بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
تعرَّض سماحة العلَّامة الفاضل الشَّيخ علي بن عبد النبي المخلوق (دامت بركاته) لمسألة (مسافة التقصير) بالبحث والنظر مستعرضًا الروايات الشريفة الواردة في الباب، وانتهى إلى نتيجتين:
الأولى: أنَّ الأصل في وجوب التقصير هو الحد الزماني، ومقداره (بياض يوم)، لا المكاني المُقدَّر بثمانية فراسخ.
الثانية: تدور مسافة التقصير مدار الوسيلة الأكثر شيوعًا في كلِّ زمان.
وَجَدَ الفاضل المخلوق (أدامه الله تعالى عالِمًا عَلَمًا) أنَّ الروايات في الباب على طائفتين:
الطائفة الأولى: "وهي التي تتحدَّث عن مقدار ما يقصر فيه من ناحية الزمان"، وسرد خمس روايات نذكرُ منها واحدةً مثالًا:
عن سماعة، قال: سألتُه عن المسافر في كم يقصر الصلاة؟
فقال: في مسيرة يوم، وذلك بريدان، وهما ثمانية فراسخ"[1].
الطائفة الثانية: "وهي التي تتحدَّث عن مقدار ما يقصر فيه من ناحية المكان"، وسرد خمس روايات نذكرُ منها واحدةً مثالًا:
عن الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السَّلام) في كتابه إلى المأمون، قال: "والتقصير في ثمانية فراسخ وما زاد، وإذا قَصَّرْتَ أفْطَرْتَ"[2].
ثُمَّ إنَّه (دامت إفاضاته) علَّل كون الأصل في وجوب التقصير هو الحدِّ الزماني لا المكاني بقوله: "وذلك لأنَّ الحدَّ الزماني ثابتٌ لا يقبل التغيير وإن اختلفت الوسيلة المستخدمة في السفر سرعةً وبطأً" جاعلًا الأصل في المقام رواية عبد الرحمن بن الحجَّاج عن الإمام الصادق (عليه السَّلام) في جوابه على سؤال عن أدنى ما يقصر فيه الصلاة. فقال (عليه السَّلام): "جرت السنَّة ببياض يوم"، فقال للإمام (عليه السَّلام): إنَّ بياض يوم يختلف، يسير الرجل خمسة عشر فرسخًا في يوم، ويسير الآخر أربعة فراسخ وخمسة في يوم[3].
مقام المناقشة:
يقعُ أوَّلُ الكلامِ في المُحقِّق للقصر، والفروض فيه بما يُناسب الروايات الشريفة ثلاثة:
- أن يقطع المُكلَّفُ مسافةً مُحدَّدة دون نظر إلى الوقت المُستغرق في قطعها.
- أن يمضي زمانٌ مُحَدَّدٌ على المُكلَّف مع صدقِ السفر عليه.
- أن يمضي زمانٌ مُحدَّدٌ على المُكلَّف بشرط حركته في قطع المسافات المكانية؛ أي أن يبقى ماشيًا أو راكبًا في جملة زمان مُحَدَّد.
يظهر أنَّ لازم النتيجة التي انتهى إليها الفاضل المخلوق (دامت بركاتُه) هو أن يكون النظر في المقام إلى حركة الزمن على الفرضين الثاني والثالث، فإمَّا:
أوَّلًا: أن يصدق عليه عنوان السفر.
ثانيًا: أن يقصر بمضي الزمان المُحدَّد شرعًا.
أو أن يمضي عليه الزمان المُحدَّد شرعًا بشرط حركته القاطعة للمسافة ولو في الجملة.
لم يتعرَّض سماحة الشَّيخ المخلوق (حفظه الله تعالى) لبحث هذه المسألة بالرغم من كونها مبدأً تصديقيًّا في البحث.
تنقيح:
عبَّرت الروايات الشريفة في مقام الجواب عن أدنى ما يقصر فيه للصلاة بـ: في مسيرة يوم، وببياض يوم، وفي بياض يوم، وما شابه.
لا يظهر من مثل هذه التعبيرات ما يستدل به على تعيُّن أحد الفرضين الأخيرين؛ بل لا دلالة على تكليف مَن صَدَقَ عليه السفَرُ عُرفًا وأقَامَ إلى أن مَرَّ بياض يومه، والحال أنَّ هذا الفرض مِمَّا يُترَقَّبُ بيان حكمه. فتأمَّل.
ثُمَّ إنَّ موضوع المسألة هو (المَسير عن الوطن أو عن مكان الإقامة الشرعية) بما يُحقِّق السفر الشرعي، وإن لم يره العُرفُ سفرًا؛ وإنَّما ذكرنا هذا التفريق بيانًا لوجه عدم الصحة في قول الفاضل المخلوق (دامت بركاته) في أواخر بحثه: "ومنه يظهر أنَّه ليس في بلدنا هذا الصغير[4] مسافة تقصر فيها الصلاة والصوم، بل العرف لا يُسمِّي من خرجَ من (رأس البرِّ) مثلًا قاصدًا (المُحرَّق) مسافرًا".
مناقشة استدلال سماحة الشَّيخ المخلوق (سلَّمه الله تعالى في الدارين):
بدا للنظر القاصر أنَّ مبدأ البحث عند الفاضل المخلوق (أدامه الله تعالى مُؤيَّدًا عزيزًا) هو وضوح دلالة (بياض اليوم) في كونه المُحدِّد للمسافة، فيكون الاعتبار الشرعي للثمانية فراسخ، والبريدين مُعلَّقًا على وقوعها في (بياض اليوم)، وإلَّا فلا اعتبار لها. وإلَّا فما هو الوجه في ذكر المعصوم (عليه السَّلام) للحدود الزمانية؟
وبذلك يدور الأمر بين الاعتبار الشرعي لبياض اليوم أو مسيرته مناطًا في وجوب التقصير، وإلَّا فالقول بلغوية ذكرها في النصوص الشريفة.
قال (دامت بركاته) في ما اتضح له من رواية عبد الرحمن بن الحجَّاج، ورواية الفضل بن شاذان، ورواية عبد الله بن يحيى الكاهلي:
- "أنَّ المناط في وجوب التقصير بياض يوم أو مسيرته".
- "أنَّه إنَّما وجب التقصير في بياض يوم أو مسيرته، لأنَّه (سير العامَّة والقوافل)".
- "أنَّ تقدير بياض يوم بثمانية فراسخ، أو أربعة وعشرين ميلًا، أو بريدين، إنَّما هو لأجل أنَّ (الغالب على المسير) أو (سير العامَّة) الذي هو سير القوافل وهو ثمانية فراسخ".
وبناء على ذلك فإنَّ قَاطِعَينِ لنفس المسافة قد يكون تكليف أحدهما القصر فيما لو قطعها ماشيًا في بياض يوم، وتكليف الآخر التمام فيما لو قطعها في ساعة.
أقول:
لا معنى لذكر أي تحديدات للمسافة؛ بعد كون (بياض اليوم) هو المناط في وجوب التقصير، بل ذكرها، على هذا الفرض، محض حشوٍ لا يُبَرَّر!
وإن قيل: في المقابل فإنَّه لا معنى لذكر أي تحديدات زمانية، بعد القول بكون (الثمانية فراسخ) هي المناط في وجوب التقصير.
فإنَّا نقول: ليس (بياض اليوم أو مسيره) مُحَدِّدًا زمانيًّا؛ ولكنَّه أمارة على تحقُّق البريدين، أو الفراسخ الثمانية فيما لو كان المسير سير العامَّة مُتواصِلًا، وهو مقتضى الحمل على الضرب في الأرض (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاةِ).
ثُمَّ إنَّ (السَّفَرَ) هو الانكشاف والجلاء عن المكان بقطع المسافة. قال ابنُ فارس: "السين والفاء والراء أصل واحد يدل على الانكشاف والجلاء، من ذلك السَّفَر، سمي بذلك لأن الناس ينكشفون عن أماكنهم"، وقال ابنُ منظور: "والسَّفَرُ قطع المسافة والجمع الأسفار وهو خلاف الحضر".
فلو قلنا ببياض اليوم مُحَدِّدًا للقصر، فإنَّ من ينكشف عن وطنه ويصل إلى بلد يبعد عنه آلاف الأميال في وقت دون بياض اليوم كان مسافرًا لغةً وعُرفًا، ولا تجري عليه أحكام المسافر في الصلاة والصوم. فيما لو تغيرت معايير التقدم العلمي البشري فصار التباطؤ هو المعيار، فلربَّما مضى بياض اليوم دون قطعه حتَّى للفراسخ الثمانية؛ وإنَّما فرضتُ فرضًا بعيدًا لغرض بيان عدم انضباط المسألة مع اعتبار المُحدِّد الزماني.
الكلام في الروايات التي اعتمدها الفاضل المخلوق (دامت إفاضاته):
الرواية الأولى: عن عبد الرحمن بن الحجَّاج، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: سألتُه عن التقصير في الصلاة فقلتُ له: إنَّ لي ضيعة قريبة من الكوفة وهي بمنزلة القادسية من الكوفة، فرُبَّما عرضت لي الحاجة انتفع بها أو يضرني القعود عنها في رمضان فأكره الخروج إليها لأني لا أدري أصوم أو أفطر؟
فقال لي: فاخرج وأتم الصلاة وصم فانِّي قد رأيتُ القادسية.
فقلتُ له: في كم أدنى ما تقصر فيه الصلاة؟
قال: جرت السُنَّة ببياض يوم.
فقلتُ له: إنَّ بياض يوم يختلف؛ فيسير الرجل خمسة عشر فرسخًا في يوم، ويسير الآخر أربعة فراسخ وخمسة فراسخ في يوم؟
فقال: إنَّه ليس إلى ذلك يُنظر؛ أما رأيت سير هذه الأميال بين مكة والمدينة؟ ثُمَّ أومئ بيده أربعة وعشرين ميلا تكون ثمانية فراسخ"[5].
الظاهر أنَّ إيماء الإمام (عليه السَّلام) لصرف السائل عن توهمِ التحديد ببياض اليوم، وتعيينه أمارة على الفراسخ الثمانية، فيكون جريان السُنَّة ببياض يومٍ لكونه الظرف الغالب الذي يقع فيه مسير العامَّة.
الرواية الثانية: الفضل بن شاذان النيسابوري (رحمه الله) في العلل التي سمعها من الرضا (عليه السَّلام)، قال: "وإنَّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر، لأنَّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامَّة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم، ولو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة؛ وذلك لأنَّ كلَّ يوم يكون بعد هذا اليوم فإنَّما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره؛ إذ كان نظيره مثله لا فرق بينهما"[6].
وقال في الوسائل: ورواه في (العِلَل وعيون الأخبار)، وزاد: "وقد يختلف المسير، فسير البقر إنَّما هو أربعة فراسخ، وسير الفرس عشرون فرسخًا، وإنَّما جعل مسير يوم ثمانية فراسخ لأنَّ ثمانية فراسخ هو سير الجمال والقوافل، وهو الغالب على المسير، وهو أعظم المسير الذي يسيره الجَمَّالُون والمُكَاريون"[7].
هذه الرواية أوضح في الدلالة على أنَّ المعتبر هو الحدُّ المكاني دون الزماني؛ وذلك لمحلِّ التأكيد في قوله (عليه السَّلام): "لا أقل من ذلك ولا أكثر"، ثُمَّ فرَّع بالفاء فقال (عليه السَّلام): "فوجب التقصير في مسيرة يوم"؛ فاليوم معتبر من جهة كونه ظرفًا لمسيرة العامَّة، والقوافل، والأثقال. ويؤيده في زيادة العلل وعيون الأخبار عدم اعتبار الآلة وإنَّما الاعتبار للمسافة.
الرواية الثالثة: عن عبد الله بن يحيى الكاهلي أنَّه سمع الإمام الصادق (عليه السَّلام) يقول في التقصير في الصلاة: "بريد في بريد أربعة وعشرون ميلًا. ثُمَّ قال: كان أبي (عليه السَّلام) يقول: إنَّ التقصير لم يوضع على البغلة السفواء والدابة الناجية، وإنَّما وضع على سير القطار"[8].
ورُوي روي عن زرارة ومحمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: "وقد سافر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلى ذي خشب، وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان أربعة وعشرون ميلًا، فقصر وأفطر فصارت سُنَّةً"[9].
والكلام هو الكلام.
هذا، والإجماع المُسلَّم على أنَّ المُحدِّد الزماني هو المعتبر شرعًا. قال المُحقِّق: "والنظر في الشروط والقصر. والشروط خمسة: الأول: (المسافة) وهي (أربعة وعشرون ميلًا) مسير يوم تام، وهو مذهب علمائنا أجمع"[10]، وقال العلَّامةُ: "ذهب علمائنا أجمع إلى أنَّ المسافة شرطُ القصرِ وهو قولُ عامَّة أهل العلم"[11].
بعد التمام فإنِّي أؤكِّدُ على تنبيهين عامَّين:
الأول: لا علاقة للاجتهاد المُصطلح بمناقشاتنا للمسائل والآراء، حتَّى لو كانت لما يطرح علمٌ فقيهٌ مِن أعلام الطائفة المرحومة (أعزَّ الله تعالى الثابتين على جادَّةِ حقِّها)، فما نحن فيه من مناقشات وإبداء نظرٍ كطلبة علم، إنَّما هو من باب الوفاء بحقِّ طلب العلم، ولا وفاء بغير التعرُّض للآراء بالمناقشة تعلُمًا تحت الحُكم القاطع للأدب والتأدب.
الثاني: اعتقدُ اعتقادًا قاطعًا بأنَّ لعلمائنا الأعلام في بلدنا البحرين حقَّ إبراز آرائهم ونظرهم بالمناقشة والتداول، وها هو هذا البحث الشريف لسماحة العالِم الفاضِل الشَّيخ العلَّامة علي بن عبد النبي بن عبد الله المخلوق البحراني (أدام الله تعالى عليه نِعمَه ظاهرة وباطنة) قد فرغ منه قبل قرابة ثلاثة عقود (1416 للهجرة)، فيما طبعته حوزة العلمين قبل عشر سنين (1433 للهجرة)، ولم نطَّلع عليه إلَّا قبل شهور قليلة، بل وكذا أكثر من تحدَّثنا معهم حوله!
قد يكون ذلك لتقصير منَّا، غير أنَّ للغفلة عن مثل هذه البحوث البحرانية دورًا جوهريًّا في تلاشي معالمها تحت غبار النسيان، وكم من بحثٍ ورسالةٍ قد جال فيها نظر العلم والفقاهة لأعلام بلدنا قد وقفتُ عليها مُؤخَّرًا فتعالت في صدري آهات وحسرات لما تعرَّضت وتتعرَّض له من إهمالٍ غريبٍ، وتركٍ عجيبٍ، بالرغم من قوَّتها العلمية ومتانة استدلالاتها!
إنَّ ما أبذل فيه وسعي من مناقشات لعلماء أرضنا الطيبة ليس إلَّا أقل ما يمكنني القيام به وفاءً لشيء من حقوقهم علينا.
وأجد في هذا المقام واجبي في تقديم أسمى آيات الشكر والعرفان للمحقِّقين الكرام لكتب ومخطوطات علماء البحرين الأعلام، فالشكر لسماحة الشَّيخ محمَّد عيسى المكباس، ولسماحة الشَّيخ حسن بن علي آل سعيد، ولسماحة الشَّيخ عبد الله آل سعيد، ولسماحة الشَّيخ أحمد بن عبد الحسن نصيف، وللفاضل الدكتور السَّيد عيسى بن السَّيد جواد الوداعي.. وغيرهم ممَّن اعادوا النور إلى النور، فجزاهم الله تعالى خيرًا.
والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطاهرين.
............................................................
[1] - تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 3 - ص 207
[2] - عيون أخبار الرضا (عليه السَّلام) - الشيخ الصدوق - ج 2 - ص 131
[3] - تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 4 - ص 222
[4] - يقصد بلادنا البحرين المحروسة.
[5] - تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 4 - ص 222
[6] - من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 454 - 455
[7] - وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 8 - ص 451 - 452
[8] - من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 436
[9] - من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 435
[10] - المعتبر - المحقق الحلي - ج 2 - ص 465
[11] - منتهى المطلب - العلامة الحلي - ج 1 - ص 389