بسم الله الرحمن الرحيم وصلَّى الله على سيدنا ونبينا محمَّد وعلى آله الغر الميامين.
ماهو الفرق بين أن يقال بعدم وجود دليل (عقلي) على جواز التقليد وبين عدم وجود دليل (عقلائي) على عدمه؟
أما بالنسبة للأول:
فسوف تكون الإجابة على سؤال نفاة وجود دليل (عقلي) على جواز التقليد مفاده: إذا كان العقل يحكم برجوع الجاهل إلى العالم كرجوع المريض إلى الطبيب. فهو مصادرة على المطلوب؛ فإن العالم بالدين إنما هو الإمام المعصوم أو المتصل به وليس الفقيه؛ إذ لا يحصل له العلم والحكم.
ومعه يكون الضرر محتملًا ومن الواجب عقلًا دفع الضرر المحتمل.
وجوابه:
أولا: أن هذا هو المصادرة عينها؛ لأن العبرة في (العالم) أن يكون خبيرًا في موضوعه ومتخصصًا فيه وفق الأدوات التخصصية المتاحة، ولا يلزم حصول العلم الجازم له.
والمصاديق متكثرة خارجًا لدى العقلاء في سائر حقول حياتهم حين اعتمادهم على أهل الخبرة في المواضيع وفق آلياتهم المتاحة في ذات التخصص. ولا يتاح للشيعة في ظرف الغيبة الكبرى لمولانا صاحب الزمان أرواحنا إلَّا الرجوع إلى الفقهاء الأعلام. بل يمكن الترقي إلى عدم الإتاحة لأكثر الأساطين في زمان الحضور المبارك أيضًا.
ثانيا: إن توسط غير المعصوم بين الناس وبين المعصوم لا يوجب العلم لإنه عرضة للخطأ في التلقي عن المعصوم.
ثالثا: إن في الدليل النقلي اللفظي والتقريري كفاية.
وأمَّا الجواب عن الثاني أعني عدم وجود دليل (عقلائي) على جواز التقليد نقضًا لسيرة العقلاء القائمة على رجوع الجاهل للعالم وغاية ما تنتجه هو جواز التقليد لا (وجوبه)، إضافة إلى أنه مع التسليم بهذه السيرة العقلائية إلَّا أنها فاقدة لشرط الإمضاء لعدم ثبوت اتصالها بزمان المعصوم عليه السلام.
وعليه: فإنه لا يصح التمسك بسيرة العقلاء في زمن الغيبة. وكذلك لا يمكن التمسك بسكوت الإمام أرواحنا فداه لا يدل على إمضائه لإنه غير (مكلف) بتعليم الناس في غيبته، وهو تصريح كثير من الأعلام لوجود المانع وهو الإستتار المأمور به من رب العباد.
وكذلك وجود ردع روائي عنه كرواية أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: قلت له: "(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله).
فقال (عليه السلام): أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلُّوا لهم حرامًا وحرَّموا عليهم حلالًا فعبدوهم من حيث لا يشعرون". ينظر: من أول الرواية إلى آخرها تفسير العسكري صلوات الله وسلامه عليه. وكذلك الكافي ٥٣/١ ج١.
وقد أُجيب عنه:
أولا: بقيام السيرةالعقلائية -بمافيهم المتشرعة- أنها قائمة على الرجوع لأهل الخبرة وهي وافية بالرجوع للفقيه لكونه (الخبير) في تخصصه وهو الحكم الشرعي.
وأما الإيراد على السيرة فغاية ما تثبته الجواز لا الوجوب فهو غير ناهض وذلك أن القائلين بالتقليد لا يوجبونه إلا إذا كان المكلف عاجز عن تحصيل الحكم الشرعي بنفسه أو عدم قدرته على الاحتياط لصعوبته فإذا تعذر عليه الأولان وجب عليه التقليد. وهو كما ترى في الفرق بين المصير إلى القول بالجواز
والقول بالوجوب فتأمل.
وأما الإيراد عليها: بعدم اتصالها بزمان المعصوم (عليه السلام) فهو من الخطأ البيّن فإن السيرة العقلائية قائمة على أصل الرجوع أعني الرجوع إلى الخبير من دون تفريق بين زمان وزمان لوحدة المناط.
وختاما: نصل إلى جواب إيراد الردع بالرواية الصادقية؛ فقد قيل في حله:
إن مفاد الردع هو الإتّباع للغير فيما يصدر منه إذا لم يكن مما جاء به الله تعالى وأوليائه كما هو حال أحبار اليهود ورهبان النصارى المتبعون لأهوائهم في الحلال والحرام وقد ذم الله تعالى الأتباع (الأقوام) باتّباعهم لهم وهي واضحة الدلالة وليس لها صلة بمسألة التقليد الذي نحن فيه لا من قريب ولا من بعيد. وإنما هي في مقام ذم العلماء السوء وحرمة اتّباعهم فيما يصدر منهم من تحليل للحرام أو تحريم للحلال البينين.
وعليه: فلا تردع الرواية عن اتّباع أو تقليد العلماء الفقهاء الجامعين لشرائط الفتوى وما قد ورد من منطوق رواية التفسير المنسوب لمولانا الحسن العسكري (عليه السلام): "وأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه مخالفا لهواه متبعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه وأما من ركب مراكب العامة فلا ولا كرامة....." إلى آخر الرواية. فلتنظر في مظانها.
تم تحرير المسألة وجمع أطرافها من أسفار الأعلام والتصرف في بعض عبائرهم تصرف لا يخل بالمعنى
وانفتل القلم من ركوعه وسجوده في سحر ليلة الحادي عشر من شهر جمادى الأولى من عام ١٤٤٢ من الهجرة الشريفة على مهاجرها وآله آلاف التحيات والسلام والصلوات.
الموافق:
٢٠٢٠/١٢/٢٥م
السيد جميل المصلي.