وداعّا سيِّدنا أبا نزار!
(مأتمٌ وبكاءٌ في رحيل البكَّاءِ)
إذا ما أردتُ أنْ أستحضر خواطري عنه، فإنَّ اسمه وإطراءَه قد طرق سمعي، ونُقش في ذاكرتي منذ نعومة أظفاري.
سمعت اسمه ومديحه على لسان المرحوم والدي، فقد كان أحد معجبيه، ومرتادي مجالسه العامرة.
ثمَّ أخذت أسمع عنه هنا وهناك ...، وبدأت تتبلور في الذَّاكرة عنه رؤية تبتني شيئًا فشيئًا، وتتَّضح معالمها بشكل هادئ ورتيب.
ولجتُ ميدان الخطابة الحسينيَّة بتوفيق من الله (عزَّ وجلَّ)، ونظرة حانية شفيقة من آل محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، وانفتحت على ساحة المآتم والحسينيَّات، ولِي في ذلك ذكريات، وحكايات، وخواطر.
من الحسينيَّات والمآتم التي انفتحت عليها مبكِّرا ودُعيت لممارسة الخطابة فيها - وما زلتُ -، وتربطني بها علاقة وثيقة مأتم الحاج خلف بالمنامة، والقائم عليه هو الأخ العزيز والصَّديق والأستاذ المهذَّب والمثقف أبو عبد المحسن؛ الحاج نجيب المخرِّق، تبعًا لوالده الوجيه المرحوم الحاج عبد المحسن المخرِّق (ره).
في هذه الحسينيَّة بدأت أسمع أكثر وأكثر عن شخصيَّة السَّيِّد (البَكَّا) كما يُعبَّر عنه باللَّهجة الدَّارجة، ويُقصد به سماحة العلَّامة الخطيب الأستاذ السَّيِّد عدنان البكَّاء، وقد كانت هذه الحسينيَّة عرينه، ومسرح أدائه المُعْجب، وكان منبرها صهوة خطابته لمواسم عاشورائيَّة تصل لقرابة الأربعة عشر من الأعوام، ومارس كذلك دوره الخطابيَّ من على منبر مأتم السَّنابس، ومنبر مأتم أهالي مدينة عيسى أيضًا.
وكما يخبر الأستاذ نجيب، فقد كان السَّيِّد المُتْرَجم له ضيفَ بيتهم العريق بالعاصمة المنامة طوال هذه المواسم، وكانت تربط المرحوم والده به علاقة وثيقة، فقد كان يراه الخطيب المميَّز أداءً، وبحثًا، وأسلوبًا.
ولقد كان والده يولي السَّيِّد اهتمامًا بالغًا، ويوفِّر له ما يحتاجه من كتب ومصادر ونحو ذلك، - ولقد رأيتُ بعض تلك الكتب والمصادر شخصيًّا في المكتبة المميَّزة للأستاذ في بيته العامر، حيث كانت إعدادات وتحضيرات الخطيب (البكَّا)، ومطالعته قبيل أداء وظيفته المنبريَّة، وبعدها -.
كما كان يقيم والده على شرف البكَّاء مأدبة غذاء عامرة أيَّام الثَّالث، والخامس، والسَّابع من شهر محرَّم الحرام في كلِّ عام في منزله، يلتقي فيها بالعلماء، والفضلاء، والشَّخصيَّات، والوجهاء.
ومرَّت بي الأيَّام، وقرأت ما كُتب عنه، وانفتحت أكثر على خطابة العلَّامة البكَّاء وقلمه، فرأيتُ خطابة فريدة، وقلمًا تفصح آثاره عن قدرته، وجلده، وحصيف ما يحمل من عقليَّة متوقِّدة متسلِّحة بالبرهان، تحمل في جعبتها الأرقام العلميَّة لكلِّ ما تُجلِّي وتُبيِّن، وتميَّز نتاجه المعرفيُّ إلقاءً وتحريرًا جرأة موزونة، وتمرَّد على الواقع مع قراءة اجتماعيَّة ذكيَّة، مهذَّبة، وفاحصة.
العلَّامة السَّيِّد عدنان البكَّاء خطيب سبق زمانه - ومعه في ذلك من نظرائه النَّوادر-، تميَّز بجوده الطَّرح المعرفيِّ الموسوعيِّ المتقدَّم وقوَّته، ومتانة المادَّة العلميَّة الَّتي قدَّمها، وهيمنته المُحكمة فيما يُلقيه من أبحاث معمَّقة، كان يندر تقديمها في مثل تلك الفترة، لا سيَّما في مثل مجتمعنا آنذاك.
واستطاع بكلِّ مهنيَّة واقتدار أنْ يفحم الأفكار المستوردة، وموجات التَّيَّارات القائمة في تلك الحقبة بما منحه الله تعالى إيَّاه من أسلوب هادئ ورصين، وأنْ ينتصر لمبادئ الإسلام ورؤاه، وفكر وتراث النَّبيِّ وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
فحشَّدَ حول منابر خطابته حضورًا جماهيريًّا لافتًا متنوِّعا من داخل العاصمة وخارجها، ضمَّ مختلف الشَّرائح الاجتماعيَّة، واستوعب حضورًا لشخصيَّات رسميَّة وعامة ومثقَّفين من أبناء المذاهب الشَّقيقة، وكان الحضور الشَّبابيُّ هو الأبرز، يُصْغون له بشغف، ويستمعون له بانبهار، ويتطلَّعون لعذوبة منطقه، وجودة انتقائه لمفرداته ومترادف تعبيراته، ومتانة عرضه.
وبعد، فهو شخصيَّة موسوعيَّةٌ لامعةٌ في مختلف الأوساط الجامعيَّة والدِّينيَّة والخطابيَّة والرَّسميَّة، علم من أعلام العراق، ورقم من أرقام نجف عليٍّ (عليه السَّلام)، وشمعةٌ وهَّاجةٌ من شموع الحنَّانة، وأستاذ قدير من أساتذة الحرم الجامعيِّ والدِّراسات العليا، وأكاديميٌّ صقلته كليَّة الفقه، ووضعته على سلَّم الدِّراسات العليا في جامعة بغداد، ليقدِّم: "الحكم والحقَّ بين الفقهاء والأصوليِّين" أطروحته، فينال درجة الماجستير بتقدير جيِّد جدًا.
سيِّدٌ هاشميٌّ، نشأ في أسرة علميَّة دينيَّة، من آل المشعشعي الموسوي، أمير الحويزة التَّاريخيَّة المعروفة، ولقب (البكَّاء) - كما يُروى - قد جاءه عن طريق أحد أجداده، فقد كان عابدًا بكَّاء من خشية الله تعالى.
عاش كلَّ هذه المواهب والطَّاقات، وأعطى كلَّ هذا النَّتاج، وخدم ساحة المنبر الحسينيِّ الشَّريف متحلِّيًا بأدب أهل العلم والدِّين، بلا ادِّعاء ولا غرور، ولم تصدر منه نبرة استعلاء أو تبجُّح، كما نراها من بعض أنصاف أهل العلم، وبعض مدَّعي الثَّقافة والفكر، ومدَّعي خدمة الحسين (عليه السَّلام) الذين تشدَّقت أفواههم وأقلامهم بـ(الأنا) حتَّى كادت أنْ تنفجر لذلك!
تلك هي بعض سطور متواضعة حول شخصيَّة أبي النِّزار، العلَّامة الكبير، والخطيب اللَّوذعي، والأستاذ العبقري، والكاتب المتقِن؛ سماحة السَّيِّد عدنان بن السَّيِّد علي البكَّاء.
ودَّعتنا روحه الكريمة بالأمس الخميس 11 فبراير 2021 م، وغادرت الدُّنيا، صاعدة لروح الله وريحانه، وجنانه ورضوانه، متلفِّعَةً شفاعة أبي الأحرار الحسين بن علي (عليهما السَّلام)، وحظي جسده بجوار جدِّه عليٍّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السَّلام).
عمَّار تيسير الشِّهاب
12 فبراير 2021 م