قال تعالى ﴿أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ[1]﴾
هذه الآية وما بعدها في مقام امتنان الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله بمجموعة من المنن فقال تعالى ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ () وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ () الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ () وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ[2]﴾
والانشراح ضد الضيق قال تعالى ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ[3]﴾
الشرح في اللغة:
جاء في تاج العروس لمرتضى الزبيدي : "شَرَحَ كَمَنَع: كَشَفَ، يقال: شَرحَ فُلانٌ أَمْرَه؛ أَي أَوْضَحَه. وشَرَحَ مَسْأَلةً مُشْكِلةً: بَيَّنَها، وهو مَجاز. وشَرَح: قَطَعَ اللَّحْمَ عن العُضوِ قَطْعًا. وقيل: قَطَعَ اللَّحْمَ على العَظْمِ قَطْعًا، كشَرَّحَ تَشْرِيحًا، في الأَخير. وشَرَحَ الشَّيْءَ يَشْرَحُه شَرْحًا: فَتَحَ وبَيَّنَ وكَشَفَ. وكُلُّ ما فُتِحَ من الجَوَاهرِ فقد شُرِحَ، أَيضًا، تقول: شَرَحْتُ الغَامِضَ، إِذا فَسَّرْتَه، ومنه تَشْرِيحُ اللَّحْمِ"
شرح صدر النبوة:
أن يشرح الله للنبي صدره فهو إرادة إلهية لتوسيعه بما يتناسب مع مقام نبوته وقيادته فيكون الشرح باتجاهين:
الاتجاه الأول: التوسعة العلمية إذ النبوة اتصال بين السماء والأرض ولا يمكن لأي مخلوق أن يستوعب ما تستوعبه عقول الأنبياء، إذ يكشف لهم عن حقائق الأشياء قال تعالى ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا[4]﴾ والنبي الخاتم معلم للأمة الخاتمة ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[5]﴾ فمن يكون معلما للأمة يكون أعلمهم على كل المستويات حتى قيام الساعة.
الاتجاه الثاني: المستوى القيادي وهي قيادة هداية البشر بكافة أطيافهم وانتماءاتهم وأعراقهم إلى الإيمان بالله وتعاليم السماء وتحقيق إرادة الرب في الأرض، فهو بشير ونذير في ضمن أفق قوله تعالى ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[6]﴾
ففي سبيل ذلك سيواجه النبي صعوبات جمة من طرف الجاهلين والمتعصبين والظالمين وعليه لابد أن يكون ذو صدر واسع رحب وقوي يتحمل تمام المصاعب والمشاق وقد حقق النبي ذلك طول حياته ولذا نجد النبي موسى عليه السلام لما أرسله إلى فرعون فأول ما طلب هو شرح الصدر اذْهَبْ ﴿إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ () قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي[7]﴾
دعوة شق صدر النبي صلى الله عليه وآله:
اعتاد أهل مكة أن ينشئوا أولادهم عند أهل البادية وذلك لعدة أسباب منها احصانهم من الأمراض التي تنتقل لكثرة الوفود والحجاج من مختلف المناطق وكذلك لسلامة لسانهم من الاختلاط باللغات المختلفة كما أن أجسامهم ستكون أشد وأقسى وعى هذا سار عبد المطلب كما هو المنهج العام وفي القصة المشهورة كان النبي في نصيب حليمة السعدية وما يقال أنه قبلته مع فقره لكي لا ترجع خاليه محل تأمل لكون الكافل له جده عبد المطلب وهو معروف بغناه ووجاهته ولم ينقل أنه افتقر يوما ما وهو الذي فدى ولده بمائة من الأبل وجعله صدقة لتمام الناس.
وعلى كل حال ذهب النبي مع آمنة وزوجها إلى بادية بني سعد وقد رءوا البركة قد حلت بهم فزاد خيرهم وغنمهم وعلموا أنه مبارك ولذلك طلبوا من آمنه تبقيه معهم مدة أطول فوق ما اتفقوا عليه ونقل بعض الرواة وأصحاب السير حادثة غريبة هذا نصها:
قال ابن كثير في البداية والنهاية "وثبت في صحيح مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب واستخرج منه علقة سوداء فقال هذا حظ الشيطان [ منك ] ، ثم غسله في طشت من ذهب بماء زمزم ، ثم لامه ، ثم أعاده في مكانه وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا إن محمدا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره[8]"
تكرار حادثة الشق:
قال ابن حجر في فتحر الباري "وقد استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الاسراء وقال انما كان ذلك وهو صغير في بني سعد ولا إنكار في ذلك فقد تواردت الروايات به وثبت شق الصدر أيضا عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل ولكل منهما حكمة فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس فأخرج علقة فقال هذا حظ الشيطان منك وكان هذا في زمن الطفولية فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان ثم وقع شق الصدر عند البعث زيادة في اكرامه ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الاسباغ بحصول المرة الثالثة كما تقرر في شرعه صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن تكون الحكمة في انفراج سقف بيته الإشارة إلى ما سيقع من شق صدره وانه سيلتئم بغير معالجة يتضرر بها وجميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة فلا يستحيل شيء من ذلك[9]"
نظرة الفخر الرازي للحادثة:
"واعلم أن القاضي طعن في هذه الرواية من وجوه:
أحدها: أن الرواية أن هذه الواقعة إنما وقعت في حال صغره عليه السلام و ذلك من المعجزات، فلا يجوز أن تتقدم نبوته.
وثانيها: أن تأثير الغسل في إزالة الأجسام، و المعاصي ليست بأجسام فلا يكون للغسل فيها أثر.
ثالثها: أنه لا يصح أن يملأ القلب علما، بل اللّه تعالى يخلق فيه العلوم.
والجواب: عن الأول: أن تقويم المعجز على زمان البعثة جائز عندنا، و ذلك هو المسمى بالإرهاص، و مثله في حق الرسول عليه السلام كثير.
وأما الثاني والثالث: فلا يبعد أن يكون حصول ذلك الدم الأسود الذي غسلوه من قلب الرسول عليه السلام علامة للقلب الذي يميل إلى المعاصي، و يحجم عن الطاعات، فإذا أزالوه عنه كان ذلك علامة لكون صاحبه مواظبا على الطاعات محترزا عن السيئات، فكان ذلك كالعلامة للملائكة على كون صاحبه معصوما، و أيضا فلأن اللّه تعالى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد[10]"
ويجاب عليه:
أولاً: إرهاصات النبوة كثيره منذ ولادته حتى بعثته فما انكشف لأمه من ملك كسرى والروم وغير ذلك والغيم التي تظلله والبركة التي تحل معه إينما كان وغير ذلك مو أمور كافيه لتجنب مثل هذه القصة.
ثانياً: أن الرسول هو أكمل الرسل على الإطلاق وهو أعلاهم شأناً فكيف يكون النبي عيسى عليه السلام منزها عن المعاصي في صغره أو الميل إليها ونبينا تكون في قلبه نكتة من دم هي حظ الشيطان إليس القول بذلك يجعل من باقي أنبياء الله هم أعلى منه مرتبة وهذا مستحيل.
وثالثا: كيف يعقل أن تكون حظ الشيطان قطعة من دم في قلبه وهو لم يعصي بعد ولم يمل إلى هوى أو ضلالة بل كل ما نقل عنه فيه دلالة على نزاهته وعلو شأنه
رابعاً: الأعمال الحسنة أو القبيحة ليس لها ماديات قابلة للقطع وإلا سيكون من ملئ معاص يزداد دمه اسودادا وغلظة، فهل يعقل أن التطهير من الذنوب يكون بغسل القلب وتنقيعه في الماء.
خامساً: هذه القصة أقرب للأساطير الخرافية منها إلى الحقائق العلمية وما ورد في القرآن من تنزيه الأنبياء تتعلق بالمعاني الروحية والتي هي نفخ من الله سبحانه ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ[11]﴾ فالروح هي محل التكامل والنقصان وهي التي تحاسب على الأفعال وليس قطعة من دم وقد ثبت علميا قابلية أن يتبرع شخصا من دمه لشخص آخر فلم نجد لتأثر الشخص الذي نقل إليه الدم بسلوك وأفعال المتبرع.
ولهذه الأسباب وغيرها لم يؤمن الشيعة الأمامية بمثل هذه الحادثة المروية المدعاة
ماذا نستفيد من الآية؟
روي أنه سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ص عَنْ شَرْحِ الصَّدْرِ مَا هُوَ فَقَالَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَيَشْرَحُ صَدْرَهُ وَ يَنْفَسِحُ قَالُوا فَهَلْ لِذَلِكَ أَمَارَةٌ يُعْرَفُ بِهَا فَقَالَ نَعَمْ وَ الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَ التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَ الِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ.[12]
في العمل الديني لابد للعامل أن يتوفر على سعة الصدر وكثر الاطلاع إذا كان يريد العمل وفق خطى النبي صلى الله عليه وآله بل انشراح الصدر لازم تربوي في الأسرة كما هو في المجتمع فكم من عوائل تفككت وأبناء وبنات ضاعوا لضيق صدر الوالدين.
مما ورد من دعاء الرضا عليه السلام "اللَّهُمَّ أَصْلِحْنِي وَ أَصْلِحْ شَأْنِي وَ أَصْلِحْ فَسَادَ قَلْبِي اللَّهُمَ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ نَوِّرْ قَلْبِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي... والحمد لله رب العالمين"
............................................
[1] الانشراح 1
[2] الشرح 1-4
[3] الأنعام 125
[4] البقرة 31
[5] البقرة 129
[6] الأحزاب 21
[7] صه 24-25
[8] البداية والنهاية - ابن كثير - ج 2 - ص 337
[9] فتح الباري - ابن حجر - ج 7 - ص 156
[10] مفاتيح الغيب ج32 205
[11] الحجر 29
[12] بحار الأنوار (ط - بيروت) ؛ ج65 ؛ ص236