) ومن جاء بعده فسقطوا في شِراك التأثُّر بالعامَّة والأخذ بما دونوه في كتبهم. ثُمَّ من بعد ذلك ساق النصوص الكثيرة مُلبسًا الأصوليين من خلالها الأحكام المُسبقة التي صيغ الجواب على أساسها!
إنَّ لهذه المسلك في الكتابة آثارَ تعطيلٍ لتعقلات ونظر القارئ ما لم يكن من أهل النقد والتدقيق. هذا ولو أنَّنا نقف مع النصوص التي أوردها (طيب الله نفسه الزكية) في مقام الاستدلال لأخرجنا سوادها الأعظم لأجنبيته عن دعوى الكلام، ولكنَّ مقام مقالتنا ليس مقام مغالبة ومجادلة، بل وأين ثرى كاتب هذه السطور من ثريا فقيهنا العلَّامة الشيخ حسين آل عصفور (عطَّر الله مرقده الشريف)؟
كلمة الختام:
للشيعة خصوصيَّة إيمانية عظيمة، ولفقهائهم أخرى، وهم جميعهم تحت نظر إمام زماننا (عجَّل اللهمَّ فرجه الشريف).
إنَّ الاختلافات بين الشيعة طبيعيةٌ دائمًا، وما أن تخرج إلى التضليل والتشنيع علِمنا بأنَّ ذلك راجعٌ إلى ضيق الصدور وعدم القدرة على مغالبة النفس.. فهي بما كسبت الأيدي في لحظاتِ غفلةٍ وتغييبٍ لِنُور الحِكْمَةِ والإنصاف.
بطبيعة الحال فإنَّ من يقع في مخالفة الضرورات ليس مشمولًا في كلامي، لا سيَّما من يعاند ويصرُّ على هتك المذهب وإضعاف أُسُسِهِ.
إنَّ السَّلامةَ وراحة الضمير في الخروج عن ضيق الزوايا وحرج ردود الأفعال الضيقة، إلى رحابة الموضوعية والنظر بعين الإنصاف والحكمة.
نسأل الله تعالى الفهم والعلم والحكمة، والتوفيق لرشده وسداداه ورضاه، بمحمَّد وآله الطيبين الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
12 من ذي الحجَّة 1442 للهجرة
البحرين المحروسة
.......................................
[1] - ص 25 من الكتاب المذكور.
[2] - ص 24 من الكتاب المذكور.
[3] - الآية 47 من سورة المائدة
[4] - الآية 45 من سورة المائدة
[5] - الآية 44 من سورة المائدة
[6] - الآية 169 من سورة الأعراف
[7] - الآية 59 من سورة يونس
[8] - الآية 116 من سورة النحل
[9] - الآية 24 من سورة الجاثية
[10] - الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 506 - 507
[11] - الخصال - الشيخ الصدوق - ص 52
[12] - الخصال - الشيخ الصدوق - ص 52
[13] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 265
[14] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 8 - ص 88
[15] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 377
[16] - عيون أخبار الرضا ( ع ) - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 272
[17] - الخصال - الشيخ الصدوق - ص 139
[18] - بصائر الدرجات - محمد بن الحسن بن فروخ (الصفار) - ص 531
[19] - بصائر الدرجات - محمد بن الحسن بن فروخ (الصفار) - ص 545
[20] - روضة الواعظين - الفتال النيسابوري - ص 21 - 22
[21] - وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 - ص 132 - 133
[22] - تفسير نور الثقلين - الشيخ الحويزي - ج 4 - ص 70
[23] - المُحقِّق (مؤسَّسة آل البيت عليهم السَّلام لإحياء التراث: في المصدر: أحلوا حراما فاخذوا به وحرموا حلالا.
[24] - وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 27 - ص 134
[25] - تفسير العياشي - محمد بن مسعود العياشي - ج 2 - ص 87
[26] - نهج البلاغة - خطب الإمام علي (عليه السَّلام) - ج 2 - ص 43 - 44
[27] - نهج البلاغة - خطب الإمام علي (عليه السَّلام) - ج 2 - ص 95
[28] - وسائل الشيعة (الإسلامية) - الحر العاملي - ج 18 - ص 98
[29] - وسائل الشيعة (الإسلامية) - الحر العاملي - ج 18 - ص 52
[30] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 53
[31] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 397 - 398
[32] - من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 3 - ص 4 - 5
[33] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 298
[34] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 299
[35] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 7 - ص 407
[36] - المصدر السابق ص 408
[37] - المصدر السابق
[38] - المصدر السابق ص 409
[39] - المصدر السابق
[40] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 56
[41] - ص 69
[42] - ص 75
[43] - المنطق (طبعة جماعة المدرسين)، الشَّيخ المظفَّر، ج1 ص18
[44] - المصدر السابق
[45] - المعجم الأصولي، الشَّيخ محمَّد صنقور، ج2 ص283
[46] - راجع: الأضداد-أبو بكر، محمد بن القاسم بن محمد الأنباري
[47] - المنطق، الشَّيخ محمَّد رضا المظفَّر، طبعة جماعة المدرسين، ج1 ص339
[48] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 11
[49] - راجع: الرافد في علم الأصول، بحث السَّيد السيستاني بقلم السَّيد منير الخبَّاز، ص110 - 114
[50] - راجع: نشأة العلوم الإسلامية وبداية عصر التدوين، الدكتور محمَّد فاروق النبهان، ورقة علمية أُلقيت في مقر الأكاديمية الملكية المغربية – 11 حزيران 2015 للميلاد
[51] - التوحيد - المفضل بن عمر الجعفي - ص 30 - 31
[52] - مستدرك الوسائل - ميرزا حسين النوري الطبرسي - ج 11 - ص 380
[53] - الآية 120 من سورة البقرة
[54] - الأصولية والأخبارية بين الأسماء والواقع https://www.alhakeem.com/ar/book/98