تقريرات: درس (الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة) - الشيخ الحرُّ العاملي (قدِّس سرُّه)
الأستاذ: السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي.
المقرِّر: محمود أحمد سهلان العكراوي.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب2- أنَّ الله ما خلق خلقًا أحبَّ إليه من العقل وممَّن أكمل له العقل:
الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب الكليني (قدِّس سرُّه)، قال: حدَّثني عِدَّةٌ من أصحابنا منهم محمَّد بن يحيى العطَّار، عن أحمد بن محمَّد، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمَّد بن مسلم، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: لمَّا خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبلْ فأقبل، ثم قال له: أدبرْ فأدبر، ثم قال: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقًا هو أحبُّ إليَّ منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهى وإياك أُعاقب وإياك أُثيب.
يمكننا الخروج من هذه الرواية بستِّ قواعد، وهي:
الأولى: أحبُّ خلق الله إليه العقل. وقد دلَّ عليها الحصر بالاستثناء بعد النفي.
الثانية: كلُّ كامل عقلٍ محبوبٌ إلى الله تعالى. وقد دلَّ عليها الحصر بالاستثناء بعد النفي.
الثالثة والرابعة: المُخاطَب بالأوامر والنواهي هو العقل. وقد دلَّ عليهما الحصر بتقديم المعمول (إياك).
الخامسة والسادسة: المُعاقَب والمُثاب هو العقل. وقد دلَّ عليهما الحصر بتقديم المعمول (إياك).
قال (عليه السلام) -على لسان الله تعالى- في هذه الرواية: "إياكَ أُثيب وإياكَ أُعاقِب"، وفي روايةٍ أخرى: "بِك أُثيب وبِك أُعاقِب"، والأولى بمعنى الثانية لسببين، هما:
الأول: أنَّ الإنسان -كما قامت عليه الأدلَّة- يُثاب ويُعاقَب جسدًا وعقلًا وروحًا.
الثاني: أنَّ مناط التكليف هو العقل، فقوله (إياك) يُفيد أنَّ الأمر متوجِّهٌ إلى العقل والمنفِّذ هي الجوارح.
تنبيهان:
الأول: في التعامل مع الرواية ينبغي أنْ ننظر للمعنى أولًا، ثمَّ نبحث عن النُكات اللُّغوية والنُكات الأخرى التي قد نُفيدُ منها.
الثاني: كلَّما تعلَّمنا شيئًا فإننا ننفتح أكثر على الشيطان من جِهة الغرور، لذلك ينبغي أنْ ننتبه لهذه المسألة جيدًا كي لا نقع في هذا ونتعرَّض للسقوط.
الرواية الثانية: وعن محمَّد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نجران، عن العلاء بن رزين، نحوه، إلا أنه قال: ما خلقت خلقًا أحسن منك.
لا تختلف هذه الرواية عن الرواية الأولى، إلا أنه في هذه الرواية قال: (أحسن) وقال في الأولى: (أفضل).
الرواية الثالثة: وعن عِدَّةٍ من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن بعض أصحابه، رفعه، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): ما قَسَمَ الله للعباد شيئًا أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شُخوص الجاهل، ولا بعث الله نبيًا ولا رسولًا حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضل من عقول جميع أمَّته، إلى أن قال: ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، الحديث.
في دراية ورجال الحديث:
بدأ بقوله (عن) فيعني ذلك أنه لا زال ينقل عن الشيخ الكُليني (رحمه الله)، وإذا غيَّر المصدر الذي ينقل منه يبدأ باسم صاحب الكتاب المنقول عنه مباشرةً بدون (عن).
فائدةٌ من قوله (عن بعض أصحابه): يختلف الحال بين ما إذا قال (عن بعض أصحابه) وما إذا قال (عن رجل) ففي الأولى إشارةٌ إلى أنَّ أحمد بن محمَّد بن خالد البرقي كان له عنايةٌ في نقل هذه الرواية، فهذه النسبة؛ أيْ نسبة الأصحاب إليه، تُخرِجها من حدِّ الإرسال المُضعِّف للرواية، فإنْ لم تُعتبر في عداد الحِسان فهي ليست من المُرسَلات الضعيفة، بخلاف ما لو قال (عن رجل) أو (عمَّن روى عنه) وما شابه من تعبيرات، ففي الأولى ظهورٌ أنها عن بعض من يروي عنهم وقد يكون هناك طريقٌ للتعرُّف على من نقل عنه الرواية.
رَفَعَه: الرافع هو من نقل عنه أحمدُ بن محمَّد، ويُريد أنْ يدَّعي أنه حقَّقَ صدور الرواية فتجرَّأ بالرفع، فرَفعُ الحديث يجعل له شأنَ الصادر عن المعصوم (عليه السلام). حتى قوله (قال) فيها دعوى ويختلف عن قوله (عن) مثلا.
القاعدة المستفادة من هذه الرواية:
أفضلُ ما يُقسَم للعبد العقل.
وهذه القاعدة سلوكٌ كاملٌ في حياة طالب العلم بالدرجة الأولى، والمؤمن بالدرجة الثانية، فلا المال ولا الجسد ولا غيرهما أفضل من العقل، فإذا كان عقلك في طريق الكمال فقد نِلت الأفضل مطلقًا، فلا تنظر لما في أيدي الآخرين. ثم أنَّ الله يُحبُّ العقل لأنه هو الذي قسمه للعبد، وسيأتي في الأبواب التالية أنَّ صاحب العقل هو من يمتثل أوامر الله تعالى وينتهي عن نواهيه لا غير، فكلُّ ما سِوى ذلك شبيهٌ بالعقل -مهما بلغ صاحبه- وليس هو العقل.
وتُشير الرواية أيضًا إلى أنَّ مظاهر العقل في النوم والسهر وفي الإقامة والشخوص، وفي القياس على الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم) لا أيِّ أحدٍ بالغًا ما بلغ، لذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسوةً حسنةً.
الرواية الرابعة: وعن الحسين بن محمَّد، عن معلَّى بن محمَّد، عن الوشَّاء، عن حمَّاد بن عثمان، عن السَّريِّ بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): يا عليُّ لا فقرَ أشدُّ من الجهل ولا مالَ أعودُ من العقل.
قاعدتان مستفادتان من الرواية:
الأولى: أشدُّ الفقر الجهل. أفدناها من الحصر بالاستثناء بعد النفي.
الثانية: أعودُّ المال العقل. أفدناها من الحصر بالاستثناء بعد النفي.
وقد وَرَد كلٌّ من لفظ (الفقر) و (المال) على نحو المجاز في هذه الرواية.
استطراد:
وقع الكلام في وجود المجاز في اللغة من عدمه، فقال بعضٌ بعدم وجود المجاز، وقال آخرون بوجوده، ومنشأ هذا البحث هو مبحث الوَضْع. المشهور هو وجود المجاز في اللغة، بل أنه الأكثر في الاستعمال، أما الرأي الأول فيذهب إلى أن الألفاظ وُضِعت لمعانٍ أصليَّةٍ تنطبق على مصاديقها، كلفظ الأسد -مثلًا- فهو موضوعٌ للشجاعة والإقدام، ولكنه ظاهرٌ في هذا الحيوان المفترس الذي أطلقنا عليه اللفظ، وكذلك ينطبق هذا اللفظ على الرجل الشجاع المِقدام وهكذا، فيكون الاستعمال حقيقيًا لا مجازيا، بخلاف المشهور الذي يرى استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع مجازًا لا حقيقة.
تنبيه:
وضع الألفاظ للمعاني راجعٌ لمسألةٍ عامَّةٍ وهي الحاجة لوضع الدوالِّ للمعاني التي نُريد أنْ نعبِّر عنها ونُخطِرَها في ذهن المُخاطَب، ولقدرة الإنسان على النطق واستعمال هذه الألفاظ وتميُّزِه بذلك، جعلها موردًا من موارد وضع الدوال للمعاني التي يريد إيصالها، فالموضوعية بالدرجة الأولى إذًا هي ليست لنفس الألفاظ بل للدال، ثم تأتي موضوعية الألفاظ.
قوله (المال) منصرفٌ للمال الذي نستعمله في البيع والشراء، وبالتالي الفقير هو من يفقد هذا المال، وبالقول أن لفظ المال موضوعٌ لما هو مُعدٌّ للبيع والمعاطاة فالمراد هو الدراهم والدنانير، ويقابله الافتقار لهذه الدراهم والدنانير، فيقول المشهور أن الاستعمال هنا مجازي، أما الرأي الآخر فيراه استعمالًا حقيقيا.
لماذا عبَّر بـ (أعود)؟
نقول: لأنني عندما أصرف هذا المال فأنا أُريد أن يعودَ عليَّ هذا الفعل بالخير، ولكن عندما يكون عندي المال وبالقدر الذي لا أتمكَّن من الاستفادة منه فأعيش حالةً من الشدَّة، فالفقر أحيانًا يكون بعدم وجود المال، ومرَّةً أخرى بعدم كفاية ما في اليد لسدِّ الحاجة، والشدَّة مقولةٌ للكيف حيث أشعر بالضيق عندما أتعرَّض لمثل هذه الحالة، وهذه الشدَّة قد ترتفع بتحصيل المال، أو أن تخفَّ حتى بأمرٍ آخر، لكنَّ الجهل لا ينفع معه شيءٌ في رفع الشدَّة ما دمت جاهلا، فلا يرفع هذه الشدَّة إلا الخروج من الجهل، وإذا كنتُ عاقلًا فأنا في حالة الزيادة دائما، لأنني أسأل وأُفكِّر ولا أكتفي بالمشاهدة، وهذا يؤدي إلى رفع جوانب الجهل وسدِّها بالعلم.
الرواية الخامسة: أحمد بن محمَّد بن خالد البرقي في المحاسن، عن عليِّ بن الحكم، عن هشام، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: لمَّا خَلَقَ الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبلْ فأقبل، فقال له: أدبرْ فأدبر، فقال: وعزَّتي وجلالي ما خلقتُ خلقًا هو أحبُّ إليَّ منك، بك آخذُ وبك أُعطي وعليك أُثيب.
وهذه الرواية تُشبه الرواية الأولى عن أبي جعفرٍ الباقر (عليه السلام) في صدرها ولكنها تختلف عنها في ذيلها.
ونسأل هنا: لماذا قال: (وعزَّتي وجلالي) ولم يقل -على سبيل المثال- ورحمتي وقوتي؟
فنجيب: قال ذلك لأن العزَّة والجلال فيهما جانب تجرُّدٍ وابتعادٍ عن المتعلَّقات الأخرى، والقَسم موضوعه الحب، والحبُّ فيه هذا الجانب أيضا، فالمقدمة متناسبةٌ مع الموضوع. ولكن -للتنبيه- نقول لا ينبغي أن نستغرق في التعامل مع الآيات والروايات بهذه الطريقة لأجل إثباتها، لأننا لا نستطيع الإحاطة التامة، فقد يستعمل المولى لفظًا لا يظهر لنا مناسبته للموضوع، لكن إرادته -الخافية علينا- مناسبةٌ بطبيعة الحال.
ونُفيد من الرواية أن الله تعالى يأخذ من الإنسان ويُعطيه بحسب ما يناسبه مطلقا، فهو المحيط بجهات عقل الإنسان، فما أكون عليه الآن هو الأنسب لي مطلقًا من دون شكٍّ بحسب الحال الذي أنا عليه والمقدمات المهيئة لما يناسبني.
القواعد المستفادة من الرواية:
الأولى: أحبُّ خلق الله إليه هو العقل.
الثانية: الأخذ والإعطاء من الله تعالى بحسب ميزان العقل.
الثالثة: يُثيب الله تعالى على العقل.
الرواية السادسة: محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن بابويه في كتاب العِلل، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى، عن عليِّ بن الحكم، عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفرَ بن محمدٍ الصادق (عليه السلام)، فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ (عليه السلام): إنَّ الله ركَّب في الملائكة عقلًا بلا شهوةٍ وركَّب في البهائم شهوةً بلا عقلٍ وركَّب في بني آدم كلتيهما فمن غَلب عقلُه شهوَته فهو خيرٌ من الملائكة ومن غلب شهوته عقلَه فهو شرٌّ من البهائم.
في سند الرواية:
هذه الرواية سندها صحيح، وقد قال المحقِّق الشيخ محمد القائيني أنه لم يجدها في كتاب العلل، لكنها موجودةٌ بحسب بعض النسخ، فالأمر محلٌّ للتحقيق على هذا، وقد وردتْ في الخصال -أيضًا- في باب العَشَرة. ومحلُّ الشاهد فيها هو قوله (فمَنْ) وهو اسمٌ موصولٌ يُفيد العموم.
القاعدة المستفادة:
كلُّ مَن غَلب عقلُه شهوته فهو حصرًا دون غيره خيرٌ من الملائكة، وكلُّ من غلب شهوته عقلَه فهو حصرًا دون غيره شرٌّ من البهائم.
وقد فهمنا الحصر من الضمير المنفصل (هو)، وبالتالي نفهم عدمَ تدخُّل الغير في خيارات الإنسان، فمن غلب عقلُه شهوته يكون خيرًا من الملائكة ولا يتعدَّى الحكم إلى غيره حتى لو كان هذا الغير والده أو أستاذه، وعلى الطرف الآخر من غلب شهوته عقلَه فلا لومَ على صاحبه وخليله على أن المرء على دين خليله، فقد نتمكَّن من استفادة عدم دخالة الغير في خيارات الفرد بشكلٍ مباشرٍ فهو مُحاسَبٌ على قَدر عقله المقسوم له. وعلى أيِّ حالٍ يتحمَّل الإنسان ما يكون عليه ولا يرمي بسوئه على غيره.
فائدة:
كان سؤال ابن سنانٍ عن الأفضلية بين الملائكة وبني آدم، وكان من الممكن أن يُجيب الإمام (عليه السلام) بأن الملائكة أفضلُ إلا أن يغلبَ الإنسان شهوته بعقله، لكنه (عليه السلام) لم يكتفِ بذلك، فأضاف بيانًا يُفيد منه السائل، فالظاهر أن مجرَّد معرفة أفضليَّة الملائكة على الإنسان -مثلًا- لن يضيف للسائل شيئا، لكنَّ البيان الإضافيَّ والمقدمات التي ذكرها الإمام أعطت السائل فوائد أخرى يُفيد منها في حياته. وهنا نؤكِّد أن المسؤول ينبغي له أن يُلاحظ حال السائل وشأنه عندما يجيب على السؤال، وهذا ملاحظٌ عند تتبُّع طريقة الأئمَّة (عليهم السلام) في الإجابة على الأسئلة الموجَّهة إليهم.
الرواية السابعة: وعن محمَّد بن موسى بن المتوكِّل، عن علي بن الحسين السَّعدَ آبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عمَّن ذكرَهَ عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: ما خلق الله شيئًا أبغضَ إليه من الأحمق لأنه سلبَهَ أحبَّ الأشياء إليه وهو عقلُه.
القواعد المستفادة من الرواية:
الأولى: أبغضُ خلق الله إليه هو الأحمق. وأفدناه من الحصر بالاستثناء بعد النفي.
الثانية: بِسلب الشيء يُوجَد مقابِلُه.
الثالثة: الله تعالى هو الذي يسلب الإنسان عقلَه كما كان هو المعطي.
أمَّا الأحمق فهو من يضع الشيء في غير محلَّه، سواء كان لعدم الحكمة أو للغضب أو الجهل أو غير ذلك، فإنَّ الحُمق فردٌ واحدٌ يقابل عدَّةَ أفراد، ولا يقابل الحكمة حصرا. وقد ورد فيه أن موته خيرٌ من حياته، وهو أمرٌ يندُر وروده في أحدٍ عنهُم (صلوات الله وسلامه عليهم).
تنبيهٌ بلحاظ القاعدة الثانية:
إن الشيطان لا يحارب الإنسان دائمًا بشكلٍ مباشرٍ في عباداته وطاعاته، فقد يحاربه ويحارب إيجابيَّاته من خلال تقوية سلبياته، ولذلك فإن من الأساليب لمواجهة السلبيات عندنا تقوية الإيجابيات فتنحسِرُ السلبيات شيئًا فشيئا.
توجيهٌ وإرشاد:
اقرأوا أدعية وأعمال أيام الأسبوع وباقي الأدعية الواردة عنهم (عليهم السلام) في كتاب مصباح المتهجِّد وأمثاله من الكتب التي لم تُبنَ على قاعدة التسامح في أدلَّة السنن، وستجدون اختلافًا بين النوعين من الكتب بالنظر لما هو واردٌ فيها، وستجدون أن الأوَّل له سمةٌ واحدةٌ وهي إرجاع كلِّ شيءٍ لله، فتجد أن نفسك لا تساوي شيئا بملاحظة هذه المضامين العالية.