بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، محمَّدٍ وآلِه الغرِّ الميامين
تحريراتٌ:
العِلل الحاجبة:
كانت العِللُ مُنحَصِرةً في الغيم والضباب والغبار، وما إلى ذلك من عوارض طبيعية يثبت الصفو بمقدار ما ينتفي من شدَّة حجبها. ليس الأمر كذلك اليوم؛ إذ أنَّ الإضاءة الاصطناعية وأدخنة المصانع والآلات والحروب، وما تولده من غازات وأبخرة، كلُّ هذا وغيره سبَّب تلوثًا بيئيًا أصبح علَّة حاجبة في عَرَضِ تلك العِلل الطبيعية.
الخبرة:
يحتاج الإنسان إلى معرفة إجمالية عامَّة بمسائل الهيئة والجغرافيا التي تتوقف عليها بعض أموره المعاشية الطبيعية مثل السفر والتنقل ومعرفة الفصول ومواسم الزراعة والصيد وما نحوها. من تلك المسائل القمر ومنازله، فلم يكن الناس في تلك الأزمنة مفتقرين إلى دخول دورات لتعلِّمها، بل قد يُعاب على من لا يعرفها. وليس الأمر اليوم كذلك كما هو واضح.
الشكُّ والتشكيك وما في حكمهما:
لا يصحُّ قبول التشكيك من غير العالِم أو من في قوته من حيث ضبط المقدمات والمعطيات، وهو شرط سيَّال، لذا؛ لا نقبل من غير العالم التشكيك في دليل علمي أو مبنى أو نظرية أو طريقة أو ما إلى ذلك، كما لا نقبل التشكيك في كون هذه السمكة من النوع الفلاني ما لم يكن المُشَكِّكُ عارِفًا بالسمك وأنواعه وما يتشابه ببعضه البعض منه.
الفرق بين الدليل والبينة الشرعيين من حيث الكشف والإثبات:
جعل الله سبحانه وتعالى للعلماء الفقهاء طريقًا استدلاليًا؛ الغاية منه الكشف عن واقع الأحكام الشرعية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. ومن هنا رفض المتقدمون (نوَّر الله مراقدهم) الأدلَّة الظنِّية؛ كما في خبر الواحد الذي صرَّحوا بأنَّه لا يفيد عِلمًا ولا عمَلًا.
أمَّا في التثبت من الوقائع الخارجية فقد حدَّدت الشريعة السمحاء البيِّنات عليها في الشهادة والقول واليمين، وبذلك تفترق البيِّنَةُ الشرعية عن الدليل الشرعي من جهات:
- موضوعيتها بالنسبة لمن تُقام عنده، فإنَّه ليس بخاف موضوعية القطع بالنسبة إلى من تُقام عنده الشهادة بناء على تمحضه في الطريقية بالنسبة لنفس البينة.
- اعتمادها على حيثية وثاقة المؤمِنِ العَدل، ولذا اشترطوا العدالة والوثاقة (على تفصيل)، فيُقبَل ادعاء البينة قطعها المُسْتَنِد إلى الحسِّ ويَتَرَتُّبُ عليه الأثَرُ الشَرعِي.
- ضرورة الانتصاف للمظلوم في الدار الآخرة إن لم تُصب البينة، في قبال المعذرية المُفادة من حجية الدليل الشرعي.
المعارضة في كُلٍّ مِن الدليل والبينة:
في حال وقوع المعارضة بين دليلين فهي إمَّا مستقرَّة أو غير مستقرَّة. إن كانت غير مستقرة فترتفع بالتخصُّص أو الورود أو الحكومة أو التخصيص أو بتقديم الأظهر على الظاهر. وإن كانت مستقرَّةً فيُصار إلى الترجيح على ما تؤدِّي إليه أدواته، أو إلى التخيير.
أمَّا المعارضة بين البينتين فمرجعها إلى المبدأ العلمي الأولي، وهو استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين، وتُتَصَور على نحوين:
النحو الأولى: المعارضة الحقيقية: وهي معارضة البينة الثانية إلى البينة الأولى معارضة وجود ولا وجود، كما لو قيل: قابلتُ محمَّدًا في مأتم مدن بفريق المخارقة من البحرين، والحال أنَّه لم يكن في البحرين حينها أصلًا. أو كما لو شهدت البينة بوجود الهِلال، والحال أنَّه لم يُولد بعد.
النحو الثاني: المعارضة غير الحقيقية: وهي نوع من المعارضات قد تُنَزَّل منزلة المعارضة الحقيقية فتأخذ حكمها، ولذا أطلق عليها الأكابر مصطلح (المعارضة الحكمية)، أي: المعارضة التي تأخذ حكم المعارضة الحقيقية تنزيلًا واعتبارًا.
ترجع هذه المعارضة في بعض صورها إلى اجتماعِ المِثلَينِ، أو نوعِ اجتِمَاعٍ للمثلين، كما لو شَهَدَتِ البينَةُ بوجود عليٍّ في مسجد الصبور بمنطقة الزنج من البحرين، وشهدت بَينَةٌ أُخْرَى بأنَّه شخص يشبه عليًّا، وبالفعل كان في المنطقة أو مِن رُوَّاد مسجد الصبور شَخصٌ يُشببه.
في مسألة الهِلال تقع بيِّنَةٌ على (الأفُق والهِلال)، ويُقابِلُها ما يفيد (الأُفُق) فقط
فيقع الكلام في التالي:
هل البينة الثانية، أو المعطيات المقابلة، أو كلاهما معًا، عامل سالب لموضوعية القطع المفترضة من الذي أُقيمت عنده الشهادة؟ أي هل تسلب اطمئنانه لما أفادته البيِّنَة الأولى؟
تحدَّدت بذلك مشكلة البحث، وتقريرها في الوقوف على سعة الدليل من جهة تعيينه لحاكمية البينة الشرعية وترتيب الأثر عليها.
أي: هل الأخذ بالبينة على نحو الإطلاق، أو أنَّها مردودة عند المُضعِّف السالب للطمأنينة والمزلزل لقوَّة للقطع الموضوعي؟
وإن كان المُضعِّفُ يقتضي ردَّها، فهل يجري ذلك في مختلف الموضوعات؟ أي: هل يتساوى الأمر في بيَّنة ما يقتضي القصاص أو الحد، وبين بينة هِلال شهر رمضان أو شهر شوَّال؟
مدى استقرار البيَّنة:
لشهادة الشهود قبولٌ عرفيٌّ مُسَتَقِرٌّ في تباني العُقَلاءِ وسَائِرِ التجمعات البشرية، ومرجع ذلك إلى تعطُّل المصالح إن لم يُعتبر قولهم؛ لتعذُّر حصول العلم بكل حدث، فيُصار إلى قبول شهادة الصَادِقِينَ الذين يُشهد لهم بالعدل والاستقامة. كما وأنَّ لها تقرير شرعي؛ قال تعالى: (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)[1]، وقال سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ)[2].
لا شكَّ في استقرار أمر الشهادة (البينة) في الفقه بلا مخالف ولا مجادل، وكذا في سقوطها عند ورود ما يستوجبه، ولذلك قالوا: “لو قضى الحاكم على غريم بضمان مال وأمر بحبسه، فعند حضور الحاكم الثاني ينظر، فإن كان الحكم موافقًا للحق لزم، وإلَّا أبطله، سواء كان مستند الحكم قطعيًا[3] أو اجتهاديًا[4]، وكذا كلُّ حُكمٍ قَضَى به الأوَّل وبان للثاني فيه الخطأ فإنَّه ينقضه، وكذا لو حكم هو ثُمَّ تبيَّن الخطأ فإنَّه يُبطِلُ الأوَّل ويستأنف الحكم بما علمه”[5].
إنَّه وبالرغم من مناقشة الأعلام، إلَّا أنَّ الثابتَ وجدانًا وشرعًا رَدُّ البينة أو إبطالها عند ورود ما يثبت خطأها، بل تواتر خصوص هذا المعنى حتَّى عُقِدُ له بابٌ في كتب الحديث، كما في الكافي (باب من شهد ثُمَّ رجع عن شهاته).
قال: عليُّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عاصم بن حميد، عن مُحَمَّد قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
“قَضَى أميرُ المؤمنين (عليه السلام) في رَجُلٍ شهد عليه رَجُلانِ بأنَّه سَرَقَ، فَقَطَعَ يَدَهَ، حَتَّى إذا كان بعد ذلك، جَاءَ الشَاهِدَانِ بِرَجُلٍ آخر فَقَالا: هذا السارق وليس الذي قَطَعْتَ يَدَهُ؛ إنَّمَا شبهنا ذلك بهذا. فَقَضَى عليهما أنْ غَرَّمَهُمَا نِصْفَ الدِيَةِ، ولم يُجِزْ شَهَادَتَهما على الآخر”[6].
هذا أيضًا من الثابتِ وجدانًا وشرعًا، فليس من المعقول التسليم المطلق للبينة بحيث أن يُمنَعَ الرجوع عن ما أفادته مهمَّا ورد عليها من تضعيف أو إبطال، سواء منها أو من غيرها، وإنَّما أردنا التأكيد على خصوص هذه الجهة.
مسألة الهِلال:
أوَّلًا: مشكلة الموافقة للواقع:
وردتْ خصوصيات وفضائل لليالي بعينها، وخير شاهد ليلة القدر الشريفة، وقد قال جلَّ في علاه: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[7]، وهي ليلة القدر (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[8].
قال في فضائل الأشهر الثلاثة: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن موسى بن المتوكل (رضي الله عنه) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن أبي عبد الله الكوفي، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن عَبَّاس بن جريش الرازي، قال أبو جعفر (عليه السلام): “مَنْ أحيي ليلَةَ القَدْرِ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبَهُ ولو كانَتْ عَدَدَ نُجُوم السماء ومثاقيل الجبال ومكائيل البحار”[9].
لو كان الأمر يستوجب تعيين غرَّة الشهر بما يطابق الواقعَ لما اعتبر الشارعُ البينة؛ والحال أنَّها تخطئ، وقد جاء في الحديث الشريف ما يوجب القضاء عند خطأ الرؤية فضلًا عن خطأ البينة.
قال في الاستبصار: الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: “صُمْ لِرُؤيَةِ الهِلَال، وأفطرْ لرؤيَتِهِ، فإنْ شَهدَ عِندَكَ شَاهِدَانِ مَرضِيانِ بأنَّهُمَا رأيَاه فاقْضِهِ”[10].
فيما لم ترد البينة الثانية فإنَّ أحدًا مِنَ الأعلام لم يقُل بفساد، بل ولا حتَّى بإشكال صوم أو إفطار من اعتمد الأولى، ولا يخفى أنَّه لم يصل عنهم (عليهم السلام) ما يفيد الضبط بما يوافق الواقع، فقطعنا بأعمية الليالي المُحدَّدة لمقطوع البينتين ما لم يتحقَّق العلم بورود الثانية على الأولى إذا كانت الثانية سالبة للاطمِئنَان بالأولى ومزلزلة لقوَّة القطع الموضوعي بها. والمُتحَصَّلُ أنَّ ورود الخطأ والاشتباه على البيِّنَة أمرٌ طبيعي متوَقَّعٌ.
وبذلك يظهر ما في قول شيخنا المُحدِّث (علا برهانه): “فإنَّ المُستفاد منها (يقصد الأحاديث الشريفة) على وجه لا يزاحمه الريبُ والشَكُّ أنَّ كلَّ يومٍ من أيَّام الأسبوع وكلَّ شهرٍ من شهور السنة أزمِنَة مُعيَّنة معلومة نفس أمرية، كالأخبار الدالة على فضل يوم الجمعة وما يعمل فيه واحترامه وأنَّه سيد الأيَّام وسيد الأعياد، وأنَّ من مات فيه كان شهيدًا، ونحو ذلك ما ورد في أيَّام الأعياد من الأعمال والفضل، وما ورد في يوم الغدير ونحوه من الأيام الشريفة وما ورد في شهر رمضان من الفضل والأعمال والاحترام ونحو ذلك فإن ذلك كله ظاهر في أنها عبارة عن أزمان معينة نفس أمرية“[11].
ولكن يُقَال: جاء عنهم (عليهم السلام) ما يفيد أنَّ الشهادة بالرؤية لا تًعتبر ما لم تكن نفس الرؤية ممكنة ومتيسرة لجمع كثير، ولذا فإنَّ ورود البينة الثانية على الأولى المُصدَّقة فردٌ نادر.
قال الطوسي في الأمالي: سعد، عن العبَّاس بن موسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي أيوب إبراهيم بن عثمان الخزَّاز، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
“قلتُ له: كم يُجزِي في رؤية الهلال؟
فقال (عليه السلام): إنَّ شهرَ رمضان فريضةٌ من فرائض الله، فلا تُؤدُّوا بالتظني، وليس رؤية الهلال أنْ يقوم عِدَّةٌ فيقولُ واحِدٌ قَدْ رأيتُه ويقول الآخرُونَ لم نَرَه؛ إذا رآه واحِدٌ رآهُ مِئةٌ، وإذا رآه مِئةٌ رآه الفٌ، ولا يُجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علَّة أقل من شهادة خمسين، وإذا كانت في السماء علَّة قُبِلَتْ شهادةُ رَجُلَينِ يَدْخُلانِ ويخرجان مِن مصر”[12].
وقال في الكافي: أحمد، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب الخزَّاز، عن مُحَمَّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:
“إذا رأيتُمُ الهِلَال فَصُومُوا، وإذا رأيتُمُوهُ فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني. وليس الرؤيَةُ أنْ يَقومَ عَشَرَةُ نَفَر فَيقُولُ واحِدٌ: هو ذا، ويَنظُرُ تِسْعَةٌ فَلا يَرونَهُ، لكِنْ إذا رآهُ واحِدٌ رآهُ ألفٌ”[13].
هذا، وما نحوه، عبَّر عنه الفقيه السيستاني (دام ظلُّه) بالمُعَارِض الحُكمِي، والوجه في تنزيله منزلة المُعارِض الحقيقي تضعيفه للبينة وإحالتها إلى ما في حكم العدم، وهو الحال في المعارضة الحقيقية.
قال (دام ظلُّه) تحت عنوان: طُرق ثبوت الهِلال:
“شهادة رجلين عادلين بالرؤية، وتُعتَبَرُ فيها وحدة المشهود به، فلو ادَّعى أحدُهما الرؤيةَ في طرف، وادَّعى الآخرُ رؤيتَه في طرف آخر، لم يثبت الهِلال بذلك، كما يُعتِبرُ فيها عدم العلم أو الاطمئنان باشتباههما وعدم وجود معارض لشهادَتِهِمَا ولو حُكْمًا؛ كما لو استهلَّ جماعةٌ كبيرةٌ من أهل البلد فادَّعى الرؤيةً منهم عدلان فقط، أو استهلَّ جمعٌ ولم يدَّعِ الرؤيةَ إلَّا عدلانِ ولم يرَه الآخرون وفيهم عدلان يماثلانهما في معرفة مكان الهِلال وحِدَّة النظر، مع فرضِ صفاء الجو وعدم وجود ما يحتمل أن يكون مانعًا عن رؤيتهما، ففي مثل ذلك لا عبرة بشهادة العدلين”[14].
تنبيه:
لا يُتَوَهمُّ تفرُّد السيد السيستاني (دام ظلُّه) في القول بشرط عدم المعارض الحكمي؛ فإنَّ هذا المعارِض يرجع في اعتباره إلى السالب المُعتَبَر شرعًا لقوَّة القطع الموضوعي في البينة، ولذلك يُقال للعدلين اعتمدا ما رأيتما لثبوت الطريقية لهما، وإنَّما لا تُعتَبَرُ شهادتهما بيِّنَةً لطرو المعارض السالب للطمأنينة التي يستقرُّ بها القطع الموضوعي، وهذا مُرْتَكَزٌ مُسَلَّمٌ في الفقه.
اختَصَّ السيدُ السيستاني (دام ظلُّه) بتحديده لبعض ما يُعتَبَر شرعًا في سلب البينة قوَّة الإثبات، ولذا فإنَّ النقاش يتحدَّد في الصغرى، لا في أصل حجية السالب.
مدلول الروايات الشريفة:
في المقام مرئيٌّ ورائي وشرط عدم المانع، ولا شكَّ في أنَّ قوله (عليه السلام): “إذا رآه واحِدٌ رآهُ مِئةٌ، وإذا رآه مِئةٌ رآه الفٌ” و“إذا رآهُ واحِدٌ رآه ألف” مقَيَّدٌ بقيدٍ لُبِّي هو المعرفة بموقع الهِلال وبكون هذا الذي يُرى هِلالًا، وقيد المعرِفة واضحٌ لدى العُرف إلى الحدِّ الذي يمكن للشارع أن يتَّكِلَ عليه في تقييد المُطلَق، وهذا الوضوح ثابت لأنَّ المعرِفَة قيدٌ عام، وقد جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: “يا كُمَيل، ما مِنْ حَرَكَةٍ إلَّا وأنْتَ مُحْتَاجٌ فِيها إلى مَعْرِفَة”[15]فإذا خرجت عينٌ أو مئةٌ أو ألف فلا بُدَّ من إحراز عدد العارِفة منها ولو إجمالًا. هذا أوَّلًا.
أمَّا ثانيًان فبالإضافة إلى شياع المعرفة بالسماء وما فيها في تلك العصور ولو في الدرجات الدنيا، لا بدَّ من الانتباه إلى انحصار المانع حينها في الطبيعي التكويني، مثل الضباب والرطوبة وما الغبار وما نحو ذلك. أمَّا اليوم فإنَّ صفاء الجو مُحَسِّنٌ للسيء، لا أكثر؛ فإنَّه يبقى غامًّا بسبب الإضاءة الاصطناعية وأدخنة المصانع والآلات والحروب، وما تولده من غازات وأبخرة.
كانت العينُ المُجرَّدَةُ ويقابلها الأُفُق، فإمَّا أن تستر الهِلالَ الغيومُ وما نحوها من مظاهر طبيعية، أو أن يكون واضحًا لصفاء الجو. غير أنَّ طارئًا حديثًا طَرَأَ في عَرَضِ الموانع الطبيعية، إلَّا أنَّه بِلا مقابل كمقابلة العين المجرَّدة للأفُقِ.
وبالتالي: لو كان المانع من الرؤية عارضًا غيرَ طبيعي جاز تسليح العين في قباله؛ لإرجاع المقابلة الطبيعية بين الأفق والعين المجرَّدة.
والتنبيه في المقام إلى أنَّ المُسَوِّغَ لاستعمال العين المُسلَّحة ليس أخذ (الرؤية) على نحو الطريقية، ولكن لأمرٍ زائدٍ طرأ فأخلَّ بالتطبيق الموضوعي لنصوص الرؤية. فتنَبَّه.
إذا تنقَّح المطلب، فإنَّ شهادةَ العدلين من مئةٍ -مثلًا- لا يسلبها قوَّتها عدم شهادة الباقي، إلَّا أن لا يُرى حتَّى بالعين المسلحة.
إنَّ قول الإمام (عليه السلام): “إذا رآه واحِدٌ رآهُ مِئةٌ، وإذا رآه مِئةٌ رآه الفٌ” و“إذا رآهُ واحِدٌ رآه ألف” ظاهر في أنَّ أمرَه مُتيَسِّرٌ إلى الحدِّ الذي تسقط فيه شهادة البينة وهي المُحتَرمَة عُرفًا وشرعًا، وكأنَّه (عليه السلام) يقول بأنَّ الأصل حينما يراه واحِدٌ أن يراه ألف، وهو ليس كذلك في مثل أيَّامنا؛ فإنَّ التلوث البيئي أحال الرؤية إلى مستويات من الصعوبة في الكثير من الأحيَّان، والتعذُّر في أحيان، ما يسلب المُعَارِض الحكمي قوَّته في استبعاد أو إسقاط البيِّنة.
بعبارة أخرى:
يقوم اعتبار المُعارِض الحُكمي في المقام على ظهور المرئي وانحصار العيب في الرائي، فإمَّا أن يراه الأغلب أو أن لا يراه الأغلب. في زمننا المُعَاصِر ضعف ظهور المرئي؛ فأضيف شرط الحدَّة والدقة في الرائي، وهو شرطٌ عزيز بالنسبة للمجموع.
نعم، يُعَبِّرُ الفلكيون عن الجو بالصحو والصفو، وما إلى ذلك، إلَّا أنَّه ليس الصحو والصفو المعروف قبل التلوث البيئي المفروض، فلا تغفل.
وبذلك يظهر أنَّ هذا المُعارِض الحُكمي مُبعد أو مُسقِط للبينة الشرعية بشرطٍ هو الذي صرَّح به السيدُ (دام ظلُّه) في الفرض الثاني حين قال: “أو استهلَّ جمعٌ ولم يدَّعِ الرؤيةَ إلَّا عدلانِ ولم يرَه الآخرون وفيهم عدلان يماثلانهما في معرفة مكان الهِلال وحِدَّة النظر، مع فرضِ صفاء الجو وعدم وجود ما يحتمل أن يكون مانعًا عن رؤيتهما، ففي مثل ذلك لا عبرة بشهادة العدلين”، وبما قدَّمناه لا فرق بين هذا الفرض وسابقه.
إذا اتَّضح ذلك، جاز حملُ (العِلَّة) في قوله (عليه السلام): “وإذا كانت في السماء علَّة قُبِلَتْ شهادةُ رَجُلَينِ يَدْخُلانِ ويخرجان مِن مصر” على الأعم من الطبيعية وغير الطبيعية، فتندفع الصُغرى محل الكلام ما لم يُحرَز في الجماعة عدلان في قوَّة العدلين المُثْبِتَين[16].
تَمَّ بحمد الله سبحانه وتعالى
والصلاة والسلام على محمَّد وآله الطيبين الطاهري
السيد محمَّد ابن السيد علي العلوي
22 شوَّال 1441 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………………………………………………
[1] – الآية 6 من سورة النساء
[2] – الآية 106 من سورة المائدة
[3] – كما لو كان عن إجماع أو تواتر.
[4] – كخبر الواحد، وهو ما نحن بصدده.
[5] – شرائع الإسلام، المُحقِّق الحلِّي، كتاب القضاء.
[6] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 7 – ص 384
[7] – الآيتان 3 – 4 من سورة الدخان
[8] – الآية 1 من سورة القدر
[9] – فضائل الأشهر الثلاثة – الشيخ الصدوق – ص 117
[10] – الاستبصار – الشيخ الطوسي – ج 2 – ص 63 – 64
[11] – الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني، ج13 ص266 – 267
[12] – تهذيب الأحكام – الشيخ الطوسي – ج 4 – ص 160
[13] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 4 – ص 77
[14] – المسائل المنتخبة، السيد السيستاني، الطريقة الرابعة من طُرق إثبات الهِلال، المسألة: 476 (طبعة منقَّحة ومُصحَّحة 1441 للهجرة)
[15] – تحف العقول – ابن شعبة الحراني – ص 171
[16] – أفدتُها مِن مناقشة مع الابن النبيه سماحة الشيخ حسين بن يوسف طارش (دامت توفيقاته)