لا يخفى على المتتبِّع للحوزات العلمية أنَّ طالب العلم لا بدَّ له من بعض المهارات في طريق تحصيل العلم، ومن تلك المهارات المهمَّة جدًّا التمكُّن من تقرير الدروس، التي تتضمَّن فهم ما ألقاه المدرِّس وتدوين الملاحظات وإعادة صياغتها بحسب فهمه، وقد تتضمَّن الحاجة لإعادة سماع الدرس وتفريغ التسجيل وغير ذلك، ومن الواضح أنَّ كلَّ هذا يساعد على أنْ يقرَّ العلم في صدر المتعلم.
تميَّز الكثير من علمائنا بهذه الميزة، حيث عكفوا على تقرير دروس أساتذتهم، وقد طُبِعت العديد من الكتب على هذه الشاكلة، فيحقِّق الطالب بذلك الفائدة لنفسه أوَّلًا، ثم لغيره بنقل العلوم التي يبثُّها الأساتذة العلماء في دروسهم، بل إنَّ الكثير ممَّا يدور في الدرس قد لا تجده مقيَّدًا في كتب نفس العلماء، وهو راجعٌ لطبيعة الدروس والأخذ والردِّ فيها.
خلال مسيرتي الحوزوية كان الأساتذة الفضلاء ينصحون بتقرير الدروس بشكلٍ مستمر، لما له من دورٍ مهمٍّ في الفهم وصياغة عقلية وشخصية طالب العلم، وأخصُّ بالذكر سماحة الشيخ صالح آل جواد الجمري، وسماحة السيِّد محمَّد العلوي، وسماحة الشيخ محمَّد الفِردوسي (حفظهم الله)، ولكنَّني تأخرت في البداية عن الأخذ بهذه النصيحة، إلى أنْ بدأتُ في تقرير بعض الدروس المتفرِّقة التي حضرتها، ومع مرور الوقت وما وجدته من فوائد عظيمة في هذا العمل ارتقت الدوافع في نفسي لمستوياتٍ أعلى، وحاولت المواظبة على تقرير بعض الدروس بشكلٍ مستمر.
بعد ذلك طرحتْ الحوزة العلمية منهج دراسة بعض الكتب الحديثية، وكان من بينها درس كتاب (الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة) للشيخ الحرِّ العاملي (رضوان الله عليه)، ويترتَّب -على دراسة كتب الحديث- بعض الأمور المهمَّة لسنا بصددها، ويتوقَّف جزءٌ منها على الاهتمام بالدرس تقريرا، أو لا أقل تسجيلًا للملاحظات التي يطرحها الأستاذ، فبادرتُ بتسجيل الملاحظات أثناء الدرس من البدايات، إلى أنْ انتقلتُ لتقرير الدروس كاملة، وهكذا كانت البداية مع تقرير الدروس، والمقالات المختصرة التي نشرتها -ولا زلتُ أنشرها- من دروس كتاب الفصول.
قال ابن منظور في لسان العرب: "وتقريرُ الإنسانِ بالشيء: جَعله في قَرَارِه؛ وقَرَّرْتُ عنده الخبرَ حتَّى استقر".[1]
وهو المعنى المناسب لما نحن فيه، فإنَّ لهذه المادَّة معانَي أخرى كالبَردِ وما يبقى في القِدر بعد الأخذ منه وغيرها، وفي تقرير الدروس إنَّما نحن نُقِرُّ العلوم فنجعل لها قرارًا في أنفسنا، وكذا في الأوراق.
وقد ورد عن أهل بيت العصمة (صلوات الله عليهم) ما يُفيد في أهمية الكتابة والاحتفاظ بالكتب، وليس تقرير الدروس بغريبٍ عنها:
عن عليِّ بن محمَّد بن عبد الله، عن أحمد بن محمَّد، عن أيوب المَدني، عن ابن أبي عُمير، عن حسين الأحمسي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: القلبُ يتَّكِل على الكتابة.[2]
الحسين بن محمَّد، عن مُعلَّى بن محمَّد، عن الحسن بن علي الوشَّاء، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اكتُبُوا فإنَّكم لا تحفظون حتَّى تكتبوا.[3]
محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى، عن الحسن بن عليِّ بن فضَّال، عن ابن بُكير، عن عُبيد بن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): احتفِظُوا بكُتُبِكم فإنَّكم سوف تحتاجون إليها.[4]
عدَّةٌ من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن خالد البرقي، عن بعض أصحابه، عن أبي سعيد الخيبري، عن المُفضَّل بن عمر، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): اكتب وبُثَّ علمك في إخوانك، فإنْ مِتَّ فأورث كُتُبَك بنيك، فإنَّه يأتي على الناس زمان هرجٍ لا يأنسون فيه إلا بِكُتُبِهم.[5]
ونُقِل أيضا: (ما كُتِب قر، وما حُفِظ فر).
مع الاستمرار في تقرير الدروس واطِّلاع أستاذنا سماحة السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي عليها، أشار لإمكان نشرها عبر مواقع التواصل التكنولوجي، فاستحسنتُ الفكرة، وبدأتُ بنشرها، وسيستمر نشرها بمشيئة الله تعالى.
الفوائد المتوخاة من نشرِ هذه المقالات:
الفائدة الأولى: المساهمة في خلق الأجواء العلمية بين طلبة العلم، فالتقريرات والبحوث والمقالات والمناقشات العلمية من الأدوات المهمَّة التي تساعد على ذلك، فلا معنى لإخفائها والاستئثار بها ما دام احتمال الاستفادة من نشرها -بالجمع مع غيرها- كبيرا.
الفائدة الثانية: إظهار وبيان مستوى العمل الذي تقدِّمه الحوزات العلمية في البلد، فهي حوزاتٌ علميةٌ لا تقل عن غيرها، وما هذا إلا قليلٌ ممَّا تقدِّمه، وفي الواقع ما لم تظهرْ مثل هذه الانتاجات العلمية لعامَّة الناس تبدأ التساؤلات بشكلٍ طبيعيٍّ حول دور الحوزات والعلماء.
الفائدة الثالثة: خلق فرصٍ مناسبةٍ لطلبة العلم للتعرُّف على مستويات أقرانهم، وتبادل العلوم معهم، والارتقاء بالمستوى العلمي لجميع الطلبة. وقد يُقال: ليس هذا إلا تقريرًا لدرسٍ واحد، فنقول: لا بأس بالبدء بدرسٍ واحدٍ على أمل أنْ يحرِّك طلبة العلم أقلامهم، فنحظى جميعًا بكنوزٍ علميةٍ راقيةٍ من نتاج حوزاتنا المباركة.
ومن الفوائد -الشخصية- أيضًا: الانشغال بالعلم عن المهاترات والمجادلات والمواضيع الأقل أهمية، فكلَّما انشغل طالب العلم بما هو بصدده من طلب العلم ونشره ابتعد أكثر عن الفتن بأنواعها، وهي فائدةٌ عظيمةٌ في حدِّ ذاتها.
وهنا دعوةٌ لجميع أقراننا من طلبة العلم الأعزَّاء للسعي في بثِّ نتاجهم العلمي، ولا داعي للتردُّد والخوف مع وجود أساتذتنا الأجلاء واهتمامهم الدائم، فالكثير من طلبة العلم بالبلد في شوقٍ لقراءة ما تنتجون، سواء كانت مقالاتٍ أو تقريراتٍ أو مناقشاتٍ أو رسائلَ أو بحوثًا علميةً أو غير ذلك.
ملاحظة: تنشر التقريرات على مدونتي الشخصية:
https://mahmoodsahlan.blogspot.com/
كتبه: محمود أحمد سهلان العكراوي.
ظهيرة يوم الثلاثاء 5 جمادى الآخرة 1442هـ
الموافق 19 يناير 2020م
حوزة خاتم الأنبياء العلمية - البحرين
...................................................
[1] ابن منظور - لسان العرب - المادة: قرر.
[2] الأصول من الكافي - ج1 - كتاب فضل العلم - باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب - ح8.
[3] الأصول من الكافي - ج1 - كتاب فضل العلم - باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب - ح9.
[4] الأصول من الكافي - ج1 - كتاب فضل العلم - باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب - ح10.
[5] الأصول من الكافي - ج1 - كتاب فضل العلم - باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسك بالكتب - ح11.