بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين..
والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيّنا الأمينِ محمَّدٍ وآلهِ الكِرامِ الميامينَ ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّين..
أمَّا بعدُ..
فإنَّا في هذه الرّسالة الوجيزة سنستعرضُ كتابَ الدكتور الفاضِلِ السيّد عيسى بن السّيد جواد الوداعيّ البحرانيّ الموسومَ بــ((الحركة العلميّة في البحرين))..
وسنقف في هذا التعليق السَّريع على الجوانب المميّزة التي وقفنا عليها حينَ قراءتِنا لهذا البحث، وقد زَخَرَ البحثُ بِها، ثمَّ سنقف على تعليقاتٍ بسيطةٍ ونقدٍ لِما وَجدناه في هذا البحثِ من أخطاء بسيطةٍ دقيقة، ونرجو من الله التَّوفيقَ والسَّداد..
"الحركة العلميّة" في سطور.. مميّزاتُه:
تناولَ الباحثُ في هذا الكتابِ قضيَّةً ضروريَّة البحثِ وهي قضيَّة ((المدرسة العلميَّة البحرانيّة))، وقد درسَ النِتاجَ العلميّ البحرانيّ في الفترة الممتدّة من القرن السَّابع الهجريّ إلى القرن الثَّالث عشر الهجريّ مُمثِّلًا لخمسةِ أقسامٍ تمثَّلت في: الفقهِ وعلومِه، والقرآن وعلومه، والحديث وعلومه، وعلمِ الكلام، والعلوم اللغويّة.
وهذه القضيّة قضيّة وَجَبَ الوقوفُ عليها ببحثٍ جادٍّ لإخراجِ كنوزِ العِلْمِ البحرانيّ بمنهجٍ واضحٍ مُحدَّدِ الأطُرِ كما هو حال المدارس العلميّة الأخرى، ثُمَّ إنَّ كُنهَ هذه المدرسةِ من حيثُ كونِها دينيّة أو لغويّة أو كليهما على امتدادِ العصورِ واجِبُ الإثباتِ، وهو ما عَمَدَ لإثباتِه الوداعيّ بمنهجٍ استدلاليٍّ رصينٍ، ولكنَّ قِلَّة الأخبارِ وضياع الآثارِ العلميّة البحرانيّة والاكتفاءِ بذكرِ اسم المصنَّفاتِ حالَ بين الباحثِ وبينَ منهجِه في مواضِعَ قليلة، ولعلَّ أغلَبها كانَ في الاستدلال على الحركة اللغويّة، وقد بيّن الباحثُ سبب القصورِ في كلِّ مَوضِعٍ اضطُرَّ لتجاوزِ الدّليلِ فيه. وقد حاولَ الباحثُ الالتزام بهذا المنهجِ في بحثِهِ كُلِّه بتخيُّرِه ما يُعضِّدُ استنتاجاتِه في جُلِّ المواضِع؛ فكانَ يذكرُ المصنَّفَ ومُصنِّفَهُ ويستنتجُ ويُدلِّلُ على استنتاجِه بعد الاستنباطِ والتَّحليل، وهذا جهدٌ مشكورٌ يجعلُ كتابَه أوَّلَ كتابٍ يتناولُ المدرسة البحرانيّة ويغوصُ في مكامنها بمنهجيّة واضحة.
وقد أظهَرَ الباحثُ في استدلالاتِه عُمقَ بَحثِه وسَعَةَ اطّلاعِه؛ فقد كانَ يستنتجُ ارتباطَ العالم البحرانيّ بعَلَمٍ من الأعلامِ مُدَلِّلًا على ذلك بالرّجوعِ إلى مصنّفاتٍ موسوعيّة كما فعل في رجوعه لــ((أمل الآمل)) للحرّ العامليّ، و((الروضة البهية)) للشهيدِ الأوَّلِ، و((الحدائق الناضرة)) للشيخ يوسف البحرانيّ، و((كشف المراد في شرحِ تجريد الاعتقاد)) للعلَّامة الحلّيّ، وكذا في رجوعِه لكتب عدّة في تناولِه للموضوع الواحدِ كما فعل في تناولِه لشخصيّة الشيخ ميثم؛ فرجع لكتابَيْنِ تناولا شخصيّته؛ أحدهما للشيخ فاضل الزّاكي، وثانيهما لعبدالله اليوسف، وكما رجع لكتاب البرهان والعرفان لعلي أبو الخير ليستمدّ منه مَعلمًا من معالم شخصيّة الشيخ ميثم، وغيرها من المراجع.
ويمكننا رؤيّة شخصيّة الباحث النقديّة المُطَّلِعَة في ردّه على نقدِ العلَّامة الشّيخ يوسف العصفور للسيّد هاشم التّوبلانيّ بحصرِه في دائرة الحديث والجَمع دونَ غيرِها[1]؛ فَرَدَّ عليهِ رَدًّا وافِيًا مُستَدِلًّا بالحجج والبراهين، وكذا في مناقشتِه لأدلّة منع الشّيخ عبدالله السّماهيجيّ لعِلمِ الكلام ودراسَتِه وتعريضِه بدارِسيِه في كتابِه ((منية الممارسين في أجوبة الشّيخ ياسين))[2]؛ فقد ناقَشَ هذه الأدلّة وعارَضَها بالأدلّة والحجج القاصِمَةِ حتَّى تمكَّنَ من الردّ على الشّيخِ وما ذَهَبَ إليه ردًّا وافِيًا.
وقد تميّز الباحثُ في تناولِه لشخصيّة الشّيخ محمّد بن عليّ المقابيّ من خلالِ مَخطوطٍ عندَه يأمَلُ اهتمامَ المُحقِّقينَ به لإخراجِه للنور؛ فقد تناولَ منهجَ المقابيّ في كتابِه ((صفوة الصّافي والبرهان)) بإخراجِ الفضلِ للمقابيّ في منهجِه في الاختصارِ، وهو ما أسهَبَ فيه بوضوحٍ واستدلالٍ يُدخِلُ القارئَ بينَ صفحاتِ الكتاب. وبحمدِ الله انتهى الباحثِ -حالَ كتابَةِ هذا التعليقِ- من إصدارِ كتابٍ عن شخصيّة هذا العالِم أسماهُ بــ((العلّامة الشّيخ محمّد بن عليّ المقابيّ: قراءات في التّاريخ والمنهج)).
ولعلّ من أهمّ ما وثَّقه الباحثُ في كتابِه هذا هو إفرادُه لقائمةٍ في أواخرِ الكتابِ للغوِيِّي البحرين، وقد حَصَرَهم ومؤلَّفاتِهم في سبعةٍ وعشرينَ عالمًا لغويًّا، وهذه إشارةٌ وتسهيلٌ للباحثينَ اللُّغويِّينَ من بلدِنا العريقِ للبحثِ عن هذه الأسماءِ والاطّلاعِ على غيرِها من المصادرِ التي أحالَ عليها الباحث.
وقد أشارَ الدكتورُ الوداعيّ في عِدَّةِ مواضعَ إلى مواطن بحثٍ ودراسةٍ، وذلك مثلما فَعَلَ حينَ انتهى من استعراضِ منهج الشّيخ عبدالله بن عبَّاس الستريّ المعروف بــ((المُقلَّد)) في تفسيرِه للقرآنِ في كتابِه الموسومِ بــ((نزهة النَّاظرين في تفسير القرآن المبين)) فقال: "وصفوة القولِ -هنا- أنَّ هذا التفسير بحاجة إلى مَنْ يقرؤه قراءةً فاحِصةً متأنّية؛ فيقف على منهج الستريّ فيه، ويبيّن مصادر ذلك التفسير، والمسائل اللغويّة التي اهتمّ بها، وموقفه من النحويّين وغيرهم، إلى غيرِ ذلك من المسائل"[3]، وكما فَعلَ في بعد انتهائه من دراسَةِ علم الكلامِ عند الشّيخ ميثم البحرانيّ فقال: "وزبدة المقال أنّ آراء الشّيخ ميثم الكلاميّة، وأنظاره الفلسفيّة بحاجة إلى من يتتبعها من الباحثين، فهي ما تزال ميدانًا بكرًا، ينتظرُ من يفضُّ ختمَه، فيستقرئ ما بثَّه من آراء في ((شرح نهج البلاغة)) و((قواعد المرام)) وغيرهما من آراء...".[4]
ولا يمكن تجاوزُ أمرٍ جليلِ الأهميّة يكمنُ في نفاسة الكتابِ لِما رُجِعَ إليه من مخطوطاتٍ وكتبٍ غير مُحقَّقة يحتفظ الباحث بنسخةٍ منها، وقد بَلَغَ عدد هذه المصادر الستّة عشرَ مصدرًا مخطوطًا! فأينَ الباحثونَ والمُحقِّقونَ عن هذه النفائس!
تعليقٌ ونقد:
ومَعَ ما في البَحثِ من رصانَةٍ وتميّزٍ إلَّا إنَّه قد وَقَعَ في بعضِ الزلَّاتِ التي لا تَعدو أن تكونَ مُجرَّدَ سَهوٍ يَقَعُ فيه الكثيرون، وجلَّ مَن لا يَسهو! ونعدِّدها في نقاطٍ:
- وجدنا في هذا البحثِ بعضًا من الأخطاءِ الطباعيّة التي لا تمسّ الباحثَ بشيء، ولكنّها أخطاءٌ وَقَعَت في الطّبعة الثَّانية من الكتابِ، ووقعت بَعدَ تدقيقٍ وتنقيحٍ من الطبعة الأولى كما وَرَدَ في المقدّمة! وهذا ما يُستَغَرَب لا غير. ومنها إبدال الياء باءً في قولِه: "الشهبد الأوَّل"[5]، وعكس أقواس الاقتباس في متن الصفحة 159، وغيرها من أخطاءِ الحاشية الطباعيّة من تكرارٍ وإغفال لعلامات الترقيم وأرقام الصفحات.
- أغفَلَ الباحثُ في بعضِ المواضِعِ ذكر صفحة المصدرِ حينَ أحالَ عليه في حاشيةِ الكتابِ، وهو ما كان في ذكرِه لكتابِ ((لؤلؤة البحرين)) للشَّيخ يوسف البحرانيّ في ص61، وذكره كتاب ((جواهر البحرين)) للشّيخ عبدالله السّماهيجيّ في ص116، وأغفَلَ ذكرَ صيغة مصدر ((كشف المراد)) للعلّامة الحلّي في قائمة المصادر والمراجع مع رجوعِه إليه في متن الكتاب في ص132، كَما كَرَّر صيغة المصدرِ الطّويلَة في ذكرِه لكتاب ((الآيات النَّاسخة والمنسوخة)) للشَّيخ أحمد ابن المتوّج البحرانيّ في ص81 وص82.
- وقَعَ الباحثُ في أواخِرِ بحثِه في خطإٍ فادح تمثَّل في إسنادِ المُصنَّفِ لِمُصنِّفَيْن! فقد انتهى في قائمة اللغويَّين البحرانيِّنَ إلى "الشَّيخ عبد الله بن أحمد آل طعَّان (1298 هــ / 1881م)، [الذي] لَه كتاب التحف النحويّة في شرح الآجرّوميّة.."[6]، وكرَّرَ بَعدَ عدّة صَفحاتٍ ذاتَ الكتابِ لأبي المُصنِّف المذكورِ آنِفًا فقال: "والتحف النحويَّة، للشّيخ أحمد آل طعَّان (1298 هــ / 1881م)."[7]، وإنَّا -وإنْ كان الخطأ غريبًا- نظنُّ أنَّ السَّهوَ عن ذكرِ اسم الابنِ (عبدالله) هوَ السّبب لا غير.
خِتام..
ولا يسعنا في نهايةِ هذا المقالِ إلَّا الثَّناءُ على هذا الجهدِ العَظِيمِ المبذولِ من الباحثِ في محاولتِه إرساءَ تلك القواعد للمدرسة البحرانيّة العريقة وإبرازها في السَّاحة العلميَّة بمنهجيّة راسخةٍ واضحة..
أسألُ الله أن يوفِّقَه للعلمِ والتّقوى، وأنْ يجودَ عليهِ بفضلِه وجودِه إنَّه جوادٌ كَريم..
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين..
وصلَّى اللهُ على سيّدنا محمَّدٍ وآلِه الطيّبينَ الطّاهرينَ..
بقلمِ: عمَّار محمَّد عليّ يعقوب المعاميريّ البحرانيّ
18 رمضان المبارك 1445 هـــ
29 مارس 2024م
..........................................
[1] انظر: الوداعي، عيسى السيّد جواد، الحركة العلميّة في البحرين، بيروت: مركز أوال للدراسات والتوثيق، ط1، (2015م)، ص104 - 106.
[2] الوداعيّ، الحركة العلميّة، ص137 - 142.
[3] الوداعيّ، الحركة العلميّة، ص100.
[4] المصدر نفسُه، ص132.
[5] الوداعيّ، الحركة العلميّة، ص64.
[6] المصدرُ نفسُه، ص164.
[7] الوداعيّ، الحركة العلميّة، ص171.