سؤال عن: التوفيق بين الأمر بطلب الرزق وعقيدة أن الأرزاق مقسومة
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا شك عندي أن الأرزاق لا تُنال إلا بالطلب، فمن غير المتصور أن يحصل المرء على المال والوفرة في المعيشة وهو جالس في بيته، بلا شغل ولا حرفة ولا عمل، بل أكاد أجزم بأن الرزق (أحيانًا) يكون على قدر الجهد، فكلما بذل الإنسان جهدا أكبر في تحصيل الرزق كلما زاد رزقه إلا ما شاء الله، فأصحاب المجهود الأكبر والأذكى في تحصيل المعيشة هم أهل الثراء والسعة.
في قبال هذا (الواقع) المُشاهد، هناك روايات تُشعرنا أننا لا ينبغي أن نبالغ في الطلب، فأرزاقنا مقسومة وموزعة مما يشعر ضمنا أننا حتى لو جلسنا أحلاس بيوتنا فإن أرزاقنا سنتحصل عليها بطريقة أو أخرى، ونشاهد من الناس من المعروفين بالإيمان أنهم يستنكرون المجهودات الضخمة التي يبذلها البعض في تحصيل الرزق، وكأنهم يرفضون هذ الحالة، ويعتبرونها نوعا من الانكباب على الدنيا من غير مبرر ما دامت الأرزاق مقسومة.
والسؤال: كيف نوفق بين أهمية التعرّض والسعي في طلب الرزق، وبين عقيدة أن الأرزاق مقسومة كما في تعبير أمير المؤمنين (ع) : رزقك لن يسبقك إليه طالب ولن يغلبك عليه غالب ولن يُبطئ عنك ما قد (قُدّر لك)؟
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاتة
لا تعارض بينها؛ فروايات الحث على الطلب من باب التكليف في هذه الدنيا باتخاذ الأسباب. وروايات وآيات تقدير الأرزاق من باب التأكيد على عقيدة القدرة وأنه سبحانه رب العالمين وسيد الأسباب يمنع ما يشاء إذا أراد ويعطي من يشاء إذا أراد، والمؤثر الحقيقي المستقل هو سبحانه وليست تلك الأسباب إلا تابعة لإرادته مخلوقة له وتأثيرها في طول تأثيره ومشيئته.
وتفصيل الجواب:
روى الصدوق في الفقيه وغيره من وصية أمير المؤمنين عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية:
"قال (عليه السلام) في هذه الوصية: يا بنى الرزق رزقان: رزق تطلبه ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك فلا تحمل هم سنتك على هم يومك، وكفاك كل يوم ما هو فيه فإن تكن السنة من عمرك فإن الله عز وجل سيأتيك في كل غد بجديد ما قسم لك وإن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بغم وهم ما ليس لك، واعلم أنه لن يسبقك إلى رزقك طالب، ولن يغلبك عليه غالب، ولن يحتجب عنك ما قدر لك، فكم رأيت من طالب متعب نفسه مقتر عليه رزقه، ومقتصد في الطلب قد ساعدته المقادير وكل مقرون به الفناء، اليوم لك وأنت من بلوغ غد على غير يقين، ولرب مستقبل يوما ليس بمستدبر ومغبوط في أول ليلة قام في آخرها بواكيه، فلا يغرنك من الله طول حلول النعم وإبطاء موارد النقم، فإنه لو خشي الفوت عاجل بالعقوبة قبل الموت. الخبر.
والمراد من هذا الكلام الشريف التأكيد على أن تدبير الأمور كلها تحت مشيئة الله سبحانه لا نفي فائدة السعي والطلب في تحصيل الرزق، فما أسباب الرزق إلا وسائل للتحصيل موقوفة على إذنه عز شأنه، فلا يغتم المؤمن أن لو مضى على دين ربه أن يكون قد غلب على رزقه لأن غيره قد سبقه إليه؛ لأن الغم لا موضوع له بعد معرفة أمور:
- أن الضامن لأرزاق العباد هو الله سبحانه لأنه قادر على كل شيء.
- أن نقصان رزق الدنيا معوض بشرط الله على نفسه؛ لصفة كماله المطلق في العدل.
- أن لو كان كل مشتغل بالرزق غني لاطرد الحال لكنا نجد الأرزاق لا تلازم دائما شدة السعي، فعلمنا أن هناك ثادرا مقدرا لها يسمح ويمنع بحكمته وهو الرب المتعال.
- أن من علم أن رزقه مشروط بأسباب ومنها الطلب والعمل، وأن المسبب الأعظم هو سبب الأسباب كلها قد جعل تلك الأسباب ليست العلة التامة للرزق، اطمأن أن رزقه مضمون بالعدل، ورضت نفسه بالقسمة وإن أحبت نفسه العافية، ونفى عن نفسه القلق والخوف من تسلط الآخرين على رزقه مطلقا؛ لأنهم منعوا سببا ولم يقدروا على منع إرادة الله العزيز في التكوين والتدبير والتصرف ذو الأيادي المطلقة في خلقه وأرزاقهم كلها.
والحاصل:
أن روايات الحث على الطلب من باب التكليف في هذه الدنيا باتخاذ الأسباب.
وروايات وآيات تقدير الأرزاق من باب التأكيد على عقيدة القدرة وأنه سبحانه رب العالمين وسيد الأسباب يمنع ما يشاء إذا أراد ويعطي من يشاء إذا أراد، والمؤثر الحقيقي المستقل هو سبحانه وليست تلك الأسباب إلا تابعة لإرادته مخلوقة له وتأثيرها في طول تأثيره ومشيئته.
محمد العريبي