بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على رسوله الأمين وآله الهداة الميامين
وبعد، فإنّي في سنةٍ خلت في مجلسِ فكرٍ وأدبٍ وعلمٍ لـمنتدانا منتدى الفكر التابع لحوزتنا المباركة حوزةُ خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وُفقتُ لتقديم كتابٍ قيّم في البحوث الرجاليّة وهو تقريراتٌ لأبحاث آية الله السيّد علي الفاني الأصفهاني رحمة الله تعالى عليه، وقد حرّرت التقديم وهذّبته فكان هذا المدوّن خلاصةً من ذاك الكتاب القيّم أضعها بين يديّ القرّاء المهتمين دعوةً إليهم لقراءته والانتفاعِ به حيث وجدته كتاباً جديراً بالقراءة والنظر لا سيّما للطلاب من أهل العلم، وقد اشتمل الكتاب على مباحث أكثر لم نُشِر إليها رعايةً للاختصار وحسن التقديم.
والحمد لله أولاً وآخراً
أبو الحسن علي بن الشيخ صالح الجمريّ
فُرغ من تحريرها في يوم الأربعاء
التاسع من شوّال 1443هـ الموافق لـ 11/5/2022م
...............................
تقديم كتاب بحوث في فقه الرجال
للعلّامة الفاني الأصفهاني
- هوية الكتاب
العنوان: بحوث في فقه الرجال: محاضرات ألقاها على طلابه سماحة آية الله العظمى السيّد علي الفاني الأصفهاني
المؤلّف: السيد علي حسين العاملي
عدد الصفحات: 222 صفحة
المطبعة: مؤسسّة العروة الوثقى، برج البراجنة
الطبع: 1994م-1414هـ، الطبعة الثانية
ثمّ إن مادّة الكتاب هي محاضراتٌ ألقيَت سنة 1406هـ وكُتبت بأمرٍ من المحاضر كما ذكر ذلك المؤلّف في تقديمه للكتاب، ولعلّ هذه المحاضرات قد ألقيت في سنةٍ واحدة أو ما قاربها؛ وذلك لأنّ تاريخ تقديم المؤلف الذي ذيّله بالانتهاء من إكمال الكتاب كان يومَ ميلاد الحجّة عليه السلام عام 1407هـ.
- ترجمة المحاضر
قد ترجمَ المؤلّف للمحاضر في مقدّمة الكتاب وخلاصتها:
هو السيّد علي نور الدين أبو المكارم بن المرحوم حجّة الإسلام والمسلمين الحاج السيّد محمد حسن الحسيني اليزديّ، المعروف -أي المترجم له- بالعلامة الفاني الأصفهاني.
ولد رحمة الله عليه عامَ 1333هـ في أصفهان وقد درس فيها على يد علمائها من المقدّمات حتّى الخارج كما ودرس فيه التفسير والفلسفة والكلام خارجاً عند السيّد علي نجف آبادي ما يزيد على الإثنيّ عشرَ سنة مضافاً للفقه والأصول.
وقد هاجر سنةَ 1362هـ إلى النجف الأشرف مجتهداً وحضرَ عند السيّد أبو الحسن الأصفهاني والشيخ محمد كاظم الشيرازي كما ودرّس الفقه والأصول سطحاً وخارجاً أثناء حضوره.
وله من المؤلفات ما يقرب من الثمانين منها:
- شرح الشرائع - الطهارة في خمسة أجزاء (مطبوع)
- شرح الشرائع- الصلاة في سبعة أجزاء (مطبوع)
- الآراء في مباحث الأصول- مباحث الألفاظ (مطبوع منها جزءان)
- الآراء في المباحث العقليّة- ثلاثة أجزاء (مطبوع)
- حاشية على وسيلة النجاة للسيد أبو الحسن الأصفهاني (مطبوع)
- حاشية على العروة الوثقى للسيد محمد كاظم اليزدي (مطبوع)
كما وله كتب في التفسير ورسائل في الفقه ذكرها المؤلّف.
توفيّ في ظهر يوم الاثنين 23 شوّال 1409هـ ودفن في قم في ليلة الثلثاء من ذلك اليوم.
أما المؤلّف فلم أعثر على معلوماتٍ عنه.
- خلاصة الكتاب
مقدمة: في الحاجة لعلم الرجال
يبحث الكتاب في أصول علم الرجال في التوثيق والتضعيف، فلذا كان من المناسب أن يُبحث في مقدّمته حجيّةُ خبر الثقة وقد استعرض فيها ثلاث اتّجاهاتٍ تبتني جميعُها على قاعدةٍ واحدة وهي: حرمة العمل بالظنّ، أو عدم حجيّة العمل بالظنّ.
الاتجاه الأوّل: قرّر أنّ العمل بخبر الثقةِ جائزٌ وإن كان ظنّاً؛ حيث كان مستثنى من القاعدة لدلالةِ الأدلّة على تعبّدنا به وجعل الحجيّة له.
الاتجاه الثاني: قد اتّجه خلافاً لسابقه إلى أنّ خبرَ الثقة المجرد عن القرائن لا يجوز العمل به وليس خارجاً عن قاعدة حرمةِ العمل بالظنّ؛ إذ لم يتعبّدنا الشارع بالعمل به من حيث هو خبر ثقة، لكن بما أنّ ترك العملِ به يستلزِم ترك العمل بالشريعة أو العسر والحرج لانسداد طريق العلم بالشريعةِ بما يكفي المكلّف ساغ حينئذٍ العمل بمطلقِ الظنّ بحكم العقل أو لكشفه عن حكم الشارع في ظرف الانسداد.
الاتجاه الثالث: وهو بنى على أنّ خبرَ الثقةِ ليس ظنّاً، وإنّما هو علمٌ عاديّ فقاعدة حرمة العمل بالظن لا تشمله فهو خارجٌ تخصّصاً عن تلك القاعدة التي ابتنى عليها البحث.
فالاتجاهات الثلاثة تتفقُ على أصل الكبرى وتختلف في حدودها فالأوّل يراها مخصّصة بـ "غير خبر الثقة" والثاني والثالث يراها مطلقة عامّة.
ثمّ يختلفون في الصغرى فيرى الأوّل والثاني أنّ خبر الثقةِ ظنّ ويرى الثالث أنّه علم.
وقد سلك الباحث الاتجاه الثالث وبنى عليه أبحاثه.
وأوّل من شقّ هذا الاتجاه -بحسب ما نعلم- هو الميرزا الأستراباذي في الفوائد المدنيّة وتبعه على ذلك جملة من علمائنا الأخباريين غيرَ أنّ الباحث لا يذهب لكونِ جميع ما في الكتب الأربعة معلومَ الصدور تفصيلاً خلافاً للمذهب المعروف عن المحدّثين، كما أنّ الباحث قد نقّح بعض الخصوصيّات لمسلكه في العلم العادي بحيث لا يصحّ مطابقته بمسلك الميرزا الأستراباذي، وتلك الخصوصيات تتقرّر من جهتين:
الأولى: فيما يترتّب على العلم العاديّ
فهو قد عدّ العملَ على طبقِ العلمِ العاديّ ومنه خبر الثقة ليس طريقاً تعبّدياً مجعولٌ من الشارع، وإنّما هو طريقٌ حقيقةً وموصلٌ للواقع بنحوٍ من الوصول المعتبر، أما ما دلّ عليه في لسانِ الشارع فاعتبره نوع إرشادٍ لارتكزاتٍ ومناطاتٍ عقلائية جرى عليها النوع البشري قديماً وحديثاً لذاتها لا بتوسّطِ جعلٍ وتعبّد.
الثانية: في تقريب الاستدلال على دعواه
وقد قرّب وجوهاً لإثباتِ أنّ الأدلة الدالّة على العمل بالأخبار ليس من باب الجعل، بل الإرشاد،
وأحد تلك الأدلّة: ما دلّ على الأخذ بالخبر المخالف للعامّة، إذ أنّ الأمر بالعملِ بما يخالف العامّة ليس لجعلٍ وتعبّد بل لأنّ الرشدَ في الحقيقةِ والواقعِ يكونُ بخلافهم، ويشهد له تعليلُ أبي عبد الله عليه السلام في الخبر حيث قال لإسحاق الجرجاني : "أتدري لمَ أمرتم بالأخذ بخلاف العامّة فقلتُ: لا أدري فقال: إنّ علياً عليه السلام لم يكن يدين الله بدينٍ إلّا خالف عليه الأمّة إلى غيره إرادةً لإبطالِ أمره وكانوا يسألون أمير المؤمنين عن الشيء الذي لا يعلمونه فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّاً من عندهم ليلبسوا على الناس على الناس"[1]
وثانيها: ما دلّ على الأخذ بالخبر المجمع عليه في حال التعارض، فهو أيضاً إرشادٌ لأنّ الواقعَ على طبقِ المجمع عليه بدليل ما وردَ تعليلاً للأخذ به "... فإنّ المجمعَ لا ريب فيه"[2].
ثالثها: ما دلّ على الأخذ بخبر الأورع والأصدق والأفقه في حال التعارض، فهو إرشادٌ كذينك؛ للزوم الأخذ بالأوضح عند العقلاء فيما لو عورض بالأقلّ وضوحاً.
رابعها: ما دلّ على الإرجاع إلى الرواة، وهي كالأولين حيث وردت فيها تعليلاتٌ بما هو ارتكازٌ معهود كقوله: "فإنّه الثقة المأمون"[3] وقول الراوي سائلاً الإمام: "أفيونس بن عبد الرحمن ثقةٌ آخذ عنه معالم ديني.."[4] فحيث كان التعليلُ بعلل إرتكازيّة كانَ الأمر إرشاداً لما هو مركوز.
ولمّا كان العلم العاديّ هو الركن الذي تبتني عليه حجيّة العمل بالأخبار كان رجالُ الحديثِ رافداً مهماً لتحصيل ذاك العلم، وكانت معرفة أحوالهم المؤثّرة في حصول العلم بالصدور وعدمه معياراً في العمل بالأخبار، وحينئذٍ لا غضاضة -عند الباحث- في مساس الحاجة لعلمِ الرجالِ ابتداءاً، ولا يسدّ تلك الحاجة إلّا صحّة دعوى القطع بصدور جميع ما في الكتب الأربعة أو دعوى صحّة جميع ما في تلك الكتب؛ حيث لو صحّتا لم تكد تكون حاجةٌ لعلم الرجال لتحديد المعتبر من الأخبار إلا في ما عدا الكتب الأربعة أو حال التعارض إن كان مناط الترجيح بأحوال الرجال بعدُ قائماً.
وقد أقامَ المؤلّفُ باباً مستقلّاً لمناقشةِ كِلا الدعويين -وإن لم يناقِش فعلاً الدعوى الثانية- وقد خلُصَ إلى عدم صحّة كِلا الدعويين فتبقى الحاجة لعلم الرجال قائمةً حينئذٍ بوصفه محدّداً أساسيّاً لمثاقيل وزنِ الأخبار في ميزان الحجيّة والاعتبار.
منهج السيّد الفانيّ في علم الرجال
ثمّ إنّ معرفة أحوال رجالِ الحديث -وهي مهمُّ علم الرجال- تستدعي النظرَ في منهج يعرّفنا تلك الأحوال؛ إذ لم تكن معرفة أحوالِ جميعِ رجالِ الحديث بالبداهةِ متى ما اطّلعنا على ما كُتبَ عنهم، ولا نعلمُ -دون تحكيم النظر- أنّ كلّ كتابٍ تعرضَ لأحوال الرواة له الأهليّة الكافيّة للاحتجاج بمعطياته، فكان تحديدُ ذاك المنهج مقصداً أُفرِدت له مباحث وعُقِد لأجله هذا الكتاب.
وقد وضع الباحث الأصل الذي منه تتفرّع مفردات منهجه ونظمه، وذلك من خلال النظر في طبيعة البحث في علم الرجال، وخلاصة نظر الباحث يمكن تقريرها بما يلي:
إنّ طبيعةَ النتائجِ المتوخاة من البحث الرجاليّ ليست بقواعِد تعبُّديّة تنطبقُ متى ما وُجِد موضوعها؛ وذلك لأنّ مصادر البحث الرجاليّ هي أخبارٌ منقولة وقد اتّضحَ أنّ حجيّتها شرعاً ليسَ بجعلٍ زائدٍ على الإرتكازات العقلائيّة الدائرة مدارَ حصولِ الاطمئنان بوقوعِ الخبر، وحينئذٍ لا تكون الضوابطُ التي تتفرّع منها المعرفة بأحوال الرجال ذاتَ طابع قانونيّ يدور الحكم فيها مدار موضوع الضابطة؛ وسبب ذلك ظاهرٌ بملاحظةِ أنّ مصدر المعرفة في البحث الرجاليّ هو الأخبار المنقولة وحيث لم يثبت التعبّد في التعامل معها لم تثبت أنّ ضوابطها قانونيّة؛ لعدمِ تصوّر منشأٍ للضبطِ القانونيّ في التعامل مع المنقولات غيرَ افتراض التعبّد، فتكون تلك الضوابط قرائن يحصل من خلالها الاطمئنان بنسبة الأحوال للرواة.
ومن ثَمّ لم يصنّف الباحث رحمه الله البحث الرجالي في جملة العلوم وقال مكرّراً: "أنّ الذي نملكه في الرجال للفقه أقرب منه للعلم، وللبحثِ أقرب منه للقاعدة والقانون[5]…"[6] ومنه يتضحّ السرّ في تسمية الكتاب بـ(بحوث في فقه الرجال).
فاتضحَ بذلك أنّ التعامل مع كلمات أهل الجرح والتعديل لا يكون من باب الشهادةِ ولا قولِ أهل الخبرة، بل هو من باب الكاشِف المحض والدليل الصِرف دون زيادةٍ في اعتباره على الكشف والدلالة، وبالتالي لا حاجة للالتزام بشروطها ومدافعة مشكلاتها كلزوم تعدّد الشاهد لانعقاد البيّنة، أو لزومِ الإخبار الحسّي وما شاكل.
وقد أقام الباحث على هذا الحجر حجراً آخر في بناء منهجه، وتلخيصُه:
أنّ التوثيق الرجاليّ وتضعيفه يدور في فَلك المقصدِ من كلام الرجاليّ ولمّا كانت الحجيّة غيرَ مجعولةٍ بل هي مُناطة بحصول الاطمئنان كانت حجيّةُ دلالة كلام الرجاليّ على مقصده بحصول الاطمئنان به أيضاً، وهو لا يتأتّى دون مراعاة القرائن حاليّةً كانت أو مقاليّة وسواءاً كانت في كلام الرجاليّ المقيّم أو في مرويات الراوي المقيَّم، ومن تلك القرائن تتبّع موارد استعمال اللفظ الدالّ على المدح أو القدح في مجمل كلمات أهل الجرح والتعديل، بل وملاحظة سير اللّفظ التاريخيّ وتحوّلاته من جهة الاستعمال.
ومن ثمّ صنّف التوثيق لرُتب أربعة بملاحظة مستوى وضوح الدلالة عليه:
الأولى: ما كانت الدلالة صريحة في التوثيق وعدّ منها لفظ (ثقة) و(مأمون) و(صدوق)
الثانية: ما كانت الدلالة ضمنية على التوثيق وعدّ منها التعبير بـ (جليل القدر) و(وجه من وجوه أصحابنا)؛ حيث لا يكون المراد منهما وثاقة الراوي مطابقةً وإن استلزما ذلك.
وكلتا هاتين الرتبتين حجّة في التوثيق؛ لحصول الاطمئنان بقصد المتكلّم لها.
الثالثة: ما كانت الدلالة ظنيّة عليه وعدّ منها (صحيح الحديث)؛ معلّلاً ذلك بأنّ صحّةَ الحديث تلاحِظُ استقامةَ مضمون الخبر لا استقامة المُخبر وإن رجُح احتمال إرادةِ تقييم المُخبر من خلال تقييم خبره، وحينئذٍ يتوقّف إثبات التوثيق من خلالها على القرائن المورثة للاطمئنان.
الرابعة: ما كانت الدلالة احتماليّة لا تبلغ حدّ الظنّ كـالقول بأنّ الراوي (ذو أصلٍ) أو (كان خيّراً) أو الترحّم عليه، وحكم هذه المرتبة غير خفيّ.
وصنّف التضعيف على أربع مراتب كذلك:
الأولى: ما كان صريحاً في تكذيب الراوي كالتعبير بـ(كذّاب) و(وضّاع)، وهذه حجّةٌ في تكذيب؛ حيثُ يطمئنّ بكذبه، ويترتّب عليها طرحُ روايات الموصوف بها.
الثانية: ما كان صريحاً في تضعيفه بنحوٍ مطلق بأن يُقال (ضعيف)، وهذا التضعيف ليس بمعتمدٍ؛ "والوجه في ذلك أنّ كلمة ضعيفٍ أو ما رادفها ليست صريحة في إرادة إثبات كذبه؛ لاحتمال عودها إلى غير ذلك"[7] فيمكن أن يكون وجه تضعيفه راجعاً لفساد عقيدته أو عدم اعتماده على رواةٍ ثقاتٍ، أو أن مرويّاته لا تتوافق مع الخطوط العامّة للأئمّة، وحينئذٍ يظهر ألّا دلالةَ لنعت الراوي بالضعف على إرادةِ كذبه، نعم يمكن لهذا النحو من التضعيف أن يكون شاهداً على عدم الاعتماد على روايات من وصف به.
الثالثة: ما دلّ على تضعيفه صراحةً أو التزاماً باعتبارِ منشأ ضعف وهي نحوان:
الأول: ما يعود إلى المعتقد كالتصريح بكونه (فطحيّاً) أو (بتريّاً) أو (واقفياً).
الثاني: ما يعود إلى سلوكه دون السلوك القوليّ وعدّ منه ألفاظ اللعن والتشبيه بالحيوانات.
وهذا التضعيف أيضاً بنحويه لا يعتمدُ عليه؛ حيث لا دلالةَ فيه صريحة على عدمِ وثاقةِ الراوي من جهةٍ إخباره وإن كانت شديدةَ القدح فيه كما في النحو الثاني.
الرابعة: ما كانت دلالته على التضعيف احتماليّةً وعدّ منها كون الراوي مجهولاً أو مهملاً، وحكمها ظاهر.
وتظهر ثمرة هذا التصنيف فيما لو وردَ توثيقٌ وتضعيفٌ لراوٍ، فإن كان التضعيفُ من المرتبةِ الثانية أو الثالثة لم يكن معارِضاً للتوثيق؛ حيث إنّ التوثيق يفيدُ وثاقته في إخباره وصدق قوله، أمّا التضعيف فيحمل حينئذٍ على جهةِ فساد العقيدة، أو غرابة مضامين أخباره أو ما شابه.
حال سهل بن زياد نموذجاً
وقد بحث في خاتمةِ كتابه أحوال مجموعةٍ من رواةِ الحديث تطبيقاً لما وضعه من منهاجٍ في تحديد أحوالِ الرجال، وكان منها تحديدُ أحوال سهل بن زياد الآدميّ الرازي حيث وقعَ في تضعيفه وتوثيقه خلافٌ، فذهب أكثر العلماء إلى تضعيفه، وذهب جمعٌ منهم العلامة المجلسي والوحيد البهبهاني لوثاقته وصحّة الاعتماد على روايته، ويمكن تلخيص ما أفاده الباحث رحمه الله في نقطتين:
الجهة الأولى: فيما يدلّ على وثاقة سهل بن زياد وضعفه
أما أهمّ ما يدلّ على الوثاقة:
1- نصّ الشيخ الطوسي في كتاب الرجال على وثاقته[8]، وهو صريحٌ في التوثيق. | 2- كون سهلٍ من مشايخ الإجازة الناشرين لمدرسة أهل البيت؛ حيث يبني الباحث على حجيّتها في التوثيق على تفصيل. |
3- روايات الأجلاء عنه، حيث وقع في أسانيد رواياتٍ تزيد على ألفيّ رواية. | 4- إفتاء الأصحاب بمضمون رواياته باعتبار انسجامها مع رواياتٍ أخرى، وهذا يدلّ على صدقِ سهلٍ وأمانته. |
|
|
أما أهمّ ما يدلّ على الضعف:
1- تضعيف الشيخ الطوسي له حيث قال في الفهرست عنه "ضعيف"[9] وقال في الاستبصار: "ضعيف جدّاً عند نقاد الأخبار"[10]
| 2- تضعيف النجاشي له حيث قال: "كان ضعيفاً في الحديث غير معتمد فيه"[11] |
3- شهادة أحمد بن محمد بن عيسى عليه بالغلو والكذب، وإخراجه لسهلٍ من قمّ.[12] | 4- وصفُ الفضل بن شاذان له بالأحمق وأنّه غير مرضيّ عنده.[13] |
5- استثناء ابن الوليد والصدوق وابن نوحٍ الروايات التي يقع في سندها. |
|
|
|
الجهة الثانية: في استخلاص الحكم على ضوء المنهج المقرّر
وقد اتّضح من التصنيف السابق أنّ المعتمدَ في التضعيف هو صراحته في نسبة صفةِ الكذب أو الوضع إلى الراوي، وحيث إنّ عندنا نصّاً صريحاً في التوثيق من الشيخ الطوسيّ معتضداً بالقرائن الأخرى فيحصل من مجموعها مستقلةً الاطمئنان بصدقِ الراوي ووثاقته في النقل والإخبار، أمّا ما دلُّ على التضعيف فليس صريحاً في أنّ وجهَ التضعيف هو اتصاف الراوي بالكذب المنافي للوثاقة في النقل.
أمّا تضعيف الشيخ الطوسي فهو تضعيف بنحوٍ الاطلاق فلا يفيدُ حصول الاطمئنان بكذب الراوي وعدم وثاقته القوليّة وكذلك عدم الرضا عنه من ابن شاذان فضلاً عن القدح فيه بالحماقةِ، حيث قد يكون التضعيف وعدم الرضا عنه باعتبارِ غرابة أحاديثه أو غير ذلك فلا يتعيّن ضعفه من جهةِ أمانته في النقل وصدقه في الإخبار
أما استثناء ابن الوليد والصدوق فلا دلالةَ فيه صريحةً على أنّ وجه الاستثناء هو الكذب، بل إنّ المعروفَ عن طريقة ابن الوليد هو عدم الاعتماد على من يروي عن الضعفاء وغير الثقات فاستثناؤه قد يكون لهذه الجهة لا لكذبه.
أما تضعيف النجاشي بقوله كان ضعيفاً في الحديث فليس صريحاً في كذبه، بل تتبّع كلمات الرجاليين يكشف عن أنّ المراد من هذا التعبير انفراده برواياتٍ غريبةٍ عن السلوك العامّ للمذهب "كما كان يُقال في العبيدي أنّه ضعيف مع أنّه من أجلّ الأصحاب والذي قال فيه العبّاس بن نوحٍ ردّاً على ابن الوليد – حيث استثناه من كتاب النوادر-: وما أدري ما رابه فيه؛ لأنّه كان على ظاهر العدالة والوثاقة"[14]
فتبقى شهادة أحمد بن محمد بن عيسى عليه بالكذب هي الصريحة وقد ناقشها الباحث بوجهين:
الأوّل: أنّه لو كانت شهادةُ أحمد في سهلٍ صريحةً في تكذيبه -كما نقل عنه- لكان التصريح من الرجاليين بكذبه ليس بعزيز مع كونه قريباً لزمانهم، وهذا يدلّ على أنّها لم تصدُر من أحمد بن محمد بن عيسى بهذه الصراحة.
الثاني: لو سلّمنا صراحةَ شهادته على سهلٍ بالكذب إلّا أنّها لا تورث الاطمئنان باتصافه حقيقةً وفعلاً به؛ وذلك لأنّا إذا نظرنا للجوّ العام التي صدرت فيه هذه الشهادة من كونه متصفاً بالضعف ومتهماً بالغلوّ، وذلك لما ينقله من الأحاديث الغريبة، فمن الطبيعيّ لمن يعتقد فيه ذلك أن يعتقد بكذبه في نقله لتلك الروايات، فالحاصل أنّ هذه الشهادةُ لو صحّت فلا تورث الاطمئنان بما شهدت عليه لا سيّما إذا لاحظناها على ضوء ما دلّ على وثاقته فلا يخلو التضعيف هنا من أن يكون إما لغرابةِ أخباره أو لنقله عن الضعفاء والمجاهيل، لا لوجدان صفةِ الكذب فيه.
فانتهى بهذا إلى وثاقةِ سهل بن زياد الآدميّ.
...................................
[1] الوسائل: 116:27، ح 24 الباب 9 من أبواب صفات القاضي (ط آل البيت)
[2] المصدر السابق: 106 ح1
[3] رجال الكشي: 847:2، ح 1088 (ط مؤسسة نشر دانشگاه)
[4] وسائل الشيعة 147:27، ح 33 الباب 11 من أبواب صفات القاضي
[5] والظاهر أنّ الوجه في ذلك أنّ مفهومَ العلمِ هو مجموع القواعد الكليّة التي يجمعها موضوع أو غرض واحد، حيث يشترط في مسائل العلم أن تكون قضيّة كليّة والصغريات الجزئيّة التي تنطبق عليها القواعد ليست من العلم نفسه، أما البحث فليس مشروطاً بكليّةِ قضاياه، فقد يبحثُ في موضوعٍ جزئيّ وتكون الواسطة في إثباتِ الحكم له أمراً جزئياً أيضاً، ومثال ذلك الحكم بوثاقةِ محمد بن يحيى العطار بوساطة شهادةِ النجاشيّ فالحكم والموضوع والواسطة من الجزئيّات.
أما الفقه فهو أيضاً ليس مشروطاً بكليّةِ قضاياه -إن كان بمعنى الفهم الدقيق والاستنباط- فمن فقِه الحديثَ أو الآية أو أي نصّ فنفس الفقهِ ليس بقاعدةٍ كليّة وإن ابتنى عليها كقاعدة حجيّة الظهور أو قاعدة تطابق الدلالة التصوّرية مع الدلالة التصديقيّة مع عدم القرينة فالفقه هو ادراكُ نفس ذلك الظهور من النصّ وانطباق تلك القاعدة على النصّ وكلاهما أمران جزئيّان، فمن ثمّ كان كلام الباحث في أنّ المنهج الرجاليّ هل هو من قبيل العلم أو الفقه؟
ولعلّ قوله: "أقرب للفقه من العلم" إشارة إلى أنّ صفةَ الكليّة غير منفيّة عنها إلّا أنّ قانونيّة القضيّة الكليّة هي المنفيّة أي أنّ الحكم في قضاياه لا يدور وجوداً وعدماً مدار موضوعها كما هو شأنُ الأحكام العقليّة والتعبّدية فلا يمكن القول بأنّه كلّما قال النجاشي: (أنّ راوٍ ما كاذب) ثبتَ ضعفه وإن كان قوله حجّة ونصّاً في التضعيف، فكما أنّ الحديثَ المعتبر لو كان نصّاً في وجوبِ عملٍ لا يثبتُ له الوجوب مطلقاً بنحو الموجبةِ الكليّة فكذلك قول النجاشيّ، وإنّما يدور الحكم بالتضعيف أو الوجوب مدار الاطمئنانِ أو الظنّ المعتبرِ بنفس الحكم لا مدار القضيّة الكليّة، وما القضيّة الكليّة إلّا طريقٍ لحصولهما، ومتى ما ارتفع الاطمئنان والظنّ المعتبر الحاصل من القضيّة الكليّة هذه لم تنطبق في المقام.
[6] بحوث في فقه الرجال 44
[7] بحوث في فقه الرجال 83
[8] رجال الطوسيّ 378، الباب سين الراوي 1 من أصحاب أبي جعفر الثاني (ط جماعة المدرسين)
[9] الفهرست 142، الراوي 4 باب سين
[10] الاستبصار 261:3، ح 13 باب أنّه لا يصحّ الظهار بيمين (ط دار الكتب الإسلاميّة)
[11] رجال النجاشي 185، الراوي 490 (ط جماعة المدرسين)
[12] المصدر السابق
[13] رجال الكشي 566:1، الراوي 1068 (ط مؤسسة نشر دانشگاه)
[14] بحوث في فقه الرجال 176