ما معنى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِنَ الأَرضِ نَباتًا﴾ [نوح: ١٧]، وهل يدلّ على أنّ أصل الإنسان نبات؟!
الجواب:
ما ذُكر من كون أصل الإنسان نباتًا فيه احتمالان:
الأوّل: وجود خاصّة النبات في الإنسان - وهي النمو -، وهذا المعنى لا إشكال فيه، ولكنّ الآية لا علاقة بها؛ إذ ليس لها نظرٌ إلى هذه الجهة.
الثاني: إنّ بدء خلقة الإنسان هي كونه نباتًا، ثم يتحوّل إلى إنسان على نحو التطوّر.
وهذا المعنى مذكور في كتابات (جماعة السفارة) في البحرين، ويعتبرونه من ابتكاراتهم، وقد أخذوه عن بعض الأساطير للأمم الماضية والتي يعتبرونها مصدرًا لتفسير القرآن الكريم وفهم حقائقه.
والأصل في هذا التوهّم هو عدم التفرقة بين مصداق النبات، ومفهومه؛ فإنّ ما نطلق عليه لفظة النبات إنما هو مصداق، والمفهوم للكلمة أعمّ من ذلك.
وتوضيح ذلك في مقدِّمات:
[الأولى]:
إنّ كثيرًا من الألفاظ لها مفهوم واسعٌ، ولكن يغلب إطلاقها على مصداق معيّن؛ فيحصل أنسٌ عند العرف ويترتّب على ذلك توهّم اختصاص اللفظ بهذا المصداق.
ومن الأمثلة الواضحة لذلك لفظة الحيوان؛ فإنّها بمعنى المبالغة في الحياة، كما في قوله تعالى: *﴿وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾ [العنكبوت: ٦٤] إلّا أنّ أنس العرف باستعمالها في معنى معيّنٍ يوجب حصول الوهم في أنّها موضوعة لخصوص المصداق المعهود بين الناس.
ومن الجدير بالذكر أنّ السيّد العلّامة ذكر بأنّ معنى تفسير القرآن بالرأي هو حمل الكلمات القرآنيّة على المعاني المأنوسة عند العرف من دون الرجوع إلى المعنى القرآنيّ الذي ينتج من ملاحظة موارد استعمال هذه اللفظة ومعرفة المفهوم الذي وُضعت هذه اللفظة له. [لاحظ، الميزان، ج: ٣، ص: ٩٢-٩٤]
[الثانية]:
إنّ كلمة النبات من ناحية المفهوم تعني توفّر أمرين:
١. خروج شيء من شيء.
٢. حصول النمو سواء أكان نموًّا مادّيًّا أم معنويًّا.
[للمزيد لاحظ، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، المصطفويّ، ج: ١٢، ص: ٢٢].
وهذا المعنى الواسع للكلمة هو الملاحظ من موارد استعمالها في القرآن الكريم، فلنلاحظ بعض ذلك:
١. ﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَها نَباتًا حَسَنًا وَكَفَّلَها زَكَرِيّا﴾ [آل عمران: ٣٧].
أي: أخرجها في بيئة صالحة، تساهم في نموّها المعنويّ، وذلك بقبولها وتكفّل زكريا (عليه السلام) لها.
٢. ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَت سَبعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾
[البقرة: ٢٦١]
أي: أخرجها في بيئة تساهم في نموّها المادّيّ بشكل مضاعف.
٣. ﴿سُبحانَ الَّذي خَلَقَ الأَزواجَ كُلَّها مِمّا تُنبِتُ الأَرضُ وَمِن أَنفُسِهِم وَمِمّا لا يَعلَمونَ﴾
[يس: ٣٦]
أي: أخرج الزرع وشبهه من الأرض وجعل تكاثره عبر الزوجيّة، كما أنّه سبحانه أخرج الإنسان من الإنسان (من أنفسهم) وجعل تكاثره بالزوجيّة.
وقد تحصّل من ذلك أنّ كلمة النبات من ناحية المفهوم أعمّ من موارد استعمالها كاستعمالها في الزرع والنخيل والأشجار.
[الثالثة]
إنّ قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِنَ الأَرضِ نَباتًا﴾ لمّا كان في صدد بيان خلقة الإنسان فلا بد من ضمّها إلى الآيات التي تحدّثت عن بدء خلق الإنسان لفهم المراد منها، وقد أشارت تلك الآيات لعدة صفات في الإنسان ترتبط بالأرض، وهي:
١. التراب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ [الحج: 5].
٢. الطين: ﴿الَّذي أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ الإِنسانِ مِن طينٍ﴾ [السجدة: ٧].
٣. الحمأ المسنون، وهو الطِّين الأسود المتغيِّر ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ ﴾ [الحجر: 26].
٤. الصلصال، وهو الطين اليابس: ﴿خَلَقَ الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ [الرحمن: 14].
والملاحظ أنّ جميع هذه الأمور مرتبطة ومأخوذة من الأرض، وقد أخرج الله تعالى الإنسان وخلقه منها.
[النتيجة]:
ومن مجموع ما تقدّم ذكره ظهر أنّ المراد بالآية الكريمة هو الإشارة إلى أنّ الله تعالى أخرج الإنسان من الأرض من مادّة ليست قابلة للنموّ -وهي التراب أو الطين- ولكنّه سبحانه بقدرته جعل في هذه المادّة قابليّة للنموّ؛ فناسب أن يعبّر بقوله تعالى: *﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِنَ الأَرضِ نَباتًا﴾* لبيان هذه الحقيقة.