الرواية:
حمدويه، قال: حدَّثنا محمَّدُ بن عيسى، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجَّاج، قال:
"استأذن فضلُ البقباق لحريز على أبي عبد الله (عليه السلام) فلم يأذن له، فعاوده فلم يأذن له.
فقال (فضل البقباق) له (لأبي عبد الله عليه السلام): أي شيءٍ للرجل أن يبلغ من عقوبة غلامه؟
قال (أبو عبد الله عليه السلام): على قدر جريرته.
فقال (فضل البقباق): قد عاقبتَ واللهِ حريزًا بأعظم ممَّا صنع.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ويحك، أنا فعلتُ ذاك؛ أنَّ حريزًا جرَّدَ السيفَ.
قال: ثُمَّ قال: لو كان حذيفة (بن منصور) ما عاودني فيه بعد أن قلت له لا"[1].
في المقام جهاتٌ ثلاث:
الأولى: تجريد السيف دون إذن الإمام (عليه السلام).
الثانية: وثاقة فضل البقباق.
الثالثة: الحمل على (الحجب والجفاء).
أمَّا الجهة الأولى، فقد استفاضت، بل تواترت أحاديث التقية بما قرَّر للشيعة طريقة خاصَّة في سلوك الحياة بمختلف تحدياتها إلى حين الظهور المقدَّس للإمام المهدي بن الحسين (أرواحنا فداه)، بل وقد عارض المعصوم (عليه السلام) أحاديثَ جواز قتل الساب لأمير المؤمنين (عليه السلام) ببيان كونها الأصل المحفوظ لحين ارتفاع العارض.
عن محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمَّد، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سالم، قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في رجل سبَّابة لعلي (عليه السلام)؟
قال: فقال لي: حلال الدم واللهِ، لولا أن تعمَّ بِهِ بريئًا"[2].
والشاهد في الاستدراك بـ(لو لا)، أي أنَّ الحُكمَ مُضْرَبٌ عنه حتَّى يُضمن عدم أخذ البريء بالجريرة.
علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمَّاد بن عيسى، عن ربعي، عن محمَّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: إنَّ رجلًا من هذيل كان يسبُّ رسولَ الله (صلَّى الله عليه وآله)، فبلغ ذلك النبي (صلَّى الله عليه وآله)، فقال: من لهذا؟
فقام رجلان من الأنصار، فقالا: نحن يا رسول الله. فانطلقا حتَّى أتيا عربةً فسألا عنه فإذا هو يتلقى غنمه، فلحقاه بين أهله وغنمه فلم يُسَلِّمَا عليه، فقال: من أنتما وما اسمكما؟
فقالا له: أنت فلان بن فلان؟
فقال: نعم.
فنزلا وضربا عنقه.
قال محمَّد بن مسلم: فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): أرأيتَ لو أنَّ رجلًا الآن سبَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله، أيُقتل؟
قال (عليه السلام): إن لم تخف على نفسك فاقتله"[3].
يظهر التوسع في دواعي المنع من إمضاء الحكم، فشمل: "لولا أن تعمَّ بِهِ بريئًا"، و: "إن لم تخف على نفسك".
قال السيد الأبطحي: "وقد منع الأمام (عليه السلام) عن قتل الساب لآل محمَّد (عليهم السلام) محتجًّا بأنَّه (لا يُقتَلُ مُؤمِنٌ بكافِرٍ)؛ إرشادًا إلى أنَّ قتل السابِّ يُجرِّئُ أعداءَ آل محمَّد (عليهم السلام) في قتل المؤمنين الشيعة الأخيار"[4].
هذا مع كفاية أدلة التقية في المقام، وقد ورد عن ابن أبي حازم أنَّه قال: كنتُ عند جعفر بن محمَّد (عليهما السلام) إذا جاء آذنه فقال: سفيان الثوري بالباب.
فقال (عليه السلام): ائذن له. فدخل، فقال له جعفر (عليه السلام): يا سفيان، إنَّك رجلٌ يطلبُك السلطان، وأنا أتَّقي السلطان، قُمْ فاخرجْ غيرَ مَطْرُود"[5].
نعم، يبقى الأمر في مجال التشخيص الموضوعي لنفس المكلَّف، فإن أحرز الأمان، وإلَّا فمعذور ببذل الجهد الصحيح في التشخيص، وبالتالي لا يؤاخذ إلَّا إذا كان مستعجلًا أو مستخفًا بأمر التقية.
وأمَّا الجهة الثانية، فـ"الفضل بن عبد الملك أبو العباس البقباق، مولى، كوفي، ثقة، عين"[6]، إلَّا أنَّه يظهر للنظر القاصر شيءٌ في صلابته.
شواهِدٌ على المُدَّعى:
محمَّد بن مسعود، قال: حدَّثنا عبدُ الله بن محمَّد قال: حدَّثني أبو داود المسترق، عن عبد الله بن راشد، عن عبيد بن زرارة قال: "دخلتُ على أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده البقباق، فقلتُ له: جُعلتُ فداك، رجلٌ أحبَّ بني أمية أهو معهم؟
قال (عليه السلام): نعم.
قلتُ: رجلٌ أحبَّكم، أهو معكم؟
قال: نعم.
قلتُ: وإن زنى وإن سرق؟
قال: فنظر إلى البقباق (يقصد فضل)، فوجد منه غفلة، ثُمَّ أومئ برأسه: نعم"[7].
وقال صاحب المعالم عن فضل البقباق: "وإنَّ الصادِقَ كان يتَّقيه"[8].
وفي تهذيب الأبطحي: "وقد غفل البقباقُ عن عِظَمِ شهر السيف في ذلك مع شِدَّةِ التقية، حتَّى تجرَّأ على القول في جواب الأمام (عليه السلام): "قد عاقبتَ واللهِ حريزًا بأعظم ممَّا صنع"، وإنَّ استصغاره لذلك، ثُمَّ تَفَوههِ بتلك المقالة القبيحة لِوليِّ الله وإمامِ عصرِه، أوجب قوله (عليه السلام) مدحًا لحُذيفة: "أما لو كان حذيفة بن منصور ما عاودني فيه، بعد أن قلتُ: لا"[9].
قد يبدو موقف الإمام الصادق (عليه السلام) من حريز كون فضل البقباق في البين، ولهذا نظير في طريقتهم (عليهم السلام).
قال الإمام الصادق (عليه السلام) في زرارة بن أعين: " كذب علي والله، كذب علي والله. لعن الله زرارة، لعن الله زرارة، لعن الله زرارة"[10].
محمَّد بن أحمد، عن محمَّد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: دخلتُ عليه فقال: متى عهدك بزرارة؟
قال، قلتُ: ما رأيته منذ أيام.
قال: لا تُبَالِ، وإن مرض فلا تعده، وإن مات فلا تشهد جنازته.
قال، قلتُ: زرارة؟ متعجبا ممَّا قال.
قال: نعم زرارة، زرارة شَرٌّ من اليهود والنصارى ومن قال إنَّ مع الله ثالث ثلاثة[11].
والحال أنَّ الإمامَ (عليه السلام) لعن زرارة وأعابه دفعًا للعيون عنه؛ فعن عبد الله بن زرارة قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): "اقرأ مِنِّي على والدِك السلام. وقل له: إنِّي إنَّمَا أُعيبُكَ دِفَاعًا مِنِّي عَنْكَ؛ فإنَّ الناسَ والعَدُوَّ يُسَارِعُونَ إلى كُلِّ مَن قَرَّبْنَاهُ وحَمدنَا مكانه، لإدخال الأذى في من نُحِبُّهُ ونُقَرِّبُه، يَرمُونَه لِمَحَبَّتِنَا له وقُرْبِةِ ودنوِّه مِنَّا، ويرون إدخَالَ الأذى عليه وقتله. ويحمدون كُلَّ من عِبْنَاهُ نحن وأن يحمد أمره. فإنَّما أُعيبك لأنَّك رجلٌ اشتهرتَ بنا ولميلك إلينا، وأنت في ذلك مذمومٌ عند الناس غير محمود الأثر لمودتك لنا ولميلك إلينا، فأحببتُ أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك، ويكون بذلك مِنَا دفع شرِّهم عنك. يقول اللهُ جلَّ وعزَّ (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا)[12]"[13]
وأمَّا الجهة الثالثة، فأوَّل من فسَّر عدم إذن الإمام الصادق (عليه السلام) لحريز بالدخول على أنَّه جفاء الشيخ النجاشي (طاب رمسه)، قال: " وكان ممَّن شَهَرَ السيفَ في قِتَالِ الخوارج بسجستان في حياة أبى عبد الله (عليه السلام)، ورُوي أنَّه جفاه وحجبه عنه"[14].
والحال أنَّ الحجب ثابتٌ بعدم الإذن، إلَّا أنَّه أعمُّ من أن يكون لجفاء أو غير ذلك، وقد يترجَّح أنَّه لبيان عدم رضا الإمام (عليه السلام) عن شهره السيف ضدَّ الخوارج، لا كما قال الشيخ النجاشي (طاب رمسُه) وتبعه بعضُ الأعلام ممَّا قد يكون سببًا في شيءٍ يستدعي المراجعة.
المحصلة: قد يكون الأرجح حمل حجب الإمام الصادق (عليه السلام) لحريز على التقية من الفضل بن عبد الملك البقباق، وهذا لا يقدح في وثاقته (البقباق) التي ثبَّتها النجاشي، وغاية ما في الأمر ظهور شيء في صلابته على مقتضيات الولاية، لا نفس الولاية.
بل وحتَّى مع عدم التقية من الفضل، فإنَّها ثابتة مع إحراز وثاقة حريز وحمل عمله على التشخيص الموضوعي المجاز بدلالة بعض النصوص، ومنها ما مرَّ. فهو أحرز عدم أخذِ بريءٍ بِشَهْرِهِ السيف كما وأحرز سلامَةَ نَفْسِهِ، وهذا أكثر موافقة لوثاقة الرجل وكونه من فقهاء الرواة، فنحمل إشهاره السيف على الخوارج في سجستان على أنَّه عن نَظَرِ مُتَشَرِِّعٍ. فتأمَّل.
هذا والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمَّد وآله الطاهرين.
كتبتُه في صفر 1440 للهجرة
وأعدتُ مراجعتُه وتنقيحه في 13 من رجب 1441 للهجرة
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
البحرين المحروسة
......................................................
[1] - اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ج 2 - ص 680
[2] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 7 - ص 269 - 270
[3] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 7 - ص 267
[4] - تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي - السيد محمد على الأبطحي - ج 5 - شرح ص 289
[5] - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 75 - ص 201
[6] - رجال النجاشي - النجاشي - ص 308
[7] - اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ج 2 - ص 627
[8] - التحرير الطاووسي - الشيخ حسن صاحب المعالم - ص 462
[9] - تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي - السيد محمد على الأبطحي - ج 5 - شرح ص 289
[10] - اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ج 1 - ص 361
[11] - اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي - ج 1 - ص 380 - 381
[12] - الآية 79 من سورة الكهف
[13] اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، ج ١، الشيخ الطوسي، ص ٣٨٩
[14] - رجال النجاشي - النجاشي - ص 144 - 145