بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلِهِ الطيبين الطاهرين.
عندما كان المنذور طاعةً، والواجبات من الطاعات، ومع السَّلامة من محذور اجتماع المثلين، ذهب جملةٌ من الأعلام إلى صحَّة نذر الواجب. قال في الدروس: "ولو نذر صلاةً مشروعةً وَجَبَتْ، وإن كانت فريضةً تأكَّدتْ وتعرَّضَ للكفَّارة"[1].
ومَنَعَ الشَّيخُ في المبسوط كما عن العلَّامة في المختلف[2]، وابنُ إدريس في السرائر من انعقاد نذر صيام أوَّل رمضان؛ قال: "من نذر أن يصوم أوَّل يوم من رمضان، لم ينعقد نذرُهُ؛ لأنَّه يستحقُّ صيامه لغيره؛ لأنَّه لا يمكن أن يقع فيه على حال صيام غير رمضان"[3].
وقال في المختلف: "والوجه عندي الانعقاد؛ للإجماع منَّا على أنَّ النذر إنَّما ينعقد إذا كان المنذور طاعةً بان يكون واجبًا أو مندوبًا، وإيجاب صومه بأصل الشرع لا ينافي تأكيد الوجوب"[4].
إنَّما عقدنا هذا البحث للنظر في حكم أن يكون المنذور فريضةً، وهو نذر الواجب، وقد منعه جمهور العامَّة.
عُرِّفَ النذرُ بأنَّه "التِزَامُ الكَامِلِ المُسلِمِ المُختَارِ القَاصِدِ غيرِ المَحْجُورِ عليه بفعلٍ أو تركٍ، بِقَولِهِ لِلهِ، ناويًا القربة"[5].
والكلام في أمرين:
- الإمكان والحكم.
- المراد من التأكُّد.
أمَّا الوقوع فهو بحسب الفرض ممكنٌ؛ إذ أنَّ نَذْرَ الواجِبِ عُرُوضُ وجُوبٍ على واجب، وليس ذلك من اجتماع المثلين ليُمنع، فإنَّ الاجتماع الممنوع هو أن يجتمعا في وجود واحد، والكلام في عروضِ وجُوبٍ على واجب، لا وجوبين على موضوع يجب بعروض الوجوب عليه.
بعبارة أخرى: الممنوع هو اجتماع "فردين من ماهيةٍ نَوعيةٍ واحِدَةٍ؛ فكونهما مثلين اثنين يقتضي تعدد وجودهما، فيمتنع اجتماعها في وجود واحد". فلو أُوجِبَ شَيءٌ بوجوبين من حيثية واحدة، كما في بحث المقدمة الداخلية والمقدمة الخارجية إذ قالوا بوجوب "الكلّ بوجوب نفسي استقلالي ويجب كلّ واحد من الأجزاء بوجوب نفسي ضمني، أي في ضمن وجوب الكلّ، ومن المعلوم أنّه بعد اتّصاف كلّ واحد من الأجزاء بالوجوب النفسي الضمني يكون اتّصافه بالوجوب الغيري لغوًا بل غير ممكن عقلًا؛ وذلك لامتناع اجتماع المثلين".
لم يرتض المحقِّق النائيني (قُدِّس سرُّه) دعوى الامتناع لكونهما مثلين، فقال في مقام ردِّ إشكالٍ ما محصله: (إنّ اجتماع الحكمين في شيء واحد لا يؤدّي إلى اجتماع المثلين بل يؤدّي إلى اندكاك أحدهما في الآخر فيصيران حكماً واحداً مؤكّداً)[6].
غير أنَّ الشَّيخ ناصر مكارم الشيرازي (دام ظلُّه) يذهب إلى عدم الاستحالة في الأمور الاعتبارية، فقال: "إنَّ استحالة اجتماع المثلين بحكم العقل إنّما هو في الاُمور التكوينيّة الحقيقية لا الأمور الاعتباريّة كما في ما نحن فيه، فلا يلزم من اجتماع المثلين في المقام محذور غير اللغويّة"[7].
كيف كان، فإنَّ الاندكاك لا مُبرِّر له، وأمَّا التأكيد فلغو مع عدم ما يستدعيه.
ثُمَّ فليكن واضحًا أنَّ الذي وجب بالنذر واجبٌ، وليس الصلاة -مثلًا- دون قيد الزوال؛ إذ أنَّه إثباتًا لا شيء عندنا غير هذه الصلاة الواجبة، وهي في الفرض مُتعلَّق النذر. أي أنَّ الوجوب بالنذر عارِضٌ على مركَّب الصلاة الواجبة لا على الصلاة دون الوجوب العارض عليها.
ولا تتوهمنَّ أنَّنا نقول بتغير ماهية الصلاة بعد عروض الوجوب عليها، بل افهم أنَّ ما نراه في الفرض هو عروض الوجوب النذري على مركَّب الصلاة الواجبة بالأمر الإلهي بما هو مركب، والدليل عليه أنَّ الناذر لا يفكِّك بين الصلاة بقيد الزوال وبين وجوبها بالأمر الإلهي للزوال؛ كيف وهو لا يعرف غير هذه الصلاة الواجبة بالأمر الإلهي بقيد الزوال كوحدة واحدة.
ومن جهة أخرى فإنَّه لا يُشرَّع له، بل هو غير ممكن عقلًا أن يصلِّي المنذورة دون أن تكون هي الواجبة أصلًا بالأمر الألهي؛ فإنَّ نفس هذه الواجبة بالأمر الإلهي هي المنذورة. فلو كانت الصلاة بقيد الزوال (س)، والوجوب (ص)، والصلاة الواجبة بقيد الزوال (هـ)، فإنَّ متعلَّق النذر هو (ه) وليس (س). فافهم.
وعليه، فإنَّ الوجوب النذري لا يلتقي الوجوبَ بالأمر الإلهي فينتقل الكلام إلى القول بالاستحالة لكونهما مثلين، ولكنَّه يلتقي مركب الصلاة الواجبة بالأمر الإلهي بقيد الزوال.
أمَّا ثبوتًا فبيانه:
الصورة الأولى: وجوب الصلاة بقيد الزوال، ووجوب الصلاة المقيدة بالزوال بالنذر، وهذا الوجوب الثاني لا نظر فيه للوجوب الأوَّل، وبالتالي يمكن أن يقال بوجوب الصلاة من حيثيتين؛ حيثية نفسها وحيثية كونها منذورة.
الصورة الثانية: وجوب الصلاة بقيد الزوال، ووجوب نفس الصلاة الواجبة ولكن بوجوب ثان بالنذر، أي أنَّ متعلَّق الوجوب بالنذر هو الصلاة الواجبة، وليس الصلاة الخالية من الوجوب الأوَّل، فلا يُقال بوجوبها من حيثيتين؛ إذ أنَّ الصلاة المجرَّدة وجبت من حيث الأمر الإلهي بها، وما وجوب بالنذر هو هذه الصلاة الواجبة. وهذا إن أمكن ثبوتًا وإثباتًا لعدم محذور اجتماع المثلين، غير أنَّه من اللغو الواضح.
لذا، فإنَّنا نُسلِّم بإمكان عروض الوجوب على الواجب، غير أنَّه لا واقع له في الثبوت؛ وذلك لوجهين:
الأوَّل: لُزُومُ اللغوية؛ لأن النذر التزامٌ ولا يصحُّ التِزَامُ ما هو لازِمٌ له.
الثاني: عدم تصور التأكُّد الذي قال به بعض الأعلام؛ فنقول:
إنَّما التأكيد لنفي التردُّد أو الشك أو إمكان التراجع، فقالوا كما في القاموس المحيط: "والمَياكيدُ والتَّآكيدُ والتَّواكيدُ: السُّيورُ التي يُشَدُّ بها القَرَبُوسُ" ويتأكَّد الخبرُ إذا تواتر؛ إذ أنَّ كلَّ واحد يؤكِّد الآخر. أمَّا الصلاة فواجبة مُؤكَّدًا بالأمر الإلهي بلا تردُّد ولا شكٌّ، ولا معنى للقول بأنَّ وجوبَها بالنذر مُؤكِّدٌ لوجوبها، والكلام هو الكلام مع القول بالاندكاك، وإنْ كان له وجه في بعض الموارد، غير إنَّ ما نحن فيه ليس منها.
ننتهي إلى:
- صحَّ أنَّ ضابط المنذور "أن يكون طاعةً كالعبادات الراجحة، والمراد من الطاعة ما يشتمل على القربة من العبادات المعهودة"[8]. إلَّا أنَّنا نقول: العبادات الراجحة غير الواجبة بالأمر الإلهي؛ وذلك لما تقدَّم، كما ويصحُّ أنَّ: "النذر إنَّما ينعقد إذا كان المنذور طاعةً" كبرى، وتكون الواجبات بالأمر الإلهي خارجة تخصُّصًا للزوم اللغوية؛ كما مرَّ.
- صحَّ أنَّ نذر الواجب لا يلزم منه اجتماع المثلين، ولكن لا لاختلاف الحيثية ولا للاندكاك ولا لكونها من الاعتباريات، ولكن لكون العروض عروضَ وجوب بالنذر على مركَّب الواجب.
- لا نتصوَّرُ تأكيد ما ثبت وجوبه؛ إذ أنَّ نفس الوجوب بالأمر الإلهي الواقعي مُؤكَّدٌ من جميع الجهات، وإنَّما يحتاج إلى التأكيد ما لا يكون مُحكم الإلزام من جميع جهاته.
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
غرَّة جمادى الأولى 1442 للهجرة
........................................
[1] - الدروس الشرعية في فقه الإمامية -الشهيد الأوَّل- ج1 ص523
[2] - مختلف الشيعة -العلَّامة الحلِّي- ج8 ص207
[3] - السرائر -ابن إدريس الحلِّي- ج3 ص74
[4] - مختلف الشيعة -العلَّامة الحلِّي- ج8 ص207
[5] - الدروس الشرعية في فقه الإمامية -الشهيد الأوَّل- ج1 ص522
[6] - راجع: أجود التقريرات – المُحقِّق النائيني – ج1 ص315 (في خروج المقدمات الداخلية عن محلِّ النزاع عند صاحب الحاشية)
[7] - انوار الأصول – ناصر مكارم الشيرازي- ج1 ص245
[8] - عيون الحقائق الناظرة في تتمَّة الحدائق النضرة – الشَّيخ حسين آل عصفور- ج2 ص241