بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الغر الميامين.
وعالم الدين ليس من كوكب آخر حتى يعتزل وينزوي عن مجتمعه أو هو عصي على مجتمعه أن يفهمه.
بهذا التأصيل ولكي تعج الحلبة بفرسانها ومن أجل خلق وعي ناضج بين الركنين أعني بهما العالم والمجتمع لابد وأن يكون حامل شعلة العلم ومن يتقدم الصفوف ويريد خلق شراكة بينه وبين من نذر نفسه لهدايتهم وتقويمهم على خطى السيرة العملية لأدلاء الخلق إلى الله تعالى عليهم السلام أن يكون محيطا بفهم رسالة العلم أولا ثم تحديد الوجهة ثانيا.
وبمعنى أخصر: التفريق بين الهدف والغاية.
وكلما شرفت الغاية شرف الهدف والعكس صحيح.
فإذا رسم العالم خريطة تخصصه بإتقان وفق ذينك الركنين وتوسع في فهم مفردة (النذارة) بكل آفاقها الرحبة فسوف يسهل عليه حينئذ إدراك ملازماتها واستحقاقاتها وضرائبها.
قال سيدنا ومولانا جعفر بن محمد الصادق عليه وعلى آبائه وأبنائه صلوات وسلام الباريء الخالق: "العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس". (وفي ن.خ العارف).
رواه أصحاب المجاميع الروائية قدست أرواحهم.
أقول: لا فرق كبير بين المفردتين ولكن ربما دلّت "العارف"أكثر من "العالم"ففي الأولى مزيد دراية وأما الثانية فليس من الضرورة أن يكون العالم عارفا أي داريا. وربما كانت الثانية عطف تفسير على الأولى هكذا: العالم العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس. وهو الأقرب كما يبدو للنظر القاصر إن فكّكنا بين عالم عارف بزمانه وبين عالم غير عارف بزمانه. والله أعلم.
على أية حال: ما دام السؤال يصب في مجرى العلاقة بين العالم والمجتمع: ماهي عوامل تكوّن الأجواء العلمية الحوزوية في المجتمع؟
فأتصور بأن الرواية الشريفة لها مسيس الصلة على ما أظن. ومع إننا لا ننكر انبغاء حياطة العالم في فني المنقول والمعقول على المستوى النظري داخل أروقة حوزاتنا العلمية الشريفة ومردوداته على المستوى الشخصي ولكننا نؤكد في الوقت ذاته على نظرة المجتمع إلى دوره الريادي والإقتراب منه أكثر وتلمّس همومه وبلاءاته واحتياجاته، وتفعيل تلك السنوات الطوال من المدارسة، ومن أنه لا يفكر في بازار الألقاب إلا نادرا بقدر ما يقيّم فيه نشاطه الميداني.
ولكي يطوي عالم الدين ويختزل ما وعاه من حقائق العلم في أجوائه العلمية التخصصية الخاصة وتفعيل حركته المباركة في مجتمعه لابد له من عبر قناطر عدة كي يتشرف بمنطوق عطر مديح رواياتهم عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام وليصبح بعدها من أجلى مصاديقها.
الأولى: التربية الروحية وعامل التزكية الذي ينبغي أن يتشرب به من أول خطوة على أعتاب الحوزة العلمية فإن النفوس تهفوا لصاحب الأخلاق والذوق الرفيع ولا تُقبل على العالم المهمل في هذا المضمار ولو كان أعلم أهل زمانه بينما تشرأب الأعناق لمن هو دونه ويهيمن على الفلوب قبل العقول.
الثانية: الإحاطة والإدراك للمضامين دون حفظ المتون فقط وفقط فكم من متن قد أُسيء فهمه وتطبيقه وكانت عواقبه كالأمواج العاتية على حافظه ومتلقيه.
الثالثة: الإقتراب من الظواهر السلبية للمجتمع والغوص في لب العلاجات وعدم الإتكاء على التنظير فقط ومن دون البحث في الأسباب أو القفز على النتائج.
الرابعة: التنافس الشريف في بذل العلم لأهله وترك التخندق والتحزب والمناكفات فقد فوتت الكثير من جهود السلف الصالح من العلماء الأبرار طابت رموسهم وأفقد الثقة بالعلم والعلماء في الأوساط المؤمنة ولحتى احتوشتهم التيارات المنحرفة.
فكفانا تشظّيا. فالعالم كله للكل والوقوف على مسافة واحدة من الجميع يحقق له الإستقلالية فيما يرتئي من ضوابط وتشخيص. فلا الكثرة تحلّق به في آفاق الشهرة وخفق النعال ولا القلة تحزنه بقدر ما ينشد من رضا الله تعالى وأداء وظيفته الشرعية وما عاهد عليه الله عز وجل أن يكون مصباح هدى للتائهين.
الخامسة: الغرور العلمي المبكر وما أدراكه قبل فهم تعقيدات المجتمع فإنه من أبرز فشل العالم ميدانيا والتجارب خير برهان.
السادسة: إن النزول الى مستوى فهم المجتمع ومراعاة قابلياته واستعداداته من دون إخلال بالقناعات الأولية أفضل من الصعود إلى أبراج الألقاب العلمية الإعتبارية؛ فليس بالضرورة بمكان أن ينال العالم إعجاب المعجبين بمخزونه العلمي بقدر ما التصق به من الناس إعجابا به لاحترامه لعقولهم.
السابعة: هناك فرق بين الثقافة الإلتقاطية من هنا وهناك وبين الأصالة الدينية ينبغي على العالم عدم الخلط بينهما وهي من الطامات الكبرى التي سوف يحاسب عليها أمام الله حسابا عسيرا وهي أزمة تعج بها الأوساط العلمية مع آلاف الأسف أنتجت لنا أنصاف متعلمين في زي عالم الدين.
الثامنة: هناك مقولة مشتهرة مفادها"لسنا مجتمعا ملائكيا على طول الطريق ولسنا كذلك مجتمعا شيطانيا على طول الطريق فعلى عالم الدين السعي الى ترسيخ معالم الأخلاق وحفظ القيم مهما استطاع من بيان فقد ضاعت هوية مجتمعنا الدينية وانغمسنا في الإستسلاف من الشرق والغرب ومن كل غث وعفن. لحتى أضحى الكثير يطلق على أصالتنا الأخلاقية وقيمنا السمحاء رجعية!
التاسعة: إن افتقاد لغة التفاهم هي السائدة بين أهل العلم فيما يحتاجه مجتمعنا من إصلاح للخلل وتطلعا للأرقى وكل يغرد في سربه في المحلة الواحدة.
هذا مع إمكان الإتفاق على تحديد ظاهرة واحدة ومعالجتها في حلول كل موسم.
وختاما: نحن والمجتمع صنوان نؤثر فيه ونتأثر به ولا من محيص من النزول لحومة الميدان ولكن بشرطها وشروطها كما مر عليكم من الرواية الصادقية: "العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس".
فأي لوابس يعنيها عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام؟
فرغ القلمُ من ركوعه وسجوده في الثلث الثاني من سحر ليلة١٠ من ربيع الآخر ١٤٤٢ هجري الموافق:
25 نوفمبر 2020 ميلادي.
السيد جميل المصلي.