تقريرات: درس (الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة) - الشيخ الحرُّ العاملي (قدِّس سرُّه) {3}
الأستاذ: السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي.
المقرِّر: محمود أحمد سهلان العكراوي.
نعقدُ هنا مقارنةً بخصوص الرواية العاشرة بين النصِّ المذكور في الخصال والنصِّ المذكور في الكافي:
الرواية الأولى: رواية الخصال: حدَّثنا أبي (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن هلال، عن أميَّة بن علي، عن عبد الله بن المغيرة، عن سليمان بن خالد، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"لم يُعبد الله عزَّ وجلَّ بشيءٍ أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلًا حتى يجتمع فيه عشرُ خصال: الخير منه مأمول، والشرُّ منه مأمون، يستكثر قليل الخير من غيره، ويستقلُّ كثير الخير من نفسه، ولا يسأم من طلب العلم طول عمره، ولا يتبرَّم بطُلَّاب الحوائج قِبَله، الذلُّ أحبُّ إليه من العز، والفقر أحبُّ إليه من الغِنى، نصيبه من الدنيا القوت، والعاشرة ما العاشرة، لا يرى أحدًا إلا قال هو خيرٌ منِّي وأتقى، إنما الناس رجلان، فرجلٌ هو خيرٌ منه وأتقى، وآخر هو شرٌّ منه وأدنى، فإذا رأى مَن هو خيرٌ منه وأتقى تواضع له ليلحق به، وإذا لقي الذي هو شرٌّ منه وأدنى قال: عسى خيرُ هذا باطنٌ وشرُّه ظاهرٌ، وعسى أنْ يُختَم له بخيرٍ، فإذا فعل ذلك فقد علا مجده، وساد أهلَ زمانه".
الرواية الثانية: رواية الكافي: في وصيِّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم، قال:
"يا هشام، كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ما عُبِد الله بشيءٍ أفضل من العقل، وما تمَّ عقل امرئٍ حتى يكون فيه خصالٌ شتَّى: الكفر والشرُّ منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفَضْلُ ماله مبذولٌ، وفَضْلُ قوله مكفوفٌ، ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذلُّ أحبُّ إليه مع الله من العزِّ مع غيره، والتواضع أحبُّ إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقلُّ كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلُّهم خيرًا منه، وأنَّه شرُّهم في نفسه، وهو تمام الأمر. يا هشام إنَّ العاقل لا يكذب وإنْ كان فيه هواه".
النقاط المهمَّة المسجَّلة من المقارنة:
1/ رواية الخصال {الرواية الأولى} تتحدَّث عن العاقل (ذي العقل)، أمَّا رواية الكافي {الرواية الثانية} فتتحدَّث عن العقل وتمامه.
2/ الرواية الثانية فيها نوعٌ من التفصيل بخلاف الأولى، ومن ذلك تقييد الذلِّ بكونه مع الله والعزّ بكونه مع غير الله، ومنه -أيضًا- التفصيل الوارد على قوله (الخير منه مأمول)، وذلك بما ورد في الرواية الثانية (فضل ماله مبذول) و (فضل قوله مكفوف).
3/ الأولى عبَّرت في مسألة طلب العلم بـ (لا يسأم) وهو نفيٌ لأمرٍ سلبيٍّ، فإنه قد لا يسأم لكنه لا يجري خلف العلم، أما الثانية فعبَّرت بـ (لا يشبع) والنفي هنا لأمرٍ مطلوبٍ، وبالتالي فيها نحو زيادةٍ وجريٌ نحو طلب العلم.
4/ الأولى قالت (لا يتبرَّم من طلَّاب الحوائج) فكأنَّه في مقام مَن ينتظر طلب الحوائج منه، ومِن الجيِّد والممدوح أنه لا يتبرَّم من الطلَّاب قِبَله، لكن الثانية ارتقت درجةً أخرى فقالت (فضل ماله مبذول) فلا نجد الانتظار منه حتى يُطلَب منه، فكلَّما فَضل عنده مالٌ سارع في بذله.
5/ عندما ننظر في الروايتين وما جاء عن هشام في الرواية الثانية يتبيَّن لنا أنه لا دخالة للانحراف والغلو في الرواية الأولى.
6/ يختلف الحال بين الإجمال والتفصيل بالنظر إلى المُخاطَب وهذا ما ترك أثره بين إجمال الأولى وتفصيل الثانية.
فائدتان:
الأولى: ممَّا ينبغي أنْ يُلتفت إليه أنه إذا تعدَّدت الأسناد إلى رواياتٍ ذات مضامين متقاربة، فنحن نحتمل إن كان نفس الإمام هو الذي أُسندت عنه الرواية مع بعض المؤيِّدات أن تكون الرواية واحدة، إنَّما لتعدُّد الرواة تعدَّدت الألفاظ، والاحتمال الثاني أن الحديث قِيل في موطنين، ومع تغيُّر الألفاظ في الموقفين فإن الإمام قد يكون أراد بيان سِعة المعنى لا تغيير المعنى، فنتجنب التزام الألفاظ بما هي ألفاظٌ دالَّةٌ على معانٍ مُعجميَّة، فالمعاجم تتكفَّل بذكر ما وُضِع له اللفظ، وهذا غير كافٍ كما هو واضح.
الثانية: لا ينبغي التفصيل في الكلام مع المجموع (الجمهور) لما له من أضرارٍ عليهم، كالتشبُّث ببعض الجُزئِّيَّات وعدم تحصيل الصورة الكلِّيَّة. والظاهر أن الروايتين هنا اختلفتا لاختلاف حال المُخاطَب، فرواية الإمام الكاظم (عليه السلام) كانت لهشام وهو من أجلَّة الأصحاب، بخلاف رواية الإمام الباقر (عليه السلام).
{12} الرواية الثانية عشر: الحسن بن عليِّ بن شُعبة في تُحَف العقول، عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في حديثٍ، قال:
"إنَّ الله خَلق العقل، ثم قال له: أقبل فأقبل وقال له: أدبر فأدبر، فقال الله تبارك وتعالى: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقًا أعظم منك، ولا أطوع لي منك، لك الثواب وعليك العقاب".
لفظٌ جديدٌ ورد في هذه الرواية، وهو (أعظم) في قوله: (ما خلقت خلقًا أعظم منك). وإلا فمفاد الرواية مفاد غيرها من الروايات السابقة.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب3 - وجوب العمل بالأدلَّة العقليَّة في إثبات حُجِّيَّة الأدلَّة السمعيَّة:
{13} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن الحسين بن محمَّد، عن أحمد بن محمَّد السيَّاري، عن أبي أيوب البغدادي، عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديثٍ أنَّه سُئِل ما الحُجَّة على الخلق اليوم؟ قال: فقال (عليه السلام):
"العقل يُعرَف به الصادق على الله فيُصدِّقُه والكاذب على الله فيُكذِّبُه".
قبل البدء في الحديث حولَ الرواية نقول أن عنوان الباب عبارةٌ عن قاعدةٍ في العقيدة والفقه، فحُجَّتنا في تصديق ما جاء عن الأئمَّة (عليهم السلام) هو حكم العقل، وستتضح كيفية استفادته.
في سند الرواية:
الحسين بن محمَّد: وهو ابن عمران بن أبي بكر الأشعري: ثقة.
أحمد بن محمد السيَّاري: ضُعِّف، والسبب في ذلك اتهامه أنه يقول بالتناسخ (تناسخ الأرواح)، ولكنَّ سبب التضعيف فيه توقُّفٌ لأمرين:
الأول: هناك من فهم أنه يقول بالتناسخ، ومن فهم ذلك قد يكون له شأن، فشاع عنه القول بالتناسخ، فلا ضرورة لثبوت التهمة.
الثاني: قد تكون طرأت له شبهةٌ، وذلك ليس بعزيزٍ، بل حتى أكابر الأصحاب كهشام بن الحكم عَرَضَتْ له شبهة التجسيم كما هو معلومٌ، ففي طريق البحث كثيرًا ما تطرأ الشبهات، وقد تكون خطيرةً، وتبقى لاصقةً بك حتى لو رَجعتَ عنها.
أبو أيوب البغدادي: هو يزيد بن حمَّاد بن الأنباري السَلمي، ثقة. لكنَّ المذكور في رواية الكافي -كما سيأتي- هو أبو يعقوب البغدادي.
ابن السِّكِّيت: هو يعقوب بن إسحاق، النحوي المعروف.
ملاحظةٌ: يبعُد أن يكون المروي عنه هنا هو الإمام الرضا (عليه السلام) لأن الراوي الذي سأل الإمام هنا هو ابن السِّكِّيت، وعاش في زمن الرضا (عليه السلام) لكنه عند وفاة الإمام لم يكن في مقام السؤال بعدُ لصغره، فالأوفق والأقرب أن يكون المسؤول هو أبو الحسن الثالث؛ أيْ الإمام الهادي (عليه السلام).
في متن الرواية ومضامينها:
للوقوف على مضامين الرواية بشكلٍ أفضل ننقلها كاملةً من أصول الكافي، حيث إن الشيخ الحرَّ العامليَّ نقل منها محلَّ الشاهد فقط:
عن أبي يعقوبَ البغدادي، قال: قال ابن السِّكِّيت لأبي الحسن (عليه السلام) لماذا بعثَ الله موسى بن عِمران (عليه السلام) بالعصا ويدِهِ البيضاء وآلةِ السحر؟ وبعثَ عيسى (عليه السلام) بآلةِ الطب؟ وبعثَ محمَّدًا صلى الله عليه وآله وعلى جميع الأنبياء بالكلامِ والخُطَب؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): إنَّ الله لمَّا بعثَ موسى (عليه السلام) كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وُسعِهِم مثله، وما أبطلَ به سحرَهُم، وأثبتَ به الحُجَّة عليهم، وإنَّ الله بعثَ عيسى (عليه السلام) في وقتٍ ظَهَرتْ فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطِّب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيا لهم الموتى، وأبرأَ الأَكْمَه والأَبْرَص بإذن الله، وأثبت به الحُجَّة عليهم.
وإنَّ الله بعثَ محمَّدًا (صلى الله عليه وآله) في وقتٍ كان الغالب على أهل عصره الخُطَب والكلام -وأظنُّه قال: الشِعْرَ- فأتاهم من عند الله من مواعظه وحِكَمه وما أبطلَ به قولهم، وأثبتَ به الحُجَّة عليهم، قال: فقال ابن السِّكِّيت: تالله ما رأيتُ مثلَكَ قَطُّ، فما الحُجَّة على الخلق اليوم؟ قال: فقال (عليه السلام): العقل يُعرَف به الصادق على الله فيُصدِّقُه، والكاذب على الله فيُكذِّبُه، قال: فقال ابن السِّكِّيت: هذا والله هو الجواب. {الكافي – ج1- كتاب العقل والجهل – ح20}.
المقصود من قوله (الكلام والخُطب) في صدر الرواية، وقوله (مواعظه وحِكَمه) في ذيلِها هو القرآن الكريم. ويبدو من طريقة كلام ابنِ السِّكِّيت أنه عالمٌ بالأمور وإنَّما سألَ عن العِلَّة في ذلك.
والأَكَمه: هو الذي يُولَد مَطْمُوسَ العينين.
ما الذي فهمه ابن السِّكِّيت من جواب الإمام (عليه السلام) واكتفى به؟ وهل كان العقل حُجَّةً في زمن الأنبياء (عليهم السلام)؟
الجواب: هل قول الإمام (عليه السلام) أن العقل هو الحُجَّة بعد زمن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يعني عدم كونه حُجَّةً في زمن الأنبياء؟ وهذه الأفعال من الأنبياء (عليهم السلام) لو عِشتَها كيف ستنظُر إليها؟
المِفصل في ذلك ملاحظة أنها في مقام الادِّعاء، وكونُّها في هذا الإطار يجعل النظرة إليها مختلفةً، فالعقل تتبادر إليه المعاني ويتحكَّم فيما يسبق إليه من خلال القرائن والمعطيات التالية: أولًا: هذا رجلٌ يدَّعي النبوة، ثانيًا: هذا الرجل من شأنه أن يصدق. العقل يلاحظ هذه الأمور.
أمَّا بعدَ انقضاء زمن النبوَّة، يختلف الحال فنحن لا نرى المعاجز والأفعال التي صدرتْ من الأنبياء (عليهم السلام)، والمُراد من حجِّيَّة العقل بعد زمن النبي (صلَّى الله عليه وآله) أنه حُجَّةٌ في معرفة التفاصيل.
منذ آدم كان هناك تراكمٌ في الدعوى لدين الله، فالعقل ينظر إلى موسى (عليه السلام) على سبيل المثال كمدَّعٍى لأنَّه يعلم بوجود الله، فالكلام يكونُ في تصديق المدَّعي على الله تعالى، ولكن بعدَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) مع وجود الكلِّيَّات والقواعد نحتاج لمعرفة التفاصيل حيث إن الدين قد كَمُل، وهذه الكلِّيَّات قد وُجِدت قبل الغيبة الكبرى بالشكل الكافي.
{14} الرواية الثانية: وعن عليِّ بن محمَّد، عن سهل بن زياد، عن محمَّد بن سليمان، عن عليِّ بن إبراهيم، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
"حُجَّة الله على العباد النبي، والحُجَّة فيما بين العباد وبين الله العقل".
أيْ أن الله تعالى يحتجُّ على العِباد بإرسال الأنبياء، والعبادُ يُجيبون بأن هذا ما انتهى بنا إليه العقل الكلِّي، وهو الذي ينتهي إلى استحالة اجتماع أو ارتفاع النقيضين.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب4 - أنَّه لا يُعتبر من العقل إلا ما يدعو إلى طاعة الله ومتابعة الدين:
لا يُعتَبر من العقل؛ أيْ ليس هو صادرٌ من العقل..
{15} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمَّد، عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، قال:
"ذكرتُ لأبي عبد الله (عليه السلام) رجلًا مبتلى بالوضوء والصلاة، وقلت: هو رجلٌ عاقل، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): وأيُّ عقلٍ له وهو يُطيع الشيطان؟! فقلت له: وكيف يُطيع الشيطان؟ فقال: سَلْه هذا الذي يأتيه من أين هو؟ فإنَّه يقول لك: من عمل الشيطان".
لاحظوا أن هذا الرجل ذاهبٌ لله يُريد العبادة، لكن الإمام يقول أنه يُطيع الشيطان.
يمكننا أن نُقدِّرَ في آخر الرواية -بعد قوله: (من عمل الشيطان)- العبارة التالية: (إذا كان صادقًا في جوابه).
{16} الرواية الثانية: وعن أحمد بن إدريس، عن محمَّد بن حسان، عن أبي محمَّدٍ الرازي، عن سيف بن عَميرة، عن إسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):
"من كان عاقلًا كان له دين، ومن كان له دينٌ دخل الجنة".
قيل أنَّ عاقلًا هنا هو من له عِلم، ولكنه بعيد، فقد يكون الإنسان له عِلمٌ ولكنه لا يتبعه، فلا يكون له دين. فمن كان عاقلًا فهو من عَقِل عن الله تعالى.
أمَّا الدين: فهو ما يلتزمه الإنسان في حياته، أو ما يدين به الإنسان لغيره، فهو أعمُّ من الإسلام بالتالي، لكن الذي يدخل الجنة هو الذي يلتزم بدين الله.
{17} الرواية الثالثة: وعنه، عن محمَّد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابنا، رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلتُ له:
"ما العقل؟ قال: ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسِبَ به الجنان، قال: قلت: فالذي كان في ]فلان[؟ قال: تلك النَّكْراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهةٌ بالعقل وليست بالعقل".
سؤال: كيف تكون العبادة بواسطة العقل؟ وكيف يكون اكتساب الجنان بواسطة العقل؟
وظيفة العقل أن يحكُم؛ أيْ أنه يُثبِت النسبة بين الموضوعات أو ينفيها، فهي وظيفته الأولى والأخيرة، ويُعبَد الله تعالى به أيْ أن الأحكام الخاصة به تعالى وباكتساب الجنان هو الذي يَتَوصَّل إليها، وبالتالي مثل هذا الحديث يُعَدُّ دافعًا لتحصيل أعلى درجات العلم.
أمَّا الذي في فلان فهو يقوم بعمل العقل وهو شبيهٌ به لكنه ليس هو النور الذي كان في سابق علم الله تعالى.
{18} الرواية الرابعة: وعن بعضِ أصحابنا، رَفَعَه عن هشام بن الحكم، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) -في حديثٍ طويلٍ- قال:
"يا هشامُ إنَّ العُقلاء تركوا فُضُول الدنيا فَكَيفَ الذنوب، وتَركُ الدنيا مِنَ الفضلِ وتَركُ الذنوبِ مِنَ الفَرض".
العاقلُ لا ينشغل فِكرُه فضلًا عن جوارِحِه بفضول الدنيا، والفضلُ هو ما لا يدخل في قِوامِ الأمر، فأوَّل ما يُضحَّى به عند الضرورة هو هذا الزائد. فما الذي يدخل في قِوام هذه الدنيا؟ وما الذي يُحافِظ على قوامها؟
مِنَ الفضلِ بعضُ الأمورِ التي ثَبتَ لها بالبحث العلمي بعضُ الفوائد، ومن ذلك الموسيقى، ولكننا لا نستطيع أن نعتبرَهَا من العُمَد والقوام لأن الشارِعَ نهى عنها، ونحن لا نتمسَّك بشيءٍ اعتمادًا على البحث العلمي إذا كان يُخالِف الشَرع، فيكون بالتالي من زوائد الدنيا.
نحن مسؤولون عن هذه العُمدِ وما يُحافِظ عليها، وهذا ما نستفيده من الروايات التي تحدَّثت عن الخِصال التي ينبغي أن يكونَ عليها العاقل، ورواية جنود العقل وغيرها، وكذلك لا بدَّ مِنَ الدعاءِ في طلبِ العقل.
في الواقع لو أننا التزمنا بهذه الرواية وأعطينا المُستحبَّات والمكروهات حقَّها مِنَ العناية، وربَّينا أولادنا وأدَّبناهم عليها، فإننا لن نحتاجَ بعد ذلك للحديث عن الواجبات والمحرَّمات، فإن الالتزام بها يكون من باب الأولى عند ذلك.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب5 - أنَّ المعرفةَ الاجمالية ضروريَّةٌ فِطريَّةٌ موهبيَّة، وأنَّه يجب الرجوع في جميع تفاصيلها إلى الكتاب والسنة:
{19} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، قال: قال العَالِم (عليه السلام):
"مَنْ دَخَلَ الإيمانَ بعلم، ثَبتَ فيه ونَفعَهُ إيمانه، ومَنْ دَخلَ فيه بغير علمٍ خَرجَ منه كما دَخلَ فيه. قال: وقال (عليه السلام): مَنْ أَخذَ دينَهُ من كتاب الله وسنَّة نبيِّه (صلَّى الله عليه وآله) زالتِ الجبالُ قَبلَ أنْ يزول، ومَنْ أَخذَ دينَهُ من أفواه الرجال ردَّته الرجال، قال: وقال (عليه السلام): مَنْ لم يعرِفْ أمرَنَا من القرآن لم يَتَنَكَّبِ الفِتن".
أيْ عِلمٌ، ثم إيمان، ثم علم، فهذا الدخول في الإيمان لا بدَّ أن يكونَ مسبوقًا بعلم، فكلُّ حركةٍ نحتاج فيها إلى معرفة، وبعدَ الدخول في الإيمان نحصُل على علمٍ جديد، لا الدخول من غيرِ تثبُّتٍ كالذي يلجَأُ إلى الله عندَ الحاجة فقط، ثمَّ يبتعدُ بَعدَ نيلِ ما يُريد، وله شواهدُ من القرآن الكريم، ولا إيمان من لا يكون إيمانُهُ إلا مع الجماعة، أو اتباعًا لقولِ رجلٍ فقط، وغير ذلك.
إذنْ المسألةُ أنك إذا أَردتَ أن تدخلَ في الدين فلا بدَّ مِنَ العلمِ الموهوبِ مِنَ الله تعالى.
أمَّا من أرادَ أن لا يزولَ عن دينِ الله فلا بدَّ أن يأخذَ دينَهُ من القرآن وأهل البيت (عليهم السلام)، أمَّا أَخذُهُ من غيرهما فلا يُوصِل لهذا المستوى من الثبات المذكور في الرواية.
لذلك مِنَ الأمورِ المطلوبةِ قراءةُ نفسِ القرآن ونفس الروايات، فلها مِيزَةٌ غير محسوسة، ولكن هذا ممَّا يُؤثِّرُ في عدم زوال إيمانِ الإنسان. وهذا لا يعني أن لا نَأخُذَ عن العلماء، لكنَّ ذلك يكون مع الاستناد للقرآن وأهل البيت (عليهم السلام).
{20} الرواية الثانية: وعن أحمد بن إدريس، عن محمَّد بن عبد الجبار، عن صفوانَ بن يحيى، عن الرضا (عليه السلام) في حديث:
"إنَّ رجلًا قال له: فتُقِرُّ أنَّ اللهَ محمول؟ فقال: إنَّ المحمولَ مفعولٌ به، مضافٌ إلى غيره، محتاج، والمحمولُ اسم نقصٍ في اللَّفظ، والحاملُ فاعلٌ وهو في اللَّفظ مِدْحَة، إلى أنْ قال: وقد قال الله تعالى (وللهِ الأسمَاءُ الحُسنَى فادعُوهُ بِهَا) ولم يقلْ في كُتُبِه: إنَّه المحمولُ بلْ قال: إنَّه الحاملُ في البرِّ والبحرِ ولم يُسْمَعْ أحدٌ ممَّن آمن بالله وعظَّمه قال في دعائه: يا محمول".
الفائدة الأساسية من هذه الرواية هي: لا تَخترِعْ ولا تَبتدِعْ من عِندِكَ والتزمْ بما سَمِعتَ ممَّن آمنَ بالله، والمُرادُ هنا هم أهل البيت (عليهم السلام).
{21} الرواية الثالثة: وعن محمَّد بن أبي عبد الله، رَفَعَه عن يونس بن عبد الرحمن، قال: قُلتُ لأبي الحسن الأول (عليه السلام):
"بما أُوحِّد الله؟ فقال: يا يونس، لا تكوننَّ مُبتَدِعًا، مَنْ نَظرَ برأيه هَلَك، ومَن تَركَ أهلَ بيتِ نبيِّه ضَلَّ، ومَن تَركَ كتاب الله وقَولَ نبيِّه كَفَرَ".
نجدُ هنا أن الإمامَ (عليه السلام) يمنعُ يونسَ من الابتداع مع أنه أرشدَ عامَّة الناس للأخذ منه، والابتداع هنا بشكلٍ عامٍّ لا خُصوص البِدعةِ المُحرَّمَة التي تعني الإحداثَ في الدين، والطريقُ لعدمِ الإحداث في الدين هو الامتناعُ عن ابتداعِ ما لا يُعدُّ إحداثا، وبالتالي الالتزامُ بما جاء عنهم (عليهم السلام).
أمَّا الترك هنا فهو ما كان عن قصدٍ لا أيَّ تركٍ لهم (عليهم السلام)، فإن كان عن قصدٍ كان طريقًا للوقوع في النتائج المذكورة في الرواية.
تنبيهٌ:
بعضُ العلوم بقَدَرِ أهمِّيَّتِها تكون خطيرة، ومنها عِلم الرجال وأصول الفقه.. وقد تَنقلُ العالمَ من متعلمٍ إلى أن يكونَ صاحبَ الرأي، وتكون الآيات والروايات أدواته، لا أن الرأي هو للقرآن وأهل البيت (صلوات الله عليهم).