تعددت المشارب وتفاوتت النتائج في الحديث عن الرجعة والاستدلال عليها، ويبدو أن التعدد والتفاوت راجع إلى مناهج المعالجة والاستدلال، وإلى روح الدليل المعتمد في الموضوع، وليس من شك أن المشارب والاتجاهات الإستدلالية في أصول العقيدة مختلفلة في الاعتبار، فضلاً عن موضوعات فروع العقيدة.
فقد يقود المشرب والاتجاه الإستدلالي الخاص إلى نتيجة (عدم ثبوت الرجعة). وقد يقود إلى نتيجة (احتماليتها أو ثبوتها كفرع من فروع العقيدة وعدم الاعتقاد بها لا يضرّ بالعقيدة)، وقد يقود إلى نتيجة (الثبوت كأصل في العقيدة بل كضروري من ضروريات المذهب). وعلى ذلك، فإن المحاورات التفصيلية في عرض الروايات أو الحُجج الكلامية لهذا الرأي أو ذاك، لن يؤدي إلى نتيجة، لأن المباني الإستدلالية متباينة، فلابد من التحقيق في المباني نفسها للوصول إلى نتائج متفقة، وإلا سيبقى حال (النتائج) المتعددة على ما هو عليه، وسيتمسّك كل بمعذرية مبناه النظري الإستدلالي في ما انتهى إليه من نتيجة.
ومما استدل به كاتجاهات عامة، التالي:
1- الاستدلال القرآني الذي يثبت إمكان الرجوع من جهة، كما في آية (فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ)، ويثبت كرة أخرى غير البعث للقيامة، كما في (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ).
2- الاستدلال الروائي بما يصل إلى 200 حديث، تعددت جهات الحديث عن الرجعة فيها، فمنها ما أثبت الرجعة عموماً، ومنها ما أثبته في عصر الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، ومنها ما تحدث عن تفاصيل الراجعين وأنواعهم وأسماء بعضهم.
3- التوسل بالعقل، كإثبات أصل الإمكان من خلال قدرة الله، وعدم المانع، ومن خلال إثبات الوقوع الذي يكشف عن الإمكان، بل قيل بحسن وقوعها بل بلزومها تحقيقاً لإقامة العدل في الأرض.
وجميع هذه الاتجاهات تمت مناقشتها بدرجات من القبول والرفض حيث انتهت النتائج إلى ما أسلفنا ذكره، ونحاول في هذه السطور أن نثبت أن الرجعة حتم وضروري من خلال ما يتنبّه له (العقل) على أسس ومعطيات (الوحي) الأكيدة، وهو منهج البناء على الأصول والرجوع إلى الثوابت، ورد المتشابهات من الموضوعات إلى محكمات الدين وثوابته. لعلنا نصل إلى نتيجة مشتركة، حتى مع تباين مناهج الإستدلال ووجوه النظر، لأنه مهما تعدّدت يبقى هنالك مجال مشترك في عمليات التفكير، ولكن يحتاج إلى التنبيه والتذكير.
السؤال المطلوب الإجابة عليه هو: هل عقيدة الرجعة ثابتة؟
وقبل ذلك لابد من الإشارة إلى أن الرجعة تعني في أساسها أن هناك من المعصومين من سيرجع إلى الدنيا، وبغض النظر عن تفاصيل سعة الرجعة ومن هو الذي يرجع تحديداً، لأن موضوع الإثبات هذا ينظر لأصل عقيدة الرجعة متمثلة في رجوع أعلى مثال فيها وهو المعصوم بعد أن توفاه الله تعالى.
وكما جاء في زيارة آل ياسين: (أَنْتُمُ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَخَاتِمَتُهُ، وَأَنَ رَجْعَتَكُمْ حَقٌ لَا شَكَّ فِيهَا). ونسعى تحديداً لإثبات هذه الحقيقة أن رجعتهم (ع) حق لا شك فيها ولا ريب.
محكمات البحث
المحكمات التي سنحتاج إليها في عملية الإستدلال والتي ستكون مرجعية لضبط الوعي والفهم والنتائج، هي:
1- أصل أنّ الأرض لا تخلو من حجة، وهو ما أجمعت عليه الطائفة المحقّة من غير خلاف.
2- أصل أنّ الحجج بعد النبي إثنا عشر إلى يوم القيامة، وهو ما أجمعت عليه الطائفة أيضاً.
3- أصل أنّ كل نفس ذائقة الموت. وهو أصل لا يختلف عليه إنسان.
اعتماداً على هذه الأصول والثوابت والمحكمات، نثير هذا التساؤل: هل أن الإمام الحجة المنتظر المهدي (عجل الله فرجه) بعد ظهوره الشريف سيبقى حياً إلى يوم القيامة أو أنه سيستشهد قبل ذلك؟
إن قيل أن شهادتة ستكون وقت اندلاع يوم القيامة تماماً، فلا بأس (عقلاً) بعدم القول بالرجعة، لأنه لن يكون هناك اصطدام مع محكم من محكمات الدين، ويبقى الرجوع إلى الروايات بحسب مناهج قبولها هو المثبت للرجعة حينها، ولكن الثابت أو المشتهر أن الإمام (عجل الله فرجه الشريف) سوف يستشهد قبل يوم القيامة، وقد تعددت الروايات التي ذكرت مدة حكومته بين سبع وسبيعن ومائة وأربعين وأكثر، ومهما طالت السنين إلا أن الأمد لابد أن ينتهي ولكل أجل كتاب، بل الأصل الثالث الذي ذكرناه يثبت ذلك بما لا يدع مجالاً للشك.
وهنا لابد من استرجاع الأصول والمحكمات، لمعرفة حقيقة القول بالرجعة.
فعند شهادته (عجل الله فرجه) لابد من (حُجة) عند موته وبعد موته؛ لأن الأرض لا تخلو من حجة كما هو ثابت، ولا شك أن الله تعالى قادر على ذلك.
ولكي تتم عمليه الإحكام والضبط بشكل صحيح، فلابد أن نأتي بالمحكم الثاني، وهو أن (الحجّة) الذي سيكون بعد الإمام المهدي (عجل الله فرجه) هو من ضمن الحجج الإثني عشر أنفسهم، وإلا انهدم محكم من محكمات الدين وهي الحقيقة الإثني عشرية، ولا شك أن الله تعالى قادر على إرجاع وإحياء أي واحد منهم، فهو الذي يحي ويميت سبحانه، ومثاله في القرآن مسطور:{فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}. (سورة البقرة 259)
فالنتيجة التي ننتهي إليها من خلال منهج الإحكام بالأصول الثابتة، هي أن الرجعة حتم لا يمكن أن نحيد عنها ولا نكرانها، بعد التسليم بموت الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، وإلا انخرمت أسس المذهب الحق.
وهذه النتيجة متطابقة مع ما جاء عن النبي(ص) فيما رواه الشيخ الصدوق في كتبه الثلاثة: (عيون أخبار الرضا) وفي (كمال الدين وتمام النعمة)، و(علل الشرائع):
(وَلَأُطَهِّرَنَّ الْأَرْضَ بِآخِرِهِمْ مِنْ أَعْدَائِي، وَلَأُمَكِّنَنَّهُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، ولَأُسَخِّرَنَّ لَهُ الرِّيَاحَ، وَلَأُذَلِّلَنَّ لَهُ السَّحَابَ الصِّعَابَ، وَلَأَرْقِيَنَّهُ فِي الْأَسْبَابِ، وَلَأَنْصُرَنَّهُ بِجُنْدِي، وَلَأَمُدَّنَّهُ بِمَلَائِكَتِي حَتَّى تَعْلُوَ دَعْوَتِي وَيَجْتَمِعَ الْخَلْقُ عَلَى تَوْحِيدِي، ثُمَّ لَأُدِيمَنَّ مُلْكَهُ وَلَأُدَاوِلَنَ الْأَيَّامَ بَيْنَ أَوْلِيَائِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة).
وقد يقال أن من سيرجع وسيبقى بعد الإمام الثاني عشر، سينطبق عليه الأصل الثالث من لابدية الموت، ولكنه مدفوع بأنه قد مات فعلاً قبل ذلك، فلا مانع من بقائه حتى يوم القيامة، كما يمكن أن يكون موته في لحظة اندلاع يوم القيامة.
وبذلك تثبت الرجعة لأيّ من المعصومين بالإطلاق في حياة الإمام المهدي المنتظر في حكومته وبعد مماته سلام الله عليه، فيخلفه من كان معه حينها. وقد أشارت بعض الروايات أنه الإمام الحسين (ع) الذي سوف يلي غسله. أما الحديث عن الأسماء أو الأحداث التي سوف يشارك فيها الراجعون إلى الدنيا، فالأحاديث فيها متعددة، ويمكن للبحث في درجة اعتبار بعضها وقبولها والبحث في فهم مسار حركتها ودلالاتها أن يأخذ أبعاداً تختلف فيها الأنظار والقراءات، وهو أمر لا إشكال فيه إذا ما تم عبر الموازين والمباني المتبّعة علمياً، إلا أن المهم في الرجعة هو وعي ضرورة الاعتقاد بها بعد ثبوت شهادة الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف). وأن إنكارها بعد هذا البيان يرجع إلى إنكار ضروري من ضروريات المذهب الحق في أن الأرض لا تخلو من حجة من الحجج الإثني عشر عليهم أفضل الصلاة والسلام.
من أقوال العلماء في الضرورة والاجماع
وهنا ننقل بعض أقوال أعلام الطائفة في الإيمان بأصل الرجعة بغض النظر عن التفاصيل.
الشيخ المفيد عن الرجعة: (وقد جاء القرآن بصحة ذلك، وتظاهرت به الأخبار، والإمامية بأجمعها عليه)1.
السيد الشريف المرتضى: (واعلم أن الذي تذهب الشيعة الإمامية إليه أن الله تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان المهدي (ع) قوماً ممن كان قد تقدّم موته من شيعته...)2.
أمين الإسلام الطبرسي: في الرجعة... (المعوّل في ذلك على اجماع الشيعة الإمامية وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده)3.
الشيخ الحسن بن سليمان: (وهي – يعني الرجعة – من مختصات الشيعة الإمامية التي خصّوا بها دون غيرهم، كما خصوا بتحليل تربة الحسين (ع) والاستشفاء بها)4.
الحر العاملي: (فإن ثبوت الرجعة من ضروريات مذهب الامامية عند جميع العلماء المعروفين والمصنفين المشهورين، بل يعلم العامة ان ذلك من مذهب الشيعة، فلا ترى أحداً يعرف اسمه ويعلم له تصنيف من الامامية يصرّح بانكار الرجعة ولا تأويلها، ومعلوم أن الضرورى والنظرى يختلف عند الناظرين، فقد يكون الحكم ضرورياً عند قوم نظرياً عند آخرين، والّذي يعلم بالتتبع ان صحة الرجعة أمر محقق معلوم مفروغ منه مقطوع به ضرورىّ عند أكثر علماء الإمامية أو الجميع، حتى لقد صنّفت الإمامية كتباً كثيرة في اثبات الرجعة)5.
العلامة المجلسي: (اعلم يا أخي إني لا أظنك ترتاب بعد ما مهدت وأوضحت لك في القول بالرجعة التي أجمعت الشيعة عليها في جميع الأعصار، واشتهرت بينهم كالشمس في رابعة النهار، حتى نظموها في أشعارهم واحتجوا بها على المخالفين في جميع أمصارهم، وشنع المخالفون عليهم في ذلك وأثبتوه في كتبهم وأسفارهم.
منهم الرازي والنيسابوري وغيرهما، وقد مر كلام ابن أبي الحديد حيث أوضح مذهب الإمامية في ذلك، ولو لا مخافة التطويل من غير طائل لأوردت كثيراً من كلماتهم في ذلك.
وكيف يشك مؤمن بحقية الأئمة الأطهار (ع) فيما تواتر عنهم في قريب من مائتي حديث صريح رواها نيف وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام، في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم، كثقة الإسلام الكليني والصدوق محمد بن بابويه والشيخ أبي جعفر الطوسي والسيد المرتضى والنجاشي والكشي والعياشي وعلي بن إبراهيم وسليم الهلالي والشيخ المفيد والكراجكي والنعماني والصفار وسعد بن عبد الله وابن قولويه وعلي بن عبد الحميد والسيد علي بن طاوس وولده صاحب كتاب زوائد الفوائد ومحمد بن علي بنإبراهيم وفرات بن إبراهيم، ومؤلف كتاب التنزيل والتحريف وأبي الفضل الطبرسي وإبراهيم بن محمد الثقفي ومحمد بن العباس بن مروان والبرقي وابن شهرآشوب والحسن بن سليمان والقطب الراوندي والعلامة الحلي والسيد بهاء الدين علي بن عبد الكريم وأحمد بن داود بن سعيد والحسن بن علي بن أبي حمزة والفضل بن شاذان والشيخ الشهيد محمد بن مكي والحسين بن حمدان والحسن بن محمد بن جمهور العمي مؤلف كتاب الواحدة والحسن بن محبوب وجعفر بن محمد بن مالك الكوفي وطهر بن عبد الله وشاذان بن جبرئيل وصاحب كتاب الفضائل ومؤلف كتاب العتيق ومؤلف كتاب الخطب وغيرهم من مؤلفي الكتب التي عندنا ولم نعرف مؤلفه على التعيين ولذا لم ننسب الأخبار إليهم وإن كان بعضها موجوداً فيها.
وإذا لم يكن مثل هذا متواتراً ففي أي شيء يمكن دعوى التواتر، مع ما روته كافة الشيعة خلفاً عن سلف.
وظني أن من يشك في أمثالها فهو شاك في أئمة الدين ولا يمكنه إظهار ذلك من بين المؤمنين فيحتال في تخريب الملة القويمة بإلقاء ما يتسارع إليه عقول المستضعفين وتشكيكات الملحدين، (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الْكافِرُون)6.
السيد شبّر: (واعلم أن ثبت الرجعة مما اجتمعت عليه الشيعة الحقّة والفرقة المحقّة، بل هي من ضروريات مذهبهم)7.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على سيد المرسلين محمد الأمين، وآله الطيبين الطاهرين.
السيد محمود الموسوي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أوائل المقالات، ص77
2- رسائل الشريف المرتضى، ج1ن ص125
3- مجمع البيان، ج7، ص235
4- مختصر بصائر الدرجات، ص12.
5- الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة، ص61.
6- بحار الأنوار، ج53، ص122
7- حق اليقين، ج2، ص2-35