شدَّد الله تعالى على مبغوضية الإسراف في أكثر من مورد في كتابه الكريم، وعلى لسان نبيه وآله (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، فقال عزَّ من قائل: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[1]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً}[2].
وعن عيون الأخبار فيما كتبه مولانا الرضا (عليه السلام) للمأمون، عدَّ الإسراف من الكبائر، قال (ع): (وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ، وَهِيَ ... وَالْإِسْرَافُ وَالتَّبْذِيرُ وَالْخِيَانَةُ)[3]، وفي الكافي بإسناده عن داود الرقي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (وَإِنَّ السَّرَفَ أَمْرٌ يُبْغِضُهُ الله عَزَّ وَجَلَّ)[4].
والإسراف هو مجاوزة الحد ومقدار الحاجة، وهو في الإنفاق إتلاف المال ووضعه في غير محله، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (إِنَّمَا الْإِسْرَافُ فِيمَا أَفْسَدَ الْمَالَ وَأَضَرَّ بِالْبَدَنِ)[5]، وقد بُيِّن الإسراف في روايات أهل البيت (عليهم السلام) في أكثر من مورد، منها ما في الكافي عن عبد الملك بن عمرو الأحول قال: (تَلَا أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) هَذِهِ الْآيَةَ {وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً}، قَالَ فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ حَصًى فَقَبَضَهَا بِيَدِهِ فَقَالَ (ع): هَذَا الْإِقْتَارُ الَّذِي ذَكَرَهُ الله فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ أَخَذَ قَبْضَةً أُخْرَى وَأَرْخَى كَفَّهُ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ (ع): هَذَا الْإِسْرَافُ ثُمَّ أَخَذَ قَبْضَةً أُخْرَى، فَأَرْخَى بَعْضَهَا وَأَمْسَكَ بَعْضَهَا وَقَالَ (ع) هَذَا الْقَوَامُ)[6].
وأدنى ما يُؤتى به من الإسراف هو إهراق الماء الفاضل من الإناء، وأكل التمر ورميُ النوى، ولبس الثوب الذي يصان في موضع العمل والخدمة بما يؤدِّي إلى إتلافه، ففي الكافي بإسناده عن سليمان بن صالح قال: (قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) مَا أَدْنَى مَا يَجِيءُ مِنَ الْإِسْرَافِ، قَالَ (ع): ابْتِذَالُكَ ثَوْبَ صَوْنِكَ، وَإِهْرَاقُ فَضْلِ إِنَائِكَ، وَأَكْلُكَ التَّمْرَ وَرَمْيَكَ بِالنَّوَى هَاهُنَا وَهَاهُنَا)[7]، وحتى في الوضوء يقع الإسراف، وهو من الواجبات، فعن حريز عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (إِنَّ لِلَّهِ مَلَكاً يَكْتُبُ سَرَفَ الْوَضُوءِ، كَمَا يَكْتُبُ عُدْوَانَهُ)[8].
وللمسرف صفات يُعرف بها، وهي ما رواه في الفقيه عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (لِلْمُسْرِفِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ يَأْكُلُ مَا لَيْسَ لَهُ، وَيَشْتَرِي مَا لَيْسَ لَهُ وَيَلْبَسُ مَا لَيْسَ لَهُ)[9]، يقول الشيخ فخر الدين الطريحي في بيان معنى هذا الحديث:
"كأن المعنى: يأكل ما لا يليق بحاله أكله، ويشتري مالا يليق بحاله شراؤه، ويلبس مالا يليق بحاله لبسه"[10].
كما لو أن شخصًا من شأنه أن يلبس المتواضع من اللباس، ولا حرج في ذلك؛ لأنه أتى بما يناسب شأنه وحاله، ولكنّه إذا تكلف فوق ما يقتضيه شأنه ولبس ما يعلو عليه، كان متجاوزًا للحد، وصار بذلك مسرفًا، وقس على ذلك باقي الأمور.
غير أن الإسراف رُفعَ في جملةٍ من المواضع التي ذكرها لنا أهل البيت (عليهم السلام)، فمما ليس فيه إسراف ما ورد عن الصادق (عليه السلام): (لَيْسَ فِيمَا أَصْلَحَ الْبَدَنَ إِسْرَافٌ)[11]، وعنه (ع): (لَيْسَ فِي الطَّعَامِ سَرَفٌ)[12]، وما ورد في الخبر المقطوع المرفوع عن زكريا المؤمن قال: (مَا أَنْفَقْتَ فِي الطِّيبِ فَلَيْسَ بِسَرَفٍ)[13].
فإن هذه الموارد -وغيرها من التي رفع عنها الإسراف- لا يجري فيها حكم مبغوضية الإسراف، فلا بأس أن يتجاوز فيها المرء مقدار الحاجة، بل قد يكون مستحبًا في بعض الموارد تأسيًا برسول الله ﷺ بما ورد عنه عن حفيده الصادق (عليه السلام): (كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُنْفِقُ فِي الطِّيبِ أَكْثَرَ مِمَّا يُنْفِقُ فِي الطَّعَامِ)[14]، فلا ينبغي الحرج عند الإنفاق في مثل هذه الموارد مخافة الإسراف أو تجاوز الحد.
ولكن ينبغي الحذر والانتباه في هذه الموارد من مخالفة الاقتصاد وتقدير المعيشة، فإنَّ الشارع المقدس وإن رفع الإسراف عن بعض المواضيع للاهتمام والعناية بها، لكنه نصب عنوانًا آخرًا مهمًا، ألا وهو القصد في المعيشة وتقديرها، روى الكليني في الكافي بإسناده عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (الكَمَالُ كُلُّ الكَمَالِ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبْرُ عَلَى النَّائِبَةِ، وَتَقْدِيرُ المَعِيشَةِ)[15]، وفي رواية أخرى أن تقدير المعيشة من علامات المؤمن[16]، فلا ينبغي أن يلحظ قول الإمام (عليه السلام) لا إسراف في الطعام، دون أن يُلحظ عنوان تقدير المعيشة، فينفق الرجل على طعامه وطيبه فوق الحاجة تمسكًا بعدم وجود الإسراف فيها وثُمَّ يقصُرُ ماله عن تأدية ما عليه من الحقوق كالنفقة على العيال، أو لا يجد ما ينفق في باقي أمور معاشه، بل ورد الذم لمن أنفق ماله في سبيل الله ولم يكن في ذلك مقتصدًا، ففي الكافي بإسناده عن حماد اللحام عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَنْفَقَ مَا فِي يَدَيْهِ فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ الله، مَا كَانَ أَحْسَنَ وَلَا وُفِّقَ أَلَيْسَ الله يَقُولُ: {وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} يَعْنِي الْمُقْتَصِدِينَ)[17]، هذا فيمن أنفق ماله في سبيل الله ولم يكن مقتصدًا، فكيف بمن ينفق ماله في غير سبيل الله ولا يكون مقتصدًا؟! عن الشيخ الكليني بإسناده عن عمار أبي عاصم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (أَرْبَعَةٌ لَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ -أَحَدُهُمْ- كَانَ لَهُ مَالٌ فَأَفْسَدَهُ، يَقُولُ يَا رَبِّ ارْزُقْنِي فَيَقُولُ أَلَمْ آمُرْكَ بِالاقْتِصَادِ)[18].
فما ينبغي أن يكون عليه المرء المسلم، أن يتوسع عند السَّعة، ويُقتِّر عند التقتير، عملًا بأمر الله تعالى وتأسيًا بأهل بيت نبيه (صلوات الله عليهم أجمعين)، فإذا ما جاد الله على المرء، جاد على نفسه وعياله وإخوانه، فـ(إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، وَيُحِبُّ أنْ يَرَى أَثَرَ نِعمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ)[19]، وإذا أمسك الله عنه، لزمه الإمساك وتقدير معيشته، يروي ابن بكير عن بعض أصحابه قال: (كَانَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) رُبَّمَا أَطْعَمَنَا الْفَرَانِيَّ[20] وَالْأَخْبِصَةَ[21]، ثُمَّ أَطْعَمَنَا الْخُبْزَ وَالزَّيْتَ، فَقِيلَ لَهُ لَوْ دَبَّرْتَ أَمْرَكَ حَتَّى يَعْتَدِلَ، فَقَالَ (ع): إِنَّمَا نَتَدَبَّرُ بِأَمْرِ الله، إِذَا وَسَّعَ عَلَيْنَا وَسَّعْنَا وَإِذَا قَتَّرَ قَتَّرْنَا)[22]. وعن رفاعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إِذَا جَادَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْكُمْ فَجُودُوا، وَإِذَا أَمْسَكَ عَنْكُمْ فَأَمْسِكُوا، وَلَا تُجَاوِدُوا الله فَهُوَ أَجْوَدُ)[23].
اللهم إنَّا نسألك نعيمًا لا يفنى، والقصد في الفقر والغنى، والعمل بالحق عند الغضب والرضى، فاستجب لنا يا أهل المغفرة والتقوى.
كَتَبَهُ حُسِين بنُ يُوسُف طَارش
ليلة السابع من ربيع الأول لعام ١٤٤٢ للهجرة المباركة
.......................................
[1] الأنعام 141.
[2] الفرقان 67.
[3] عيون أخبار الرضا، باب ما كتبه الرضا عليه السلام للمأمون في محض الإسلام وشرائع الدين، الحديث الأول.
[4] فروع الكافي، باب فضل القصد، الحديث الثاني.
[5] فروع الكافي، باب فضل القصد، الحديث العاشر.
[6] فروع الكافي، باب كراهية السرف والتقتير، الحديث الأول.
[7] فروع الكافي، باب لبس الخلقان، الحديث الثاني.
[8] فروع الكافي، باب مقدار الماء الذي يجزئ للوضوء والغسل ومن تعدى في الوضوء، الحديث التاسع.
[9] من لا يحضره الفقيه، كراهة الإسراف واستحباب القصد.
[10] مجمع البحرين، مادة سرف.
[11] فروع الكافي، باب فضل القصد، الحديث العاشر.
[12] فروع الكافي، باب في التقدير وأن الطعام لا حساب له، الحديث الرابع.
[13] فروع الكافي، باب الطيب، الحديث السادس عشر.
[14] فروع الكافي، باب الطيب، الحديث الثامن عشر.
[15] أصول الكافي، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، الحديث الرابع.
[16] تهذب الأحكام، كتاب التجارة باب الزيادات، الحديث الثامن والأربعين.
[17] فروع الكافي، باب فضل القصد، الحديث السابع.
[18] أصول الكافي، باب من لا تستجاب دعوته، الحديث الثاني.
[19] الخصال، حديث الأربعمائة.
[20] الفراني جمع فرنية، وهو "خُبْزٍ غليظٍ مُسْتَديرٍ، أو خُبْزَةٍ مُصَعْنَبَةٍ مَضْمومةِ الجَوانبِ إلى الوَسَطِ تُشْوَى، ثم تُرَوَّى سَمْناً ولَبَنَاً وسُكَّراً" [قاموس المحيط، فرن].
[21] الأخبصة جمع خبيص، وهو "المَعْمُولُ من التَّمْرِ والسَّمْنِ" [قاموس المحيط، خبصه]، وهو والفرنية من الأطعمة الجيّدة.
[22] فروع الكافي، باب في التقدير وأن الطعام لا حساب له، الحديث الأول.
[23] فروع الكافي، باب فضل القصد، الحديث الحادي عشر.