تقريرات: درس (الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة) - الشيخ الحرُّ العاملي (قدِّس سرُّه) {2}
الأستاذ: السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي.
المقرِّر: محمود أحمد سهلان العكراوي.
الرواية الثامنة: وعن أحمد بن محمَّد بن عبد الرحمن المَرْوَزي، عن محمَّد بن جعفرٍ المُقْري الجُرجاني، عن محمَّد بن الحسن الموصلي، عن محمَّد بن عاصم الطريفي، عن عيَّاش بن يزيد بن الحسن بن عليٍّ الكحَّال، مولى زيد بن علي، عن أبيه، عن موسى بن جعفر، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم): إنَّ الله خلق العقل من نورٍ مخزونٍ مكنونٍ إلى أن قال: فقال الربُّ تبارك وتعالى: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقًا أحسن منك ولا أطوع لي منك ولا أرفع منك ولا أشرف منك ولا أعزَّ منك، بك أُوحَّد وبك أُعبد وبك أُدعى وبك أُرتجى وبك أُبتغى وبك أُخاف وبك أُحذر وبك الثواب وبك العقاب، الحديث.
القواعد الكلِّية المستفادة من الرواية:
الأولى: أحسنُ الخلق مطلقًا هو العقل.
الثانية: أطوع الخلق مطلقًا هو العقل.
الثالثة: أرفع الخلق مطلقًا هو العقل.
الرابعة: أشرف الخلق مطلقًا هو العقل.
الخامسة: أعزُّ الخلق مطلقًا هو العقل.
وقد أفدنا هذه القواعد بالنظر للحصر بتقديم المعمول والاستثناء بعد النفي.
اختصر الشيخ الحرُّ العامليُّ (قدِّس سرُّه) الرواية لأنَّ العبارات التي لم يذكرها لا ترتبط بموضوع الكتاب، وعنوان الباب، فاكتفى بنقل ما يناسب موضوعه فقط، وقد أورد الشيخ الصدوق (قدِّس سرُّه) هذه الرواية في كتاب معاني الأخبار كاملة، وسيكون كلامنا فيها، وهي:
حدَّثنا أحمد بن محمَّد بن عبد الرحمن المَرْوَزي المُقري، قال: حدَّثنا أبو عمرو محمَّد بن جعفرٍ المُقْري الجُرجاني، قال: حدَّثنا أبو بكر محمَّد بن الحسن الموصلي ببغداد، قال: حدَّثنا محمَّد بن عاصم الطريفي، قال: حدَّثنا أبو زيد عيَّاش بن يزيد بن الحسن بن عليٍّ الكحَّال، عن أبيه، قال: حدَّثني موسى بن جعفر، عن أبيه الصادق، عن أبيه، عن جده، عن أبيه، عن عليِّ ابن أبي طالب (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم): إنَّ الله تبارك وتعالى خلق العقل من نورٍ مخزونٍ مكنونٍ في سابق علمه الذي لم يطَّلع عليه نبيٌ مرسلٌ ولا مَلكٌ مقرَّب، فجعل العلمَ نفسَه، والفهمَ روحَه، والزُّهد رأسَه، والحياءَ عينيه، والحكمةَ لسانَه، والرأفةَ فمَه، والرحمةَ قلبَه، ثمَّ حشاه وقوَّاه بعشرة أشياء: باليقين، والإيمان، والصدق والسكينة، والإخلاص، والرفق، والعطية، والقنوع، والتسليم، والشكر، ثمَّ قال له: أدبرْ فأدبر، ثمَّ قال له: أقبلْ فأقبل، ثمَّ قال له: تكلَّم، فقال: الحمدُ لله الذي ليس له ندٌّ ولا شبهٌ ولا شبيهٌ ولا كفوٌ ولا عديلٌ ولا مثلٌ ولا مثال، الذي كلُّ شيءٍ لعظمته خاضعٌ ذليل،دأ فقال الربُّ تبارك وتعالى: وعزَّتي وجلالي ما خلقتُ خلقًا أحسنَ منك، ولا أطوعَ لي منك، ولا أرفعَ منك، ولا أشرفَ منك، ولا أعزَّ منك، بك أُوحَّد وبك أُعبد وبك أُدعى وبك أُرتجى وبك أُبتغى وبك أُخاف وبك أُحذر وبك الثواب وبك العقاب. فخرَّ العقل عند ذلك ساجدا، وكان في سجوده ألفَ عام، فقال الربُّ تبارك وتعالى بعد ذلك: ارفعْ رأسك وسَلْ تُعطَ واشفعْ تشفع، فرفع العقل رأسه، فقال: إلهي أسألك أنْ تشفِّعني فيمن خلقتني فيه، فقال الله عزَّ وجلَّ جلاله لملائكته: أُشهِدُكم أنَّي قد شفَّعته فيمن خلقته فيه.
وقد ورد في بعض النُسخ (والرأفة همَّه) عِوضًا عن (والرأفة فمه)، وما نقلناه هنا أنسب بالسياق حيث إن الكلام عن الجوارح كالعينين واللسان وغيرهما.
أودعَ الله تبارك وتعالى في كلِّ فردٍ عقلًا بحسب ما قسمه له، ولكن دعونا ننظر أين كان هذا العقل؟ وما هي الظروف التكوينيَّة التي مرَّ بها؟
هذا العقل الذي نحمله، والذي هو من نورٍ مخزونٍ مكنون، حتى أفضل الخلق وهم الأنبياء والرسل والأئمَّة من أهل البيت صلوات الله عليهم لم يطَّلعوا عليه، هذه هي درجة تميُّزه، والكلام هنا عن مرحلةٍ أعلى من هذا الخلق الدنيوي، لأنه كان في سابق علمه؛ أي أنه كان قبل الخلق.
هذا الخلق العظيم -بحسب الظاهر- احتاج إلى ما يجعله صالحًا لهذه الدنيا، فهو أعلى وأرفع من هذه الدنيا، أي أن الدنيا لا تتحمَّل طاقة العقل ولا وجوده مجردا، وهذا نُفيده من قوله (جعل) بعد أن مرَّ أنه في سابق علمه، وسابق علمه لا توجد مرحلةٌ أعلى منها، وما احتاج إليه هو ما ذكرته الرواية (فجعل العلم نفسه ... قلبه)، فالعلم بلا فهمٍ لا يكمل، وما يتلو ذلك كلُّه من شأنيات العقل في هذه الدنيا، لأنه في ذلك العالَم لا يحتاج إلا لنفسه.
ثم حشاه وقوَّاه بعشرة أشياءٍ حتى نحافظ على العقل الذي جعل الله له نفسًا ولسانًا وعينين وغير ذلك مما ورد في الرواية، فنحتاج إلى ممارسة القناعة واليقين وباقي العشرة المذكورة، فكلَّما مارسناها حافظنا على قوَّة هذا العقل الذي أودعه الله تعالى فينا.
وعندما استجاب العقل لله، وعندما تكلَّم بالحمد والثناء فذلك راجعٌ إلى أنه صار عالمًا فاهمًا حكيمًا إلى غير ذلك، فصار لا يرى إلا الحق، ويُنكر ذاته، حيث ظهرت حقيقة العلم فيه، وتكلَّم بكلمة الحق، وهذه الكلمة لا ينطق بها على هذا النحو إلا من علِم وفهِم وصار حكيما.
عندما يكون المخلوق عالمًا وفاهمًا فهو لا يرى غير الله، والذي يريده الله تعالى من الخلق أنْ يوحِّدوه ويعبدوه، فهي غاية الغايات، فإذا وصل خلقٌ إلى هذه المرتبة فلا أفضلَ منه ولا أحسنَ منه ولا أعزَّ منه ولا أقربَ منه.
تنبيه:
لا بدَّ أن نلاحظ مقامات الكلام دائما، وفي هذه الرواية نحتاج لملاحظة هذه الجهة جيدا، لأن اختلاف المقام يؤدي لفهمٍ آخر، وكثيرًا ما تقع الخلافات بين الناس لعدم التفريق بين مقامات الكلام، ومن العلوم التي يظهر فيها هذا الخلل علم الكلام.
عندما نتحدَّث عن الخلق يختلف عمَّا إذا تحدثنا عن الأمر، فالأمر هو الذي يكون منه الخلق ويكون منه الرزق وغير ذلك من الأمور الجديدة.
عندما ننتقل للحديث عن العقل وخلقه، نجد الرواية في الكافي تقول: (لمَّا خلق الله العقل)، وهذه الرواية متأخرةٌ عن رواية معاني الأخبار التي هي محلُّ كلامنا لأنها تتحدث عن الخلق، أما هذه الرواية فهي متقدمةٌ لأنها تتحدث عن سابق علم الله، وهنا تظهر أهمية تحديد مقام البحث.
تنبيه:
في العقيدة ودروسها، سواء كانت مبنيَّةً على النصوص الشريفة أو على القواعد الفلسفية أو القواعد الكلامية، الأمر سيَّان في جانب رجوع مسألة التوحيد وأصول العقيدة إلى مبدأ استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين في كلِّ المناهج.
بسبب هذا العقل لو أن النفس وصلت لأعلى مراتب إنكار الحقِّ عن علمٍ وتحصيل، لا يمكن أن تستقيمَ والحالة العامة لهذه النفس إذا كان العقل ملتفتًا إلى المبدأ الأول، فالحامي لهذا الإنسان هو العقل الأول.
فعندما يقول الإمام (عليه السلام) عن الله جلَّ جلاله: "بِكَ أُوَّحد ..."، فكيف يكون ذلك التوحيد؟ الله سبحانه جعل هذا الارتفاع والشرف للعقل ثم قال: "بِكَ أُوَّحد"، فما هو مبدأ التوحيد؟ كلُّ إشكالٍ يأتي على مبدأ التوحيد يُرَدُّ بقاعدة استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين، وهذا يُدركه العقل لا النفس أو العاطفة أو غيرهما، لكن ينبغي الالتفات أن هذا وحده غير كافٍ للإيمان، فالحاجة للجانب الروحي والجانب النفسي في مقام الإيمان لا ينبغي الغفلة عنه، وهذا ممَّا يدعو له العقل كذلك.
عندما بيَّن الله تعالى كرامته وعزَّته وشرفه وقداسته للعقل، خرَّ العقل ساجدًا مباشرة، فلم يتأخَّر للحظة، والآن انظروا في روايات طلب العلم، وعندما أكون ممَّن تحدث عنهم المعصوم (عليهم السلام) فكيف أستطيع أداء حقَّ شكر هذه النعمة أنْ وفقني لهذا الطريق، وكم أحتاج لحمد الله وشكره مقابلها. عندما سجد العقل وبقي في سجوده فإنه وجد أن هذا أعلى مقامٍ ممكنٍ لا يعلوه مقام، فأنكر ذاته وكلَّ شيءٍ آخر، وزهد حتى في الذكر الحسن.
الرواية التاسعة: وعن محمَّد بن الحسن بن الوليد، عن محمَّد بن الحسن الصفَّار، عن إبراهيم بن هاشم، عن أبي إسحاق إبراهيم بن الهيثم الخفَّاف، عن رجلٍ من أصحابنا، عن عبد الملك بن هشام، عن عليٍّ الأشعري، رَفَعَه، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): ما عُبِد الله بمثل العقل، الحديث.
في سند الرواية: وفيه عدَّة أمور:
الأول: الحديث مرفوعٌ إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وقد قلنا أن الرفع قد يكون أمارةً على ادِّعاء الصحَّة إذا كان الرافع من الثقات، فإذا رَفَع الثقة الحديث فهو يُريد أن يقول أنه يقطع بأن هذا الحديث صادرٌ عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ولذلك يرفع الراوي من شأنِ ومحلِّ الحديث، فالرافع إذا كان معروفًا بالكذب لا غير المُوثَّق مطلقًا -حيث يختلف الكذَّاب عن الضعيف أو مَن لم يرد فيه توثيق، فالكذَّاب مُتَّهمٌ في رفعه-، فيَرِد عليه أن رفعه أراد به الدفاع عن كذبه أو الظهور بصورةٍ أخرى، أمَّا إذا كان من الثقات فالأمر يختلف، وبالتالي فالرفع بما هو رفعٌ لا يمكن أن يكون أمارةً لا على ضعفٍ ولا على صحَّة، فينبغي البحث في الرافع.
الثاني: محمَّد بن الحسن بن الوليد: وَثَّقه كلٌّ من الشيخ النجاشي في رجاله، والشيخ الطوسي في رجاله وفي الفهرست، وابن الغضائري، والسيِّد الخوئي في معجم رجال الحديث، وقد ذكره تحت عنوانين، هما: محمَّد بن الحسن بن الوليد، ومحمَّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد. توفي في العام 343هـ.
ويمكن ملاحظة بعض الأمور في ما ذُكر في ترجمته: قال الشيخ الطوسي في الفهرست مع توثيقه: "جليل القدر، عارفٌ بالرجال"، وقال في كتاب الرجال: "بصيرٌ بالفقه"، وذكر أنَّه يروي عن الصفَّار وسعد، ويروي عنه التلعكبري.
وقال السيِّد الخوئي: "وهو شيخ الشيخ الصدوق، يروي عنه كثيرًا في كتبه، وقد ذكره في المشيخة، ما يَقرُب من مائةٍ وأربعين موردًا، وكان يعتمد عليه ويتبعه فيما يذهب إليه.
فقد ذكر في الفقيه: الجزء2، باب صوم التطوُّع وثوابه، ذيل حديث 241، وأمَّا خبر صلاة يوم غدير خم، والثواب المذكور فيه لمن صامه، فإن شيخنا محمَّد بن الحسن رضي الله عنه كان لا يصحِّحُه، ويقول إنه من طريق محمَّد بن موسى الهمداني، وكان غير ثقة، وكلُّ ما لم يصحِّحْه ذلك الشيخ قدَّس الله روحه، ولم يحكم بصحَّته من الأخبار، فهو عندنا متروكٌ غير صحيح". ]المعجم، ج16، ص220-221[.
الثالث: محمَّد بن الحسن الصفَّار: لم نجد من طعنَ في وثاقته، ولكن الأمر المهمَّ المُتعلِّق به هو ما يتعلَّق بنسبة كتاب بصائر الدرجات له من عدمها.
الرابع: إبراهيم بن هاشم: معروفٌ بين أصحابنا كثيرُ الرواية، وروى عن كثير، حتَّى قارب عدد المشايخ الذين روى عنهم مائةً وستِّين شخصا، وطريق الفهرست إليه صحيحٌ كما ذكر في آخر الفهرست، وروى عنه الصدوق بطريقين صحيحين، وقيل أنه أوَّل من نشرَ حديث الكوفيِّين بقم، وقد يتوقَّف فيه بأنه لم يردْ فيه ذمٌّ ولا توثيق، وقد شكَّكوا في كونه لقي الرضا (عليه السلام) وأنَّه من تلاميذ يونس بن عبد الرحمن (رضي الله عنه)، وهو والد عليِّ بن إبراهيم القمِّي صاحب التفسير المعروف. مع ذلك قال السيِّد الخوئيُّ (قدِّس سرُّه) لا ينبغي الشكُّ في وثاقته، وادعى ابنُ طاووس الاتفاق على وثاقته، وأحصى السيِّد الخوئيُّ رواياته وقد بلغت ما يتجاوز ستَّة آلاف مورد.
وإنما ينطلق البحث في إبراهيم بن هاشم من السؤال: لماذا مع كثرة روايته لم يوثَّق نصًّا ولم يضعَّف؟
ملاحظةٌ: السيِّد الخوئيُّ ألزمَ نَفسَه بالتحذير من الشكِّ في روايات إبراهيم بن هاشم، ويبرِّره بدعوى ابن طاووس بالاتفاق على وثاقته، ولكنَّه عادةً لا يقبل الدعوى دون دليل، وكذلك اعتماده على كثرة رواية إبراهيم بن هاشم في التوثيق غير معتادٍ منه، فإن اعتمده هنا فينبغي أن يكون مبنًى له ويجري ذلك في غير إبراهيم بن هاشم حينئذ.
علي أيِّ حالٍ ممَّا ينبغي العمل والسعي فيه رسالة في إبراهيم بن هاشم.
تنبيه:
يختلف التوثيق بينما إذا كان بالنصِّ على وثاقته وإذا كان بالقرائن، فمن نُصَّ على وثاقته يقدَّم عادةً على غيره عند استحكام التعارض.
لخامس: أبو إسحاق إبراهيم بن الهيثم الخفَّاف: وجدناه تحت عنوان أبي إسحاق الخفَّاف، وهو مجهولٌ كما في زبدة المقال، ولم نجد له ذكرًا عند النجاشي والشيخ وابن الغضائري، والقرينة على أن إبراهيم الخفَّاف هو أبو إسحاق الخفَّاف هي رواية إبراهيم بن هاشم عنه، وقد روى عن محمَّد بن أبي زيد.
السادس: عن رجلٍ من أصحابنا: من المُحتَمَل أن يكون محمَّد ابن أبي زيدٍ لرواية إبراهيم بن هاشم عنه، لكنَّه يبدو ربطًا بعيدا، والذي قد يُعين في معرفته النظر في ترجمة عبد الملك بن هشامٍ الحنَّاط، ونرجِّح أنه أشكيبُ بن عبْدَك الكيساني أو الكسائي، لأنه روى عن عبد الملك بن هشام بن سالم الحنَّاط، وعبد الملك أيضًا مجهول الحال، فلا اعتبار حينذاك بقول الخفَّاف (عن رجلٍ من أصحابنا) فهو غير معروفٍ فلا يمكن الاعتماد على قوله هذا، حيث يختلف الحال لو كان قائلها ثقةً من الرجال.
السابع: عبد الملك بن هشام: هو الحنَّاط بن هشام بن سالم، وهو مجهولٌ أيضا.
السابع: علي الأشعري: مجهولٌ أيضا.
ومع هذا نقول الرواية صحيحةٌ، لرواية محمَّد بن الحسن بن الوليد، وذلك لأمرين:
الأول: أن محمَّد بن الحسن بن الوليد من أشدِّ الرجاليين، وله مبانيه الخاصة في الرجال.
الثاني: أنه يرى أن أُولى درجات الغلوِّ القول بعدم جواز السهو على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله.
فائدة:
الشيخ الصدوق متأثِّرٌ كثيرًا بشيخه ابن الوليد، بل يقول ببعض مقالاته.
بعد هذا نقول أن هناك طريقان في التعامل مع الأسناد:
الأول: أن نعتمد ما ذكره الشيخ النجاشيُّ والشيخ الطوسيُّ في كُتبِهما ولا نتجاوز ذلك.
الثاني: أن نسعى في البحث عن أحوال الرجال فمن لمْ يُوثَّق في كُتبِهما نبحث عن القرائن كي نتعرَّف على أحواله.
والثاني هو الصحيح دون أيِّ شك، فهو أمرٌ طبيعيٌّ وهو الأقرب للطريق العلمي والمنهجيَّة العلميَّة، فمن الطبيعي أن تسقط بعض الترجمات ويغيب بعض الرجال عن الشيخين.
ختاما: في مقام الاستنباط الفقهيِّ هذه الرواية لا يُعتَمد عليها عند اعتماد المنهج السندي لما فيها من ضعفاء ومجاهيل كما مرَّ.
في متن الرواية:
وفيها حصرٌ عن طريق النفي ثمَّ إثبات فردٍ واحد. وهي متواترةٌ مضمونًا في أفضليَّة العقل، فهو الجانب المشترَك بينها وبين باقي الروايات، وهذا قد يكون منصوصًا وقد يكون في غير محلِّ اللفظ.
وقد نتمكَّن من الاستفادة من باقي ألفاظ الحديث كعنوان العبادة المطروح في هذا الحديث، لكن الاستفادة لا تكون كاستفادتنا أفضليَّة العقل منه، فلو اختصَّ هذا الحديث بلفظة العبادة فلا نتمكَّن حينها من ترتيب الأثر على لفظ (ما عُبِد) لأنه غيرُ متواتر، فتنتفي الخصوصيَّات اللفظيَّة في الحديث.
مثل هذه الرواية المتواترة مضمونًا إن لم نتمكَّن من القول بصدورها فلا أقلَّ نقول باعتبارها، فحتى بعض الأخباريين لا يقولون بصدور كلِّ ما في الكتب الأربعة، لكنهم يقولون باعتبارها في مقام الفقه، ويختلف الأمر بين ما إذا قلنا بصدور الروايات أو باعتبارها، فإذا قلنا باعتبارها فنُعذَر بالعمل بالروايات، ولكن إن قلنا بالصدور فلا نُعذَر في ترك أيِّ حرفٍ من الروايات دون العمل على الاستنباط الفقهي منه.
"ما عُبِد الله بمثل العقل"، وما عُبِد بمثل القلب، وربما أُريدَ بالعقل هنا الفطرة السليمة.
الرواية العاشرة: وفي الخصال، عن أبيه، عن سعد، عن أحمد بن هلال، عن أميَّة بن علي، عن عبد الله بن المغيرة، عن عمرو بن خالد، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم): ما عُبِد الله بشيءٍ أفضل من العقل...، الحديث.
قد يصحُّ القول بأن المماثَلَة الواردة في الرواية السابقة -بالجمع مع هذه الرواية- ليست هي مماثلة المادَّة، وإنما هي المماثلة في الفضل؛ أي ما عُبِد الله بمثل العقل في الفضل.
وقد يخطر بالذهن وجود ملازمةٍ بين كون عبادة الله بالعقل أفضل، وبين كون الثواب أكثر، ولكنَّ ذلك غير صحيح، فاحتمالات الأفضليَّة كثيرة، ومِن ذلك أنها يمكن أن تكون في عاصميَّة العبادة عن عقلٍ من الانحراف دون غيرها، فنحن نقطع بالأفضليَّة لكننا لا نتمكَّن من تحديد جانب الأفضلية من هذه الرواية وحدها.
وهذه الرواية موجودةٌ في الكافي الشريف -أيضا- وهي وصيَّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم، ومن الجيِّد مطالعة الرواية من الكافي ومن الخصال والمقارنة بينهما لاختلاف المُفردات في الحديثين.
مشكلتان في سند الرواية:
الأولى: أحمد بن هلال هو ممَّن عرض عليه الانحراف بعد استقامته حاله كحال البَطَائِني والشَلْمَغَاني، فقد يُحكم بالأخذ بروايته قبل انحرافه، والأمر يحتاج لمزيد نظر. وهنا يأتي سؤال: هل كلُّ من انحرف يؤخذ بروايته قبل الانحراف أم لا بدَّ من إجازةٍ من المعصوم (عليه السلام)؟ أم هناك طُرقٌ أخرى كإحراز العلماء استقامته قبل انحرافه؟
الثانية: أُميَّة بن عليٍّ متهمٌ بالغلو، وهي مشكلةٌ في التشخيص، وفي مثل هذه الحالة ننظر في أمرين:
الأول: مَنْ الذي اتَّهمه بالغلوِّ؟ فقول الشيخ النجاشي أو ابن الوليد بغلوِ رجلٍ -مثلًا- يختلف عمَّا لو قاله غيرهما، ومن بعد ذلك ننظر في رواياته.
الثاني: الرواية التي نحن بصددها وبسندها في الخصال لا علاقة لها بالغلوِّ والانحراف، كما أنَّها مرَّت في نهاية سندها على ثِقَتين جليلين من المُشتغِلين بالحديث، وهما الصدوقان الأول والثاني، فيَبعُد أن يكون فيها عِلَّةٌ فتمرُّ عليهما معا. والكلام في كون الثقات في نهاية السند، لا في بداية أو وسط السند، فاحتمال التحريف في الحالتين الأخيرتين أكثر.
وكيف كان، يتَّضح بملاحظة مضامين الرواية أنَّها بعيدةٌ عن الغلوِّ والانحراف، فلا يُشكِل وجود أحمد بن هلال أو أميَّة بن عليٍّ فيها، كما أنَّ الرواية موجودةٌ في الكافي بسندٍ آخر.
ملاحظة:
عندما نرجع إلى الخصال في هذه الرواية نجد فيها بيانًا لِمَا يتحقَّق به العقل، وهي عشرة أمور، وضبطها في الخصال (لم يُعبدِ الله) بخلاف ضبطها هنا في الفصول حيث قال (ما عُبِدَ الله).
سؤال: لماذا كان من العقل (الخير منه مأمول، والشرُّ منه مأمون)؟
الجواب: لا شرَّ إلا للدنيا، ولا خير إلا بحاكميَّة الآخرة أو لا أقلَّ حاكميَّة القِيَم، والعاقل متعلِّقٌ بالله تعالى وبالقيم، وأبعد ما يكون عن الدنيا، لذلك تجد أن الحال يصل أحيانًا إلى أنك تحذر في التعامل مع البعض كيْ لا يلدغَكَ بلسانه، فهو ممَّن لا يكون الشر منه مأمون.
تنبيه:
الذلُّ أحبُّ إليه من العز، ليست على إطلاقها، وهناك رواياتٌ تبيِّن المُراد منها، وأُوِّلَ ذلك بأن الذلَّةَ أمام الله تعالى. أمَّا أنَّه لا يرى أحدًا إلا خيرًا وأتقى منه فالمراد منها من المؤمنين لا أيَّ أحد.
الرواية الحادية عشر: محمَّد بن محمَّد بن النعمان في كتاب الاختصاص، قال: قال الصادق (عليه السلام): إنَّ الله لمَّا خلق العقل، قال له: أقبل فأقبل ثمَّ قال له: أدبرْ فأدبر فقال: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقًا أعزَّ عليَّ منك، أؤيِّد مَنْ أحببتُهُ بِك.
قوله (عليه السلام) عنه تعالى: "أُؤيِّد مَنْ أحببتُهُ بِك" لفظةٌ جديدة، يمكن جمعها مع باقي الروايات التي تضمَّنَت نفس المضمون كقوله: "وما أكملتكَ إلا فيمَنْ أُحِّب". والتأييد يعني وجود موضوعٍ للتأييد فهو لا يكون عن فراغ، وهو أمرٌ مهم، فلا يكون التأييد إلا بعد أن يتحرَّكَ العبد نحو أمرٍ ما، كما لو تردَّدَ بين عِدَّة أطرافٍ فيجيء التأييد من الله تعالى بالعقل حينها. وليس التأييد هو مجرَّد جعل العقل في الفرد، ولا إكمال العقل، بل هو تحريك العقل في مصلحة صاحبه، فقد لا يعمل بما يوافق كمال عقله بسببه هو.