بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطاهرين
جعلَ الشارِعُ المُقَدَّسُ مهرَ نساء آل محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) حقًّا للمرأة لا تجوزه إن فوِّضَ إليها تقديره، وإن كان للرجل جاز له ذلك. قال في أحكام النساء: "ومن تزوج امرأة على حكمها، فلها أن تحكم عليه في المهر بالسُنَّةِ فما دون ذلك، وليس لها أن تحكم عليه بأكثر من مهر السُنَّة. والسُنَّةُ في المهر خمسمائة درهم بالغًا ما بلغ، فقد وجب عليه لها ما أوجبه على نفسه"[1].
وفي الكافي: "ومهر المثل يعتبر فيه السن والنسب والجمال والتحصين، فإن نقص عن مهر السُنَّة لم يكن لها غيره، وإن تجاوزه رُدَّ إليه، وهو خمسمائة درهم فضة أو قيمتها خمسون دينارًا"[2].
وقال في المهذب: "ومن تزوج امرأةً على كتاب الله وسُنَّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ولم يُسَمِّ مهرًا، كان مهرُها مهرَ السُنَّة بغير زيادة ولا نقص، فإن تزوج على حُكمِها فَحَكَمتْ بدرهمٍ أو بأكثر منه، إلى أن يبلغ خمس مائة درهم، كان حكمها ماضيًا، فإنْ حكمتْ بأكثر من خمس مائة درهم لم يجز حكمها ورُدَّتْ إلى الخمس مائة. فإن تزوجها على حكمه، كان ماضيًا في أي شيء ذكره قليلًا كان أو كثيرًا، ولم يجر حكمه إذا جاوز مهر السُنَّة مجرى حكمها إذا جاوزت ذلك، لأنَّها لمَّا حكمته كان عليها أن لا تمنعه نفسها إذا أتاها بشيء ما، ولم يكن لها إذا حكمها أن يتجاوز مهر السُنَّة"[3].
وعلى هذا مشهور علماء الطائفة، بل ومنع المرتضى مجاوزة مهر السنَّة مطلقًا مدعيًا الإجماع؛ قال: "وممَّا انفردت به الإماميةُ أنَّه لا يتجاوز بالمهر خمسمائة درهم جيادًا قيمتها خمسون دينارًا فما زاد على ذلك رُدَّ إلى هذه السُنَّة" وفي مقام الاستدلال قال: "والحجَّة بعد إجماع الطائفة أنَّ قولنا: مَهرٌ يتبعه أحكامٌ شرعيةٌ، وقد أجمعنا على أنَّ الأحكام الشرعية تتبع ما قلنا به إذا وقع العقد عليه، وما زاد عليه لا إجماع على أن يكون مهرًا، ولا دليل شرعي، فيجب نفي الزيادة"[4].
تمسَّك أعلام الطائفة على مرِّ العصور بخمسمئة درهمٍ مهرَ السُنَّة دون تعرُّضٍ لبحث ما يُسمَّى في المصطلح الاقتصادي الحديث بـ(القوَّة الشرائية)، والحال أنَّ هناك من أهل الفضل من يُشكِل بما لو هبط سعر الفضَّة بما لا يكون للخمسمئة درهم قوَّةً شرائية تفي للزوجة بما تحتاجه.
وهنا أمران هما ما عُقِد لهما هذا البحث:
الأوَّل: أخذ القوَّة الشرائية في المهر.
الثاني: كون المهر للوفاء بما تحتاجه الزوجة في الانتقال إلى حياة الزوجية.
أخذ القوَّة الشرائية في المهر:
القوَّة الشرائية هي قدرة الوحدة الواحدة من العملة على شراء سلعة أو خدمة، وهي عرضة للتغير بحسب الكثير من العوامل الاقتصادية، ولذا نرى أنَّ بمئةِ فلسٍ كان قبل عشرين سنةٍ يشتري الرجلُ جوربًا، فيما أنَّها اليوم لا تمتلك تلك القدرة على شراء فردة واحدة من أسوء أنواع الجوارب؛ فالقوة الشرائية لهذا النقد قد ضعُفَت عمَّا كانت عليه.
على ذلك فالإشكال فيما لو ضعُفَت القوَّة الشرائية للخمسمئة درهم، فهل تبقى مهرَ سنَّةٍ؟
ولو ارتفعتِ بحيثُ لا تكون مقدورةً لأكثر المقبلين على الزواج، فهل تبقى كذلك؟
الكلام في الغاية من المهر:
دفعًا لاشتباهات محتملة نقدِّمُ بأنَّ للزواج غرضًا إلهيًّا يُطلبُ من الزوجين، فإنْ حقَّقاه وإلَّا فنفس زواجهما ينحدر وقد يصل إلى ما يقرُب من تزاوج غير الإنسان.
قال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[5].
فإذا توجَّه الزوجان إلى كونهما من نفس واحدة فكان ذلك أدعى للسكنى، وإلى أنَّ الله تعالى قد جعل بينهما مودَّة ورحمة، فقاما بما يستدعيه كلُّ ذلك ظهرا آيةً من آيات الله تعالى تدعو إليه سبحانه من يتفكَّر فيها.
إنَّ لهذا السمو بدايةً أوَّليَّةً هي:
1- الصِداق في قبال النكاح. 2- استمرار النفقة والسكنى والكسوة على الرجل، والتمكين وعدم الخروج من الدار من غير إذن على المرأة.
الواضح أنَّ هذا المستوى هو الحافظ لسلامة المجتمع من السفاح وما يترتب عليه، ولا ينبغي البقاء عنده، بل ممَّا أراده الله تعالى أنْ يتَّخذه الزوجان بداية ومنطلقًا لعلاقة قوامها السكنى والمودَّة والرحمة.
احتاج المقامُ لهذه المقدِّمة حذرًا من احتمال وقوع البعض في اشتباه أنَّنا نقول بأنَّ العلاقة الزوجية علاقة حيوانية ليس فيها غير مال في قبال فرج!
نعم، هو كذلك ما لم يرتق الزوجان نحو تحقيق التجسيد الأكمل للسكنى والمودَّة والرحمة؛ وقد روى في دعائم الإسلام "أنَّ عليًّا (عليه السَّلام) قال في قوله تعالى: (وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)[6]، قال: يقول عزَّ وجلَّ: أعطوهنَّ الصداقَ الذي استحللتم به فروجهن. فمن ظلمَ المرأة صداقَهَا فقد استباح فرجها زنًا"[7].
إذا فهمتَ ذلك اعلم بأنَّ للمهر جهتين رئيسيتين:
الأولى: جهة غيبية:
في الصحيح عن البزنطي، عن الْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السَّلام) عَنْ مَهْرِ السُّنَّةِ كَيْفَ صَارَ خَمْسَمِائَةٍ؟
فَقَالَ (عليه السَّلام): "إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِه أَلَّا يُكَبِّرَه مُؤْمِنٌ مِائَةَ تَكْبِيرَةٍ ويُسَبِّحَه مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ ويُحَمِّدَه مِائَةَ تَحْمِيدَةٍ ويُهَلِّلَه مِائَةَ تَهْلِيلَةٍ ويُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه مِائَةَ مَرَّةٍ، ثُمَّ يَقُولَ اللَّهُمَّ زَوِّجْنِي مِنَ الْحُورِ الْعِينِ إِلَّا زَوَّجَه اللَّه حَوْرَاءَ عَيْنٍ، وجَعَلَ ذَلِكَ مَهْرَهَا، ثُمَّ أَوْحَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَى نَبِيِّه (صلَّى الله عليه وآله): أَنْ سُنَّ مُهُورَ الْمُؤْمِنَاتِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله). وأَيُّمَا مُؤْمِنٍ خَطَبَ إِلَى أَخِيه حُرْمَتَه فَقَالَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يُزَوِّجْه فَقَدْ عَقَّه واسْتَحَقَّ مِنَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ أَلَّا يُزَوِّجَه حَوْرَاءَ"[8].
محلُّ الشاهد:
- أنَّ المهرَ المُقدَّر بخمسمئة درهم بإزاء تكبير المؤمن وتسبيحه وتحميده وتهليله وصلواته على محمَّد وآل محمَّد مئة مئة. فالذكر مهر الحوراء والدراهم مهر المؤمنة.
- الخمسمئة درهم مجعولة من الله تعالى.
وليست المئة كعدد في قبال المئة مِنَ الذِكْرِ، وإلَّا لبيَّن أنَّ المهرَ مئةٌ ممَّا يُعدُّ ثمنًا كالدينار والإبل وما إلى ذلك، والظاهر أنَّ لقوَّة الدراهم الخمسمئة خصوصية لم تنكشف لنا بعد. يؤيِّدُ ذلك ما في تهذيب بسنده عن أسامة بن حفص وكان قيما لأبي الحسن موسى (عليه السَّلام)، قال: قلت له: "رجلٌ يتزوَّج امرأةً ولم يُسَمِّ لها مهرًا وكان في الكلام: أتزوَّجُكِ على كتاب الله وسُنَّةِ نبيِّهِ. فمات عنها أو أراد أن يدخل بها، فما لها من المهر؟
قال (عليه السَّلام): مهر السُنَّة.
قال: قلتُ: يقولونَ أهلُها مهور نسائها!
قال: فقال (عليه السَّلام): هو مهر السُنَّة.
وكلَّما قلتُ له شيئًا قال: مهر السُنَّة"[9].
قال في الجواهر: "(ولو تزوَّجها على كتاب الله وسُنَّة نبيِّه (صلَّى الله عليه وآله) ولم يُسَمِّ مهرًا كان مهرُهَا خمس مئة درهم) بلا خلافٍ أجدهُ فيه، بل هو مجمَعٌ عليه مع قصدهما عالمين، بل ظاهر الأصحاب ذلك مطلقًا، بل في الروضة وغيرها الإجماع عليه؛ لإطلاق الأدلة وعمومها" إلى أن قال: "مُضَافًا إلى خبر أسامة بن حفص القيِّم لأبي الحسن موسى (عليه السلام) المعتبر بوجود المُجْمَع على تصحيح ما يصحُّ عنه في سنده[10]، وبالانجبار بما عرفت"[11].
محلُّ الشاهد هو نفي الإمام (عليه السلام) لكلِّ شيءٍ غير مهر السنَّة، ولم يسأل لا عن قدرة الرجل ولا عن قبول المرأة، وإنَّما ألزم بمهرِّ السنَّة وقد استقرَّ بكونه خمسمئة درهم.
إنَّ لنفس الخمسمئة درهم خصوصية شرعية كما هو الواضح من صريح أعلام الطائفة.
الثانية: مسألة المهر في قبال النكاح:
في رواية الجعفريات فسَّر الإمام (عليه السَّلام) النِحْلَة بالصداق الذي استُحِلَّ به الفرج، والحال أنَّها "العطية من غير مثامنة"[12]، ولا تعارض؛ والوجوه:
الأوَّل: أنَّه من جهة يستوجب الاستحلال، ومن جهة هو عطاء يُمنع استرجاعه مع الوطء وهو فرع الاستحلال؛ قال تعالى: (وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا)[13]، فحتَّى لو كان الصداق قنطارًا[14] لم يجز أخذ شيء منه وقد أفضى الزوجان لبعضهما البعض.
الثاني: يتحقَّق الاستحلال بأوَّل وحدةٍ من المهر، وما زاد فهو في حكم الشرط، فلا يكون المهر، قلَّ أو كثُر، في قبال الاستحلال فتُستحلُ امرأة بدرهم وأخرى بألف وثالثة بألف ألف، بل تُستحل المرأة بأوَّل وحدةٍ من المهر، وما زاد فهو النِحلة.
لا تخفى شدَّةُ التكلُّفِ والتقديراتِ في هذا الوجه الثاني. ولا معنى لتوهُّم التعارض بين النص بكون المهر (نحلة) وبين كونه ما يُستحلُّ به الفرج.
الثالث: يُحمَل لفظ (النِحلةُ) على التجوُّز احترازًا من التصريح بما قد لا يُناسب المحافظة على حياء المرأة.
كيف كان، فإنَّ المهر فرضٌ شرعيٌّ موضوعه تشريع العلاقة بين المرأة والرجل الأجنبيين، ولا دخالة له في احتياجات الزوجة من مشتريات وما شابه.
قال في الفقيه: ولمَّا تزوَّج أبو جعفرٍ محمَّد بن علي الرضا (عليهما السَّلام) ابنةَ المأمون خَطَبَ لِنَفْسِهِ، فقال: "الحمد لله مُتِمُّ النِعَم برحمته، والهادي إلى شُكرِهِ بِمَنِّهِ، وصلَّى اللهُ على محمَّد خَيرِ خَلْقِهِ، الذي جَمَعَ فيه مِنَ الفَضْلِ ما فَرَّقَهُ في الرُسُلِ قَبله، وَجَعَلَ تُرَاثَهُ إلى مَنْ خَصَّةُ بِخِلَافَتِهِ، وسَلَّمَ تَسْليمًا. وهذا أميرُ المُؤمنينَ[15] زَوَّجَنِي ابْنَتَهُ على ما فَرَضَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ للمُسْلِمَاتِ على المؤمنين مِنْ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْريحٍ بإحسَان، وبَذَلتُ لهَا مِنَ الصدَاقِ ما بَذَلَهُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم) لأزوَاجِهِ؛ وهو اثنتا عشرة أوقية ونش[16]، وعليَّ تمام الخمسمائة وقد نَحَلْتَهَا مِنْ مَالِي مِائة ألف. زَوَّجْتَنِي يا أمير المُؤمنين؟
قال: بلى.
قال (عليه السَّلام): قبلتُ ورَضِيتُ"[17].
والشاهدُ أنَّ المهرَ مهرُ السُنَّةِ، أمَّا ما تُعطى الزوجة لنفسها سواء لتشتري ما تحتاجه أو لتحتفظ به فهذا نحلةٌ من الزوج لا دخالة لها في المهر، ولا يُمنع أن تكون شرطًا في العقد.
تنبيه بخصوص مسألة القوَّة الشرائية:
لا بدَّ من الالتفات باهتمامٍ وجدٍّ إلى أنَّ أسعارَ النقدين والعملات الرئيسية تخضعُ مطلقًا لمن يتحكَّم في السوق والبورصات العالمية، فثبات الأسعار في ضمن حدود معقولة مضمون بتطبيق الموازين الصحيحة التي ينصُّ عليها الإسلام، أمَّا ما يحصل من طفرات وتحولات كبرى في الأسعار فالإسلام غير مسؤول عنها، ومن الغلط العظيم جرجرة الأحكام والرؤى الشرعية بحسب متغيرات الزمان والمكان الخارجة أو المخالفة لما قرَّره الشرع الحنيف من قوانين وتعاليم. وإنَّ ما يحدث اليوم هو من فساد وإفساد البشر (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[18].
إنَّه وبالرغم من ذلك فإنَّ أسعار الفضَّة فيما بين 1915 – 2020 للميلاد تحرَّكتْ بين حدَّين أدناهما وأعلاهما على التقريب 10 و 40 دولارًا تخلَّلتها طفرات ارتفعت بالأسعار إلى 120 دولار وهوت بها إلى ما دون 5 دولارات[19]، ولا اعتبار لمثل هذه التحركات الحادَّة في تحديد المسارات التقنينية. أمَّا الحركة فيما بين العشرة والأربعين دولارًا فتواكبها أسعار البضائع ومجمل أحوال المعيشة، ولذا لا تصحُّ المقارنة بين أسعار اليوم وما كانت عليه قبل خمسين سنة.
هذا والحال أنَّ المهر المُحدَّد بخمسمئة درهم لا دخالة له في قضاء الحوائج من مشتريات وما نحوها، وإنَّما هو لغاية واحدة مُصرَّحة في عقد النكاح إيجابًا وقبولًا فيمكن الاحتفاظ بالقيمة المعقولة حتَّى في التحركات الحادَّة لأسعار الفضَّة.
حكم التحديد بالخمسمئة درهم:
جاء في المستفيض عنهم (عليهم السَّلام) أنَّ المهر ما تراضى عليه الناس قلَّ أو كثر. منها ما في الحسن أو الصحيح عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام)، قَالَ: الصَّدَاقُ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْه مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَهَذَا الصَّدَاقُ"[20].
والكلام في ثلاث جهات:
الأولى: يُلزِمُ الشارِع المقدَّس بالمقابل، وهو المهر، الذي يُستحلُّ بِهِ الفَرْجِ، وهو حكم وضعيٌّ لا يُحدَّد قدره، بل يكفي ثبوت المالية عرفًا، فلا إشكال في أنَّه ما تراضيا عليه من قليل أو كثير، أو ما تراضى عليه الناس كما في بحث الروايات الشريفة.
الثانية: لنفس هذا المهر الذي يُستحلُّ به الفرج حقيقة أخرى هي أنَّه في إزاء أذكار خاصَّة كما مر في صحيحة البزنطي، ومن هذه الجهة يظهر ما ينبغي أن تكون عليه الزوجية من ارتفاع عن مجرَّد شهوات الدنيا.
الثالثة: المحافظة على مقدار القلَّة عن تبعية الزيادات الفاحشة في المهور، فلا يُقال بتحقق الحقلَّة في عشرة آلاف درهم إذا كانت المهور في متوسَّط مئة ألف درهم مثلًا.
فتحصَّل مُنَقَّحًا أنَّ التراضي فصلٌ في الاستقرار الشرعي لمقدار المهر، سواءً كان على ألف ألف درهم أو على عشرة دراهم، بشرط أن يكون الحدُّ الأدنى مالًا معتبرًا إذا كان المهر مالًا، وأمَّا إذا كان من قبيل تعليم سورة من القرآن الكريم أو ما شابه فهذا خارجٌ عن محلِّ كلامنا.
وأنَّ الخمسمئة درهم مستقلَّةً تُحقِّقُ البُعد الغيبي المذكور في الصحيح، ولا شكَّ في أنَّ الفضل فيها وأنَّها ممَّا يُرتجى به رضاه عزَّ وجلَّ.
نافلة:
قال في معاني الأخبار: أبي - رحمه الله - قال: حدَّثنا عليُّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن عبد الله بن ميمون، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): "الشؤم في ثلاثة أشياء: في الدَّابَةِ، والمَرْأةِ، والدَّارِ؛ فأما المرأة فشؤمها غَلَاءُ مَهرِها وعُسْرُ ولادَتِها، وأمَّا الدَّابة فشؤمها كثرةُ عِلَلِهَا وسُوءُ خُلُقِهَا، وأمَّا الدَّار فشؤمها ضِيقُها وخبثُ جِيرَانِها. وقال: مِنْ بَرَكَةِ المَرْأةِ خِفَّةُ مَؤونَتِها ويُسرُ ولادَتِهَا، وشؤمُها شِدَّةُ مَؤونَتِهَا وتَعَسُّرُ ولادَتِهَا"[21].
وفي الكافي: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله): "أَفْضَلُ نِسَاءِ أُمَّتِي أَصْبَحُهُنَّ وَجْهًا وأَقَلُّهُنَّ مَهْرًا"[22].
قال الشَّيخ في المبسوط: "وروي أنَّ عُمَرَ تَزَوَّجَ أمَّ كلثُوم بنت عليٍّ (عليه السَّلام) فأصْدَقَها أربعين ألف درهم، وأنس بن مالك تزوَّج امرأةً على عشرة ألف، وكان ابنُ عُمَر زوَّج بنات أخيه عبيد الله كلَّ واحدةٍ على عشرة ألف، وتزوَّج الحسنُ بن عليٍّ (عليه السَّلام) امرأةً فأصدقها مائة جارية مع كلِّ جاريةٍ ألف درهم، وتزوَّج مُصعبُ بن الزبير عائشةَ بنت طلحة فأصدقها مائة ألف دينار، فَقُتِلَ عنها فتزوجها رجلٌ من تميم فأصدقها مائة ألف دينار. والمستحبُّ فيه التخفيف بلا خلاف؛ لِمَا رُويَ عن عائِشَة أنَّ النبيَّ (صلَّى اللهُ عليه وآله) قال: "أعْظَمُ النِكَاحِ بَرَكَةً أيْسَرُهُ مُؤْنَةً". ورَوَى ابنُ عبَّاس أنَّ النبيَّ (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ) قال: "خَيرُهُنَّ أيْسَرُهُنَّ صداقًا". والمستحبُّ عِنْدَنَا ألَّا يَتَجاوز السُنَّةَ المُحَمَّديَّةَ خَمس مائة درهم، وبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ، ورُويَ عن النبيِّ (صلَّى اللهُ عليه وآله) أنَّهُ ما أصْدَقَ امرأةً مِنْ بَنَاتِهِ أكْثَرَ مِنْ ثنتي عَشَرَةَ أُوقيَّة ونش"[23].
يتَّضح بحسب نقل الشَّيخ (علا برهانه) ارتفاع المهور في صدر الإسلام، ولم يكن ذلك مختصًّا بوجهاء التجارة والأغنياء، بل هو مشهور في مختلف طبقات المجتمع، ولا شكَّ في أنَّ مهرَّ السنَّة في قلَّته لا لقياس على المهور حينذاك، بل لعنوان خاصٍّ فرضه الله تعالى سنَّةً. فتأمَّل.
إذا تمَّ ذلك تأكَّد استحباب الالتزام بمهر السُنَّة طلبًا للبركة والخير ورضاه سبحانه وتعالى، فلا ينبغي تركه.
**********
جاء في الخبر عن سيدنا أبي عبد الله جعفر من محمَّد الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) أنَّه قال:
"مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ: الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي"[24].
اللهم وهذا عبدك يقول: الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي.
اللهم بلِّغني رضاك واجمعني من سادتي الأطهار محمَّد وآله (صلواتك وسلامك عليهم أجمعين).
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
28 من جمادى الأولى 1442 للهجرة
البحرين المحروسة
........................................................
[1] - أحكام النساء - الشيخ المفيد - ص 37
[2] - الكافي في الفقه - أبو الصلاح الحلبي - ص 293
[3] - المهذب - القاضي ابن البراج - ج 2 - ص 202 - 203
[4] - الانتصار - الشريف المرتضى - ص 292
[5] - الآية 21 من سورة الروم
[6] - الآية 4 من سورة النساء
[7] - دعائم الإسلام - القاضي النعمان المغربي - ج 2 - ص 220
[8] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 5 - ص 376 – 377، للرواية أكثر من طريق عن الحسين بن خالد.
[9] - تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 7 - ص 363
[10] - يقصد عثمان بن عيسى
[11] - جواهر الكلام - الشيخ الجواهري - ج 31 - ص 26
[12] - الميزان في تفسير القرآن -الطباطبائي- تفسير الآية الكريمة
[13] - الآيتان 20 – 21 من سورة النساء
[14] - قال الشَّيخ في المبسوط: وقيل إنَّ القنطار سبعون ألفًا، وقال قومٌ مائة رطل، قال قوم هو ملء مسك ثور ذهبًا.
[15] - يقصد المأمون
[16] - الأوقية كما جاء في الاخبار أربعون درهما، والنش - بالفتح والشد - النصف من كل شيء فهو عشرون درهما ويصير المجموع خمسمائة درهم، وهو مهر السنة (من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 3 - هامش ص 398)
[17] - من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 3 - ص 398
[18] - الآية 41 من سورة الروم
[19] - راجع: macrotrends - Silver Prices - 100 Year Historical Chart
[20] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 5 - ص 378
[21] - معاني الأخبار - الشيخ الصدوق - ص 152
[22] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 5 - ص 324
[23] - المبسوط - الشيخ الطوسي - ج 4 - ص 272 - 273
[24] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 391