البعد الفكري هو الدعامة الأساسية لحركة الإنسان في مسيرة حياته الدنيوية والأخروية، سواء كانت الحركة في مسارها الإيجابي الذي يؤول إلى النعيم، أم السلبي الذي يؤول إلى الجحيم، فالمعرفة أصل كل شئ وحقيقته، وقد أشار الإمام علي (ع) إلى هذه المسألة في حديثه مع كميل ابن زياد (رضوان الله تعالى عليه) حيث قال (ع) له: "يا كميل، لا تأخذ إلا عنا تكن منا، ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة"[1]. وحتى الثورات ــ بغض النظر عن إيديولوجياتها ورؤاها الكونية ــ هي في الأصل ثورات ثقافية قبل أن تكون ثورات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وتقويض تلك الثورات وزعزعة أركانها إنما يتحقق أيضا بتجفيف المنابع الثقافية والفكرية لتلك الثورات من خلال عملية الاستئصال وطرح البديل أو عملية التشويه والتمييع أو غيرها من وسائل القمع والإرهاب الفكري. ولأهمية البعد الفكري ـ مع التسليم ببقية الأبعاد وأهميتها ـ نرى بأن الغارات الثقافية التي تشن من خلال الكلمات المسموعة أو المقروءة ــ والتي هي أشد ضراوة من الغارات العسكرية ــ قد استهدفت الساحة الثقافية الإسلامية لتدمير العقل الإسلامي وتغريبه وفصله عن هويته القرآنية، وقد أطلق الفقهاء في الكتب الفقهية على هذه الكلمات المقروءة المنطلقة من تلك الغارات الثقافية اسم «كتب الضلال» وأفتوا بحرمة حفظها ونسخها لغير النقض والحجة عليها بلا خلاف[2]. والضلال هو ما خالف الحق واقعا[3]، أما كتب الضلال فهي كل ما وضع لغرض الإضلال وإغواء الناس، وأوجب الضلالة والغواية في الاعتقادات والفروع، فيشمل كتب الفحش والهجو والسخرية، وكتب القصص والحكايات والجرائد المشتملة على الضلالة، وبعض كتب الحكمة والعرفان والسحر والكهانة مما يوجب الضلال[4].
يقول السيد مصطفى الخميني في (مستند تحرير الوسيلة 1: 411): "يندرج في المسألة الكتب الفلسفية المشتملة على شبهات عقلية في المبدأ والمعاد، ومغالطات علمية في التوحيد وغيره مما لا يسلم منها إلا الأوحدي، وأما الكتب المضلة عن سواء السبيل والمرغبة في المعاصي والفسق والباعثة إلى المفاسد الأخلاقية، فهي أيضا ربما تكون منها ومنها الصحف والجرائد والمنشورات الرائجة في عصرنا المشتملة على الفواحش". ويقول المحقق الأردبيلي في (مجمع الفائدة 8: 75): "ولعل المراد بكتب الضلال أعم من كتب الأديان المنسوخة والكتب المخالفة للحق أصولا وفروعا، والأحاديث المعلوم كونها موضوعة، لا الأحاديث التي رواها الضعاف لمذهبهم ولفسقهم مع احتمال الصدور. ـ أي رواها الضعاف بسبب مذهبهم الفاسد أو بسبب فسقهم". وأيضا جاء في كتاب (منهاج الصالحين للسيد السيستاني 2: 14، مسألة: 36): "المقصود بكتب الضلال ما يشتمل على العقائد والآراء الباطلة سواء كانت مخالفة للدين أو المذهب"، ومنها أيضا الكتب المهاجمة لشيعة أهل بيت العصمة (ع)[5].
المقصود من حفظ كتب الضلال هو حفظها في الصدر أو حفظها بمعنى صيانتها عن أسباب التلف[6]، وقال الشهيد الثاني في (شرح اللمعة 3: 214) في معرض حديثه عن حرمة حفظ كتب الضلال ونسخها ودرسها: "وحفظ كتب الضلال عن التلف أو عن ظهر القلب، ونسخها ودرسها، قراءة ومطالعة ومذاكرة، لغير النقض لها أو الحجة على أهلها بما اشتملت عليه مما يصلح دليلا لإثبات الحق أو نقض الباطل لمن كان من أهلها". وليس مطلق القراءة ممنوعا، بل القراءة الممنوعة هي الملازمة للأثر الفاسد شخصا أو نوعا[7]، فلهذا يستثني الفقهاء الحكم بالحرمة فيما لو أمن المكلف من الضلال أو فيما لو كانت هناك مصلحة أهم[8]، وأما مجرد الاطلاع على مطالبها فليس من الأغراض الصحيحة المجوزة لحفظها لغالب الناس من العوام الذين يُخشى عليهم من الضلال والزلل، فاللازم على أمثالهم التجنب عن الكتب المشتملة على ما يخالف عقائد المسلمين[9]، ومعنى ذلك أنه لا دليل على حرمة حفظ كتب الضلال من حيث هو، نعم لو ترتب عليه الإضلال حرم من جهة حرمة إضلال الناس عن الحق[10].
هذه هي النظرة المجملة لكتب الضلال من الناحية الفقهية، ولا يخفى بأن بعض الكتب التي يُروج لها تحت ذريعة التجديد والتطوير والتنوير المترشحة من الفكر الغربي ومناهجه من خلال ما يُسمى بالأبحاث المعرفية لمنظومة الحداثة الفكرية، إن كان غرضها تمييع الفكر الإسلامي الأصيل وسرقة الالتزام وإطفاء وهج التدين في النفوس، داخلة في عنوان (كتب الضلال) علما بأن وعي الفرد والمجتمع وتحصنهما بالثقافة القرآنية، وأمنهما من الضلال، قد يرفع الحكم من الحرمة إلى الجواز، بل إلى الوجوب (العيني أو الكفائي)، كما في مقام الاحتجاج والدفاع عن العقيدة لمن كانت له أهلية لذلك.. على كل حال، هناك اتجاهان متباينان في الوسط الإسلامي مارسا عملية التنظير لتحديد كيفية التعاطي مع تلك الكتب في ظل الصراع الثقافي المحتدم بين مختلف التيارات الفكرية، وكل من الاتجاهين له مبرراته الموضوعية في نظره.
الاتجاه الأول: يقول أصحاب هذا الاتجاه: إن الحرية الفكرية التي تسمح بطرح الأفكار في ساحة الفكر على مستوى حركة الصراع لا تؤدي ــ دوما ــ إلى الضلال، بل ربما تقوي جانب الحق عندما يكتشف الناس من خلال المقارنة نقاط الضعف التي يختزنها الباطل ونقاط القوة التي تتمثل بالحق، لا سيما إذا كانت الملاحقة سريعة ومتتابعة بحيث لا يطرح فكر إلا ويبادر الفكر الآخر إلى مواجهته، لأن الفكر المضاد قد يتحول من المواقع العلنية إلى المواقع السرية، وبذلك يتحرك هذا اللون من الفكر بعيدا عن الرقابة الفكرية الإسلامية التي قد تستطيع مواجهته بالحوار والمناقشة والرفض العلمي الدقيق، علما بأن المواقع السرية للفكر تجذب الكثيرين للانتماء إليها من خلال ما تتضمنه من عنصر الغرابة، بل ربما كان اضطهاد الفكر الآخر وسيلة من وسائل تقويته والتفاف الناس حوله، لأن الاضطهاد يحول الفكر الآخر إلى ضحية إنسانية تكتسب عاطفة الناس الذين يتعاطفون مع الضحية غالبا، إضافة إلى أن حركة الحرية في العالم تجعل الفكر المضطهد شهيدا، ولذلك، إذا أردنا أن نحارب الفكر الآخر فعلينا أن نعطيه الحرية ليأخذ حجمه الطبيعي، بينما إذا أردنا تقويته فعلينا أن نلغي حريته فمحاصرة الكاتب تجعل منه بطل الحرية، ومحاصرة الكتاب تجعل منه كتاب الحريات، ــ ويضيف أصحاب هذا الاتجاه:
إن الفكر عندما يلتقي بالفكر الآخر في ساحة حوار أو صراع، فإنه يمنح الفكر غنى، لأنه يفتح له آفاقا جديدة من خلال عناصر الفكر الذي يطرحه الإنسان الآخر بحيث أن الشخص عندما يملك حجة على فكره ويطرح الآخر فكره المضاد أو المختلف، فقد يكتشف بعض الثغرات الموجودة لديه في فكره، مما يجعله يدخل في تفكير جديد لسد هذه الثغرات، أو لمجابهة الفكر الآخر بعناصر جديدة من خلال فكره أو من خلال ما تحمله حركة الصراع في الساحة.
الاتجاه الثاني: يقول أصحاب هذا الاتجاه: إن الإسلام لا يلتزم بالحرية المطلقة، لأن أي فكر مضاد فهو فكر الباطل الذي يتسع للكفر والضلال، مما يجعل من حرية الدعوة إليه أو نشره وسيلة من وسائل تشجيع الباطل على الامتداد والتوسع في الواقع الإنساني، وهذا أمر مرفوض عقلا، لأن العقل يحكم بوجوب قطع مادة الفساد، ومرفوض شرعا، لأن الله عز وجل قد أنزل رسالته ليحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، فكيف يسمح للكافرين بتأكيد فكرهم بالدعوة إليه بكل الوسائل المتاحة لهم؟ وإذا كان إعطاء الحرية للباطل من موجبات تحجيمه، وإعطاء الحرية للضلال من موجبات محاصرته، فلماذا شرع الله عز وجل النهي عن المنكر؟ فليعط للمنكر حريته فإنه يحاصره ويحجمه، أليس الباطل والضلال من جملة المنكرات؟ وإذا صحت تلك الدعوى فلا بد أن يصح العكس، فيقال: إذا سُلبت حرية الهدى فإنه ينتشر، وإذا سلبت حرية الحق فإنه ينطلق ويكبر.
أما مسألة محاصرة الكاتب والكتاب، فيجيب عليها أصحاب هذا الاتجاه: إذا التزمنا بذلك فإن حكم الفقهاء في حق الكاتب المرتد سليمان رشدي مثلا، تصبح بلا مبرر، بل إن ذلك الحكم أصبح جريمة كبرى، لأنه تسبب بتقوية كتاب (آيات شيطانية) وجعل منه كتاب الحريات، وجعل أيضا من كاتبه المرتد بطل الحرية، علما بأن المرتد الفطري وهو الذي وُلد على الإسلام من أبوين مسلمين أو من أبوين أحدهما مسلم، يجب قتله وتبين منه زوجته وتعتد عدة الوفاة، وتقسم أمواله حال ردته بين ورثته[11]، ويضيف أصحاب هذا الاتجاه:
إن المستشرقين هم أول من صاغ القناعة السائدة ــ حاليا ــ في الغرب، والتي يرددها أيضا المثقفون المتغربون، والقائلة بوجود علاقة تناقضية بين الالتزام الديني في الإسلام وبين حرية الفكر، ويستدلون على تأخر العالم الإسلامي بهذه العلاقة التي أنتجت سيادة لون واحد من التفكير وغلبة الرقابة التي تمثلها المؤسسة الدينية على ألوان النشاط الفكري، والرقابة الذاتية التي يفرضها الفرد المسلم على نفسه خشية خروجه عن الإطار الإسلامي، وقد مارس الغرب لعبته الثقافية مهاجما الإسلام ومستهدفا إعادة النموذج الأوروبي في الساحة الثقافية الإسلامية، فلا بد من مقاومته وعرقلة مخططاته.
قبل أن نحدد الاتجاه الصحيح في مسالة التعاطي مع كتب الضلال، لابد أن نشير إلى مفهوم الحرية وحدودها على ضوء النظريتين (الإسلامية والغربية) ولو بشكل إجمالي.
إن الحرية ــ كما يراها السيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه القيم (المدرسة الإسلامية) ــ في معناها العام هي عبارة عن نفي سيطرة الغير، ويقول في ص85: "وهذا المعنى هو الذي نستطيع أن نجده في كل من الحضارتين (الإسلامية والرأسمالية) وإن اختلف إطاره وقاعدته الفكرية في كل منهما"، بيد أن الحرية في الحضارة الرأسمالية ولدت من رحم التشكيك والقلق العقلي الذي عصف بكل المسلمات الفكرية فلم تعد هناك حقائق عُليا لا يباح إنكارها مادام الشك يمتد إلى كل المجالات. ويعلق الشهيد الصدر في ص88 على تلك المرحلة التي عاشها العقل الغربي حينما كبل بديهياته بسلاسل التشكيك: "وهكذا ألقى فجأة وبيد مرعوبة كل بديهياته بالأمس، وأخذ يحاول الخلاص من الإطار الذي عاش فيه آلاف السنين"، بينما الحرية في الحضارة الإسلامية ترتكز على يقين ثابت ألا وهو الإيمان بالله سبحانه وتعالى والإقرار له بالعبودية المخلصة. وأيضا الحرية في الحضارة الغربية عبارة عن حق طبيعي للإنسان، له أن يتنازل عنه متى شاء، حيث إن كل إنسان هو في حقيقته مالك لنفسه، ويستطيع أن يتصرف فيها كما يحلو له، دون أن يخضع لأية سلطة خارجية، وهي ليست كذلك في الحضارة الإسلامية، حيث إن الحرية في الإسلام ترتبط ارتباطا وثيقا بالعبودية لله سبحانه وتعالى، فلابد للإنسان أن يتعاطى مع الحرية في الإطار الذي ينسجم مع تلك العبودية، ونتيجة لهذا الفهم الخاطئ لمفهوم الحرية في الحضارة الغربية، نرى بأن الإنسان الغربي ــ كما يقول الشهيد الصدر في ص89: "قد كفر عمليا بالنظرة الدينية إلى الحياة والكون وصلتها الروحية بالخالق وما ينتظر الإنسان من ثواب وعقاب، وعادت الحياة في نظره فرصة للظفر بأكبر نصيب ممكن من اللذة والمتعة المادية". وقد قسم الشهيد الصدر في ص93 الحرية الديمقراطية الرأسمالية إلى قسمين:
القسم الأول: الحرية في المجال الشخصي للإنسان، وهي ما تطلق عليه الديمقراطية اسم (الحرية الشخصية).
القسم الثاني: الحرية في المجال الاجتماعي، وهي تشمل الحريات الفكرية والسياسية والإقتصادية.
تعالج الحرية الشخصية سلوك الإنسان بوصفه فردا، سواء كان يعيش بصورة مستقلة أو جزءا من مجتمع، أما الحرية في المجال الاجتماعي فهي تعالج الإنسان بوصفه فردا يعيش في ضمن جماعة، فتسمح له بالإعلان عن أفكاره للآخرين كما يحلو له، وتمنحه الحق في تقرير نوع السلطة الحاكمة، وتفتح أمامه السبيل لمختلف ألوان النشاط الاقتصادي تبعا لقدرته وهواه. ويضيف الشهيد الصدر في ص94:
"حرصت الحضارة الغربية الحديثة على توفير أكبر نصيب ممكن من الحرية لكل فرد في سلوكه الخاص وهو القدر الذي لا يتعارض مع حريات الآخرين، فلا تنتهي حرية كل فرد إلا من حيث تبدأ حريات الأفراد الآخرين، وليس من المهم لديها طريقة استعمالهم لها، والنتائج التي تتمخض عنها، فالمخمور مثلا لا حرج عليه أن يشرب ما شاء من الخمر، ويضحي بآخر ذرة من وعيه وإدراكه، لأن من حقه أن يتمتع بهذه الحرية في سلوكه الخاص ما لم يتعرض هذا المخمور طريق الآخرين أو يصبح خطرا على حياتهم بوجه من الوجوه"، بينما الخمر في الإسلام يحرم شربه بالضرورة من الدين، بحيث يُحكم بكفر مستحله مع التفاته إلى أن لازمه إنكار رسالة النبي (ص) في الجملة بتكذيبه (ص) في تبليغ حرمته عن الله تعالى، وأما شربه من دون استحلاله فهو فسق[12].
بعدها يتعرض الشهيد الصدر في ص105للحرية الفكرية ويقول: "الحرية الفكرية في الحضارة الغربية تعني السماح لأي فرد أن يفكر ويعلن عن أفكاره ويدعو إليها كما يشاء، على أن لا يمس فكرة الحرية والأسس التي ترتكز عليها، ولهذا تسعى المجتمعات الديمقراطية إلى مناوءة الأفكار الفاشستية والتحديد من حريتها أو القضاء عليها، لأن هذه الأفكار تحارب نفس الأفكار الأساسية والقاعدة الفكرية التي تقوم عليها فكرة الحرية والأسس الديمقراطية. والإسلام يختلف عن الديمقراطية الرأسمالية في هذا الموقف، نتيجة لاختلافه عنها في طبيعة القاعدة الفكرية التي يتبناها، وهي التوحيد وربط الكون برب واحد، فهو يسمح للفكر الإنساني أن ينطلق ويعلن عن نفسه، ما لم يتمرد على قاعدته الفكرية التي هي الأساس الحقيقي لتوفير الحرية للإنسان في نظر الإسلام ومنحه شخصيته الحرة الكريمة التي لا تذوب أمام الشهوات، ولا تركع بين يدي الأصنام".
نعم، قد يتوقف الفكر حينما لا يمتلك أدوات المعرفة التي يتحرك من خلالها، كالتفكر في ذات الله عز وجل المنهي عنه في النصوص الدينية (تفكروا في خلق الله، ولا تتفكروا في الله فتهلكوا)[13]. والنتيجة التي يستخلصها الشهيد الصدر هي (أن الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية تسمحان بالحرية الفكرية بالدرجة التي لا ينجم عنها خطر على القاعدة الأساسية، وبالتالي على الحرية نفسها). وهناك نماذج كثيرة توضح عملية إقصاء الفكر الغربي للفكر المناوئ له، سواء كان شيوعيا أم إسلاميا، فهذا كتاب (الحرب الباردة الثقافية) من تأليف فرانسيس ستونز والذي يتناول فيه المؤلف دور الاستخبارات المركزية الأمريكية و منظمة الحرية الثقافية التابعة لها في عالم الفنون والآداب أبان الحرب الثقافية الباردة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وذلك باستخدام الثقافة كوسيلة لتغيير أذهان الشعوب، وتشجيعها على كراهية الشيوعية وتقبل النموذج الرأسمالي. وأيضا هناك كتاب (عولمة الكراهية) من تأليف أحمد طحان والذي يبين فيه المؤلف الحرب الثقافية التي شنها الغرب على الحضارة الإسلامية لإلغائها، إضافة إلى أن الواقع المعاصر في شتى مجالاته يحكي عن قصة إلغاء الغرب للآخر بحروفها التي يقرؤها فاقد البصيرة فضلا عن البصر، والتي نسجت فصولها تحت ذريعة (الحرب على الإرهاب).
بعد هذه الإطلالة العابرة على مفهوم الحرية وحدودها في الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، يمكننا أن نقول بأن الاتجاه الصحيح في مسألة التعاطي مع كتب الضلال يختلف تبعا لاختلاف طبيعة القوة والمواقع والآليات التي يمتلكها الإسلام في سيطرته على الجو العام وأيضا يختلف باختلاف الساحات التي تُتداول فيها تلك الكتب، فلا مشكلة حينما يمتلك الإسلام عناصر القوة، فتتحرك تلك الأفكار في فضاء الساحات الثقافية والفكرية على فرض وجود فئة متخصصة كفوءة من المثقفين والمفكرين الإسلاميين المخلصين، والمتصدين لكشف الحقائق ورد الشبهات في إطار المساجلة الفكرية والثقافية مع الآخر على ضوء المنهج العلمي الذي يتفاعل مع الحقيقة.
أما في الساحات العامة التي تفتقر إلى العناصر الثقافية والطاقات الفكرية الفاعلة والملتزمة، فلا يجوز السماح لكتب الضلال أن تتحرك في تلك الساحات، ولا يجوز المساهمة في ترويجها تحت ذريعة حرية الفكر أو غيرها من العناوين، حيث إن السماح لهذا الفكر بالانطلاق في ظل تلك الظروف قد يربك الواقع ويهدم الأسس الإيمانية، ويعكر صفو الماء في الفطرة السليمة، فلابد حينئذ من رصدها وملاحقتها، باعتبارها (غدة سرطانية) يجب اجتثاثها من جسد الساحات العامة، فلا يجوز شراؤها وإمساكها وحفظها، بل يجب إتلافها[14].
وقد انطلق هذا الأسلوب الوقائي من أجل حفظ العقيدة وصيانة المجتمع عن الانحراف العقائدي والفساد الفكري، لئلا يختطف سراق العقيدة هذه الثروة الإنسانية التي لا نظير لها[15].
بإمكاننا أن نستخلص هذا الاتجاه أيضا من حركة الشهيد مطهري الفكرية، حيث إن مطهري على الرغم من كونه فقيها ومفكرا إسلاميا، كان أستاذا جامعيا لمدة نيفت على العشرين عاما في (كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية)، وقد انتبه قبل بضع سنوات من انتصار الثورة الإسلامية إلى أن أحد الأساتذة كان يُروج في (كلية الإلهيات) للفلسفة المادية، ويقوم بالدعاية للمادية الديالكتيكية بين الطلاب، ويتحرك ضد الفلسفة الإسلامية!
أثار تصرف ذلك الأستاذ ردود فعل الطلبة، فتأزمت الأوضاع حتى كادت تخل بالجو الدراسي، فما كان من الشهيد مطهري ـ وهو يرأس قسم الفلسفة في الكلية ـ إلا أن بعث برسالة رسمية إلى الهيئة العلمية طالبا فيها تأسيس كرسي للمادية الديالكتيكية في تلك الكلية، وأكد على ضرورة أن يضطلع أستاذ ملم ومؤمن بالمادية الديالكتيكية بتدريس المادة[16]. ويضيف الشهيد مطهري في تعليقه على هذه الواقعة:
"هذا هو الأسلوب الصحيح لمواجهة المسألة، أما إذا أراد شخص أن يؤثر على الطلبة السذج وضئيلي الثقافة بالدعاية بينهم خفية وعن طريق الإغواء والخداع، فهذا لا يجوز، وقد اقترحت على ذلك الأستاذ مرارا بأن يبادلني آراءه بدلا من عرضها على فئة الطلبة، وقلت له دعنا نتبادل الآراء أمام الطلبة أنفسهم"، فمن الملاحظ في هذه الواقعة أن الشهيد مطهري قد فسح المجال لذلك الأستاذ الذي يؤمن بالفكر المادي في إطار المنهج العلمي، ويكون الشهيد مطهري نفسه محاورا له، وفي الوقت نفسه يرفض الشهيد مطهري أن يروج ذلك الأستاذ فكره المادي بين أوساط الطلبة، ويحذر من خطورة الثقافات الأجنبية على الإسلام حيث قال: "إني أحذر قادة النهضة العظماء وأتم الحجة عليهم بيني وبين الله عز وجل، بأن إشاعة ونشر الثقافات الأجنبية باسم الفكر الإسلامي وماركته الإسلامية، سواء كان ذلك عن سوء قصد أم لا، خطر يهدد كيان الإسلام"[17].
ختاما، وبعد أن اتضحت ملامح هذا الاتجاه ومعالمه، أود أن أشير إلى ضرورة الارتقاء والتكامل الثقافي والفكري الإسلامي الأصيل في أوساط شرائح المجتمع والساحات العامة، من خلال قيام (علماء الدين والمثقفين والمفكرين الملتزمين بالنهج الإسلامي الأصيل) بدورهم التبليغي الهادف، من أجل تحصين ثغور الإسلام العقائدية والأخلاقية والسلوكية، حيث إن الساحات العامة لا تتحمل الفراغ العقائدي والأخلاقي والسلوكي، وبذلك يتخندق الجميع في خندق واحد لتحصيل شرف الدفاع عن الإسلام وخدمته، وذاك شرف ليس فوقه شرف.
[1] - ميزان الحكمة، الريشهري، الحديث: 7421
[2] - منتهى المطلب، العلامة الحلي 2: 1013
[3] - مستند الشيعة، النراقي 14: 157
[4] - مصباح الفقاهة، الخوئي 1: 254
[5] - هداية العباد، الكلبيكاني 1: 341
[6] - جامع المقاصد، المحقق الكركي 4: 26
[7] - مستند تحرير الوسيلة، السيد مصطفى الخميني: 411
[8] - منهاج الصالحين، الخوئي 2: 9، مسألة: 33
[9] - تحرير الوسيلة، روح الله الخميني 1: 498، مسألة: 15
[10] - فقه الصادق (ع)، الروحاني 14: 266
[11] - تكملة منهاج الصالحين، الخوئي: 53
[12] - منهاج الصالحين، السيستاني 3: 303
[13] - ميزان الحكمة، الريشهري 3: 1892
[14] - تحرير الوسيلة، روح الله الخميني 1: 498
[15] - مجموعة الرسائل، لطف الله الصافي 1: 284
[16] - حول الثورة الإسلامية، مرتضى مطهري: 12
[17] - رمز نجاح الشهيد مطهري، علي نصر آبادي: 219