المُصحفُ الحقيقةُ
قراءة في كتاب:
حقيقة مُصحف الإمام عليّ(ع) عند الفريقين
للشيخ الدكتور عبدالله عليّ أحمد الدقّاق[1]
إبراهيم عليّ السفسيف
تمهيد
كانت الحقيقة، وستبقى إلى قيام الساعة، القوّة العمدة التي يستند إليها المصلحون وأصحاب الرايات البيضاء في سبيل تحقيق غاياتهم وأهدافهم؛ لأنّ الدنيا قامت على أساسها، والبشر جُبلوا على حبّها والانشداد إليها.
كما إنّها -الحقيقة- سلاحهم الأمضى في مواجهة مَنْ يقف في وجههم، ويعترض طريقهم، ويحول بينهم وبين نشر مبادئهم وقيمهم ومشاريعهم على أرض الواقع.
ولمّا كانت الحقيقة -حيث شاء الله تعالى- تمتنع أنْ تُهزم وتأبى أنْ تموت، فقد عمل أعداؤها على التوسّل بما يحول بينها وبين الظهور والانتشار، فعمدوا تارةً إلى طمسها وإخفائها، وتارةً أُخرى إلى تسميمها وتشويهها، وثالثةً إلى إرهاب الناس عن التفكير فيها وتداولها، فضلًا عن الاقتراب منها أو الأخذ بها والجهر بمتعلقاتها. وهذا ما يُضاعف المسؤولية على أصحاب الحقيقة في التعريف بها ونشرها؛ فمن حقّ الآخرين -على أصحاب الحقيقة- معرفة الحقيقة.
والجدل المذهبي في الداخل الإسلامي، واحد من ميادين الصراع البارزة التي مُورست فوق خشبته أصناف شتّى من التعدِّيات على الحقيقة، والتجنِّي على أصحابها. وأحد أمثلته "مُصحف الإمام علي(ع)"، حيث استُغلّ كأحد الروابط بين التشيّع والقول بتحريف القرآن الكريم.
فما حقيقة هذا المُصحف؟ وما دواعي كتابته؟ وما محتواه؟ وما موقف السلطة منه؟ وما علاقته بالمُصحف المُتداول الآن؟
هذه الأسئلة التي حاول كتاب "حقيقة مُصحف الإمام علي(ع) عند الفريقين"، للشيخ الدكتور عبدالله علي أحمد الدقّاق، بيانها وفق منهج علمي سليم، اتّسم بحسن التقسيم، ودقّة تتبّع المصادر والمراجع على كثرتها وتنوّعها.
المُصحف الحقيقة
اختلف الباحثون في تحديد زمن جمع القرآن، ومَنْ جمعه. فقال بعضهم بأنّه جُمع في عهد الرسول(ص)، وآخرون أنّه جُمع في عهد أبي بكر، وبعض ثالث في عهد عمر بن الخطاب، ورابع ابتداء جمعه في عهد أبي بكر واكتماله في عهد عمر، وخامس في عهد عثمان بن عفّان. أمّا المؤلّف فإنّه ينتصر إلى تدوين القرآن في عهد الرسول(ص) من قبل أمير المؤمنين(ع)، وبعد رحيله (ص) جمعه(ع) في مُصحف واحد وبوصيّة منه(ص).
وترجيح أحد الأقوال يتوقف على تحديد معنى (الجمع): حيث تُذكر له ستة وجوه: الجمع بمعنى الحفظ في الصدور، الجمع بمعنى كتابة القرآن بالأدوات المتوافرة دون ترتيب الآيات والسور، الجمع بمعنى كتابة القرآن مع ترتيب الآيات دون السور، الجمع بمعنى كتابة القرآن مع ترتيب الآيات والسور في مُصحف واحد، الجمع بمعنى جمع الناس على قراءة واحدة، الجمع بمعنى كتابة القرآن في مُصحف مرتّبا مع إضافة ما يرتبط به من تفسير وغيره.
والمعنى الرابع والسادس للجمع ينطبق على مُصحف الإمام علي(ع)، لكنّ التركيز سينصبّ على المعنى الرابع لإثبات أسبقية الإمام(ع) على غيره في جمع القرآن بين دفّتين.
المُصحف العلوي في مصادر الفريقين
في المصادر الإمامية، توجد خمس روايات عامّة تدلّ على علم الإمام(ع) بالقرآن وحفظه له وإحاطته بشئون تفسيره، كقوله(ع): "إنّ كل آية أنزلها الله في كتابه على محمد(ص) عندي بإملاء رسول الله(ص) وخطّ يدي..."(ص76). واثنتا عشرة روايات خاصّة تنصّ على المُصحف العلوي وتصرّح بإثبات وجوده. وبعضها تامّ السند والدلالة كقول الإمام الصادق(ع): "أخرجه -المُصحف- إلى الناس حيث فرغ منه وكتبه، فقال لهم: هذا كتاب الله كما أُنزل على محمد(ص) وقد جمعته بين اللوحين. قالوا: هو ذا عندنا مُصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه. قال(ع): أما والله لاترونه بعد يومكم هذا أبدًا، إنما عليّ أنْ أخبركم به حين جمعته لتقرأوه".(ص84)
أما في مصادر أهل السنّة، فتوجد العديد من الروايات العامة التي تتحدّث عن جمع القرآن بشكل عام، كـ:"جَمَعَ القرآن على عهد رسول الله(ص) علي بن أبي طالب وأُبيّ بن كعب". وست عشرة رواية خاصّة تتحدّث عن مُصحف الإمام علي(ع) تحديدًا، وبعضها تامّ السند والدلالة كقوله(ع): "آليت بيمين ألّا أرتدي بردائي إلّا إلى الصلاة حتّى أجمع القرآن".(ص150)
على هذا، توجد أكثر من ثلاثين رواية تامّة الدلالة على وجود المُصحف العلوي في مصادر الفريقين، بعضها بنحو الظهور، وبعضها بنحو الصراحة والنصّ. وبالتالي تكون الروايات متواترة فيُقطع بالصدور.
دواعي جمع المُصحف العلوي
يمكن أنْ يُستوحى من النصوص الواردة بشأن المُصحف العلوي وكلمات العلماء حوله، دواعي جمعه عند الفريقين.
ففي المصادر الشيعية، أكّدت أكثر الروايات الواردة أنّ الرسول(ص) قد أوصى الإمام(ع) بجمع القرآن، كقوله(ص): "يا عليُّ، لاتخرج ثلاثة أيام حتى تُؤلّف كتاب الله كي لايزيد الشيطان شيئًا ولايُنقص منه شيئًا"(ص206).
ويمكن أنْ يُفهم من الروايات وجود دواعٍ أخرى، كقسمه(ع) ألّا يرتدي برداء حتى يُؤلّف القرآن ويجمعه، وخشيته(ع) أنْ تقع الفتنة بين المسلمين بعد الأحداث التي أعقبت وفاة الرسول(ص)، وإقامة الحجّة على الناس بإظهار مُصحفه(ع) لهم، والتفرّغ من قبله(ع) لكتاب الله بعد خذلان الأمّة. لكنّ هذه الدواعي تحكي أجواء وآثار تطبيق الوصية، وتبقى الوصية هي الداعي الرئيس.
أما المصادر السنّية، فأكثر الروايات تشير إلى اليمين، ومن بعده خشية الزيادة في القرآن وتحريفه، ومن بعدهما ما رآه من طيرة وتشاؤم في الناس.
وبخصوص وصية الرسول(ص)، فلايوجد ما ينصّ عليها، إلّا ما نقله ابن شهر آشوب في "مناقب آل أبي طالب" عن بعض مصادر أهل السنّة.
المُصحف العلوي.. جمْعه وتاريخه وخصائصه
يُستفاد من الروايات مجموعة من الأمور المرتبطة بالمُصحف العلوي، جمْعه وتاريخه وخصائصه. فعلى مستوى الجمع يُتبيّن أنّ المباشر الوحيد لجمعه هو الإمام(ع)، بل هي من امتيازاته ومختصّاته، وأنّ عملية الجمع قد تمّت على مرحلتين: الأولى في عهد الرسول(ص) بالتدوين، والثانية بعد وفاته(ص) بالجمع تنفيذًا لوصيّته.
وعلى مستوى حقيقة مادّة المُصحف، فمن المسلّم به بين الفريقين أنّ المُصحف العلوي لم يقتصر على إثبات السور والآيات، بل تضمّن إلى جانب ذلك التفسير والتأويل وما يتعلّق بشئونها من أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغيرهما، فلا هي زيادات قرآنية ولا أحاديث قدسية. ومع أنّ الروايات لم تُحدّد طريقة/نمطًا معينة لكتابة المُصحف العلوي، لكن "كان المناسب كتابته بالطريقة الهامشية".(ص231) حيث استغرقت كتابته مدّة ثلاثة أيام، ورُتّب وفق نزول الآيات القرآنية.
وعن تاريخ تواجد المُصحف عبر العصور، دلّت الروايات على أنّه -بعد رفضه- امتنع(ع) أنّ يُسلّمه لهم في عهد عمر لاستنساخه، ثم أخذ ينْتقل من إمام إلى إمام حتى وصل إلى الإمام الحجّة(عج).
كما أشارت الروايات إلى الخصائص التي امتاز بها المُصحف العلوي، بعضها اتّفق الفريقان عليها، وبعضها اختصّت به المصادر الإمامية. فمّما اتّفق عليه الفريقان أنّ ترتيبه جاء وفق نزول الآيات لا على حسب طولها، وتقديم المنسوخ على الناسخ، والاشتمال على شأن التنزيل، وكان بإملاء الرسول(ص) وخطّ الإمام(ع)، وأنّه أوّل جمع للقرآن.
ومّما اختصّت به المصادر الإمامية، اشتماله على الـتأويل، وبيان المحكم والمتشابه، وتفاصيل الأحكام الشرعية، والكمال وعدم التحريف بالزيادة والنقصان، وذكر أسماء أهل الحق والباطل.
المُصحف العلوي.. السلطة والمصير والمُصحف المُتداول
وأمام كون المُصحف العلوي حقيقة ناجزة واقعًا، تُطرح تساؤلات: عن موقف السلطة منه، ومصيره، وعلاقته بالمُصحف المُتداول الآن؟
عن موقف السلطة منه، اختلفت المصادر الشيعية والسنية في بيان موقف السلطة من المُصحف العلوي، فروايات الشيعة تشير إلى أنّ السلطة رفضته؛ لمّا رأت فيه فضائح القوم، فحاولتْ إيجاد البديل عن طريق جمع القرآن مرّة أخرى لكي يُستغني عنه. بينما روايات السنّة أكّدت إمضاء السلطة للمُصحف، والثناء على إنجازه.
غير أنّ الملاحظ على هذا الإمضاء أنّه لم ينعكس على الواقع العملي لعملية جمع السلطة للقرآن وخشيتهم -وفق ما ادّعي- من زوال القرآن بزوال حفّاظه، بعد معركة اليمامة واستشهاد عدد كبير من قرّاء القرآن فيها، حيث لم يطلبوه بل تجاهلوه.
وعن مصيره، فقد أشارت بعض الروايات الشيعية إلى أخذ الإمام عليّ(ع) مُصحفه وانصرافه به بعد أنْ أعرضت السلطة عنه وردّته. وصرّحت أخرى بأنّ الإمام(ع) قال قبل انصرافه عنهم بأنّهم لن يروا المُصحف بعد الآن، وسيُحفظ عند الآئمّة من ذرّيته إلى أنْ يصل إلى الإمام المهدي المنتظر(عج) فتجري به السنّة. ولكن: ما الفائدة من المُصحف العلوي وقد غُيّب عن الأمّة؟ والجواب: المُصحف العلوي، وإنْ غُيّب عن عموم الأمّة، إلّا أنّه يُشكّل مصدرًا من مصادر علوم الأئمّة(ع)، والأمّة تنهل من عطاء الأئمّة.
وعن علاقة المُصحف العلوي بالمُصحف المُتداول الآن، فهناك نقاط مشتركة بينهما، تتمثّل في: الكمال وعدم التحريف، وإمضاء الأئمّة، وصحّة القراءة، وجهد الإمام(ع) في جمعهما وترتيبهما بالمباشرة في التدوين والجمع في مُصحفه، وأكثر القراءات للقرآن المُتداول ترجع إليه، ودور صحابته وشيعته في حفظه وصيانته.
لكن، هل كتب الإمام(ع) نسختين لمُصحفه، واحدة مرتّبة بحسب النزول، والأخرى كُتب على أساسها القرآن المُتداول؟ وذلك استنادًا إلى بعض المرويات، وتطابق الأوصاف بين القرآن المُتداول والمُصحف العلوي دون غيره من المصاحف.
والجواب: لا دليل على وجود نسختين للمُصحف العلوي إذا حملنا (النسخة) على المعنى الحقيقي، وهو ألفاظ القرآن المدوّنة. نعم يمكن القول بذلك بالمعنى المجازي، إذا حملنا (النسخة) على القراءة، إذْ إنّ القرآن المتُداول اليوم هو بقراءة أمير المؤمنين(ع) برواية حفص عن عاصم عن أبي عبدالرحمن السلمي.
مناقشتان اثنتان
عطفًا على كون البحث قد اشتغل على موضوع قابل لتعدّد وجهات النظر باختلاف تمحيص الأدلّة التاريخية، إضافةً إلى تأثّره بالمسبّقات العقلية والعقدية والتاريخية وغيرها، نورد -بما يتناسب والمقام- مناقشتان اثنتان حول بعض نتائجه على النحو الآتي:
- الأولى: مسألة الأوّل
خلُص الباحث إلى "أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب(ع) هو أوّل مَنْ جمع القرآن الكريم بعد رحيل النبي(ص)، فقد قام بجمع وتدوين القرآن الكريم في مُصحف واحد بعد وفاة الرسول الأعظم(ص) خلال ثلاثة أيام"(ص355). وربّما يُشكل على هذه النتيجة من جهتين:
الأولى، إنّ مسألة (الأوّل/الأسبق) إلى جمع القرآن، تشِي بأنّها ناشئة عن نزاع مذهبي، ومتابعة لِما حاول الآخرون نسبته من أعمال ومناقب لشخصيات قلقة؛ سعيًا لتظهيرها في صورة قدسية مفارقة.
الثانية، إنّ (الأوّل/الأسبق) في الجمع لا تُضيف شيئًا ذا بالٍ، خصوصًا عندما نستحضر النظرية الأخرى الأسلم التي تذهب إلى أنّ النبي(ص) قد دوّن وجمع القرآن -بصورة من الصور- في حياته استنادًا إلى العديد من الوقائع التاريخية والضرورة العقلية. هذا فضلًا عمّا قد تُوهمه هذه الأولية/الأسبقية من عدم عناية بجمع القرآن في حياة النبي(ص)، وما يُفتح جراء هذا من أسئلة حول مصداقية الجمع اللاحق ومدى دقّته.
- الثانية: نمط المُصحف العلوي
ذهب الباحث، حول النمط الذي كُتب عليه المُصحف العلوي، إلى أنّنا "لو ركنّا إلى الروايات التي تحدّثت عن المُصحف العلوي وتأمّلنا فيها لوجدنا أنّ الطريقة[النمط] المناسبة لتدوينه هي الطريقة الهامشية لا الطريقة المقطعية؛ لأنّها لا تناسب عنوان المُصحف، ولا الطريقة المزجية؛ لأنّها خلْط للقرآن بتفسيره، والحال أنّ الكثير من الروايات ركّزت على كون المُصحف جمعًا لكتاب الله قد تضمّن التفسير، وهذا ما يُناسب الشرح الهامشي".(ص231) ويمكن أنْ يُؤخذ على هذا التوصيف بالآتي:
- المُصحف لغةً، مجموعة من الصحف في مجلّد، ثمّ غلب استعماله على القرآن الكريم لاحقًا. فلا مدخلية لعنوان المُصحف في استبعاد نمط معين من الكتابة. فيصدق المُصحف لغةً على النمط المقطعي المزجي والهامشي حين تُجمع صحفهم في مجلّد. كما يصدق لفظ المُصحف أيضًا على القرآن الذي خُلط بالتفسير، والذي كان عليه مصاحف بعض الصحابة.
- توصيف المُصحف العلوي بالتفسير/الشرح "الهامشي" فيه نوع من التقليل -إنْ لم نقل أكثر-، بملاحظة وصية/أمر الرسول(ص) للأمير(ع) وحده بجمعه، بل لن يجمعه بإتقان غيره كما قال(ص)، هذا من جانب. ومن جانب آخر، عدم تناسب لفظ "الهامشي" بما ذُكر في وصف المُصحف العلوي من قبله(ع) ومن قبل الآخرين، من قبيل اشتماله على الـتأويل، وبيان المحكم والمتشابه، وتفاصيل الأحكام الشرعية، وتقديم المنسوخ على الناسخ، وغيرها.
وتأسيسًا على قول الأمير(ع): "فلم يُنزل الله تعالى على رسول الله(ص) آية إلّا وقد جمعتها" و"ما نزلت على رسول الله(ص) آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ، فكتبتها بخطّي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها"، وما ذُكر من توصيفات للمُصحف العلوي، وأمور أخرى، يمكن تصوّر -مجرّد تصوّر- النمط الذي كُتب عليه المُصحف العلوي، غير الذي ذهب إليه الباحث، نذكره اختصارًا.
هذا النمط هو النمط المزجي بين القرآن والمراد من آياته تفسيرًا وتأويلًا، بما يشبه اليوم -في القانون- المذكّرة التفسيرية للنظام الأساسي/الدستور. فهو(ع) المُعدّ والأكفأ لبيان ذلك.
ونختم بالـتأكيد على ما طالب به الباحث، في افتتاحية الكتاب، من ضرورة "أن يتوسّع الباحثون في الحيثيات المختلفة التي تطرّق إليها البحث".
فكم ترك الماضون للباقين، والله ولي التوفيق.
دمستان
10 رمضان 1443ه
12 أبريل 2022م
............................
[1] حقيقة مصحف الإمام عليّ(ع) عند الفريقين، الدكتور الشيخ عبدالله عليّ أحمد الدقّاق، قمّ: منشورات دليل ما، ط1/1430ه، ص397. رابط التنزيل: http://alfeker.net/library.php?id=2878.