تقريرات: درس (الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة) - الشيخ الحرُّ العاملي (قدِّس سرُّه) {4}.
الأستاذ: السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي.
المقرِّر: محمود أحمد سهلان العكراوي.
{22} الرواية الرابعة: محمَّد بن مسعود العيَّاشي في تفسيره، عن مَسعدةَ بن صَدَقة، عن جعفر بن محمَّد، عن آبائه عن عليٍّ (عليهم السلام) في حديثٍ، قال: فما دلَّك عليه القرآنُ من صِفته، وتقدَّمَك فيه الرسول (صلَّى الله عليه وآله) مِن معرفته، فائتمَّ بِه واستضِئ بنور هدايته، وما كلَّفَك الشيطان عِلمَه ممَّا ليس عليك في الكتاب فَرْضُه، ولا في سُنَّة الرسول وأئمَّة الهدى أثره، فكِل عِلْمَه إلى الله، ولا تُقدِّر عَظَمة الله على قَدْرِ عقلك فتكون من الهالكين.
انظر إلى قوله (عليه السلام): "فما دلَّك عليه": هناك دَوالٌّ واضحة وأخرى غير واضحة، وفي مقام التخاطب لا بدَّ من ملاحظة حالَ المخاطَب من جهة معرفته بالدلالة دالًّا ومدلولا، ولكن الرواية لم تُحدِّد لنا ممَّن نأخذ الدلالات، فقد يدفع هذا البعض للأخذ بالدلالات مباشرة، والحال أن بعض الدلالات على أقلِّ تقديرٍ غير واضحةٍ للجميع لفقدان مقدمَّةِ معرفة الدلالات، وبالتالي فما دلَّك عليه من عَجزٍ في معرفة دلالات القرآن يدفعك للأخذ من العارف بالقرآن، وهم أهل البيت (عليهم السلام)، ثم تأخذ هذه الصِفة وتأخذ ما قدَّمه الرسول (صلَّى الله عليه وآله) من المعرفة.
س: كيف نَعرِف أنَّ التكليف من الشيطان؟
الجواب: نعرف ذلك إذا لم يكنْ التكليف به من القرآن الكريم.
الذي لم تُكلَّف به كِلْ عِلمَه إلى الله تعالى، ومِن ذلك معرفة الأنساب والتواريخ كما في الرواية عن الرسول (صلَّى الله عليه وآله) في كتاب العلم من أصول الكافي، والمقياس هو كوني مأمورًا بمعرفة الأمر من عدمه.
ثم قوله (عليه السلام): "(ولا تقدِّر عَظمَة الله على قَدْرِ عقلك فتكون من الهالكين"، والسبب في ذلك محدوديَّة الإنسان، حيث إن تصوُّراته لا تعدو ما يتحصَّل عليه من الخارج، وبالتالي كيف يمكن له تقدير ما هو أوسع من هذا العالم، وأكبر وأعظم من مقدار تصوُّراته، وبالتالي فالقياس يكون قياس اللامحدود على المحدود، وهذا فيه مخالفةٌ منهجيَّةٌ واضحة.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب 6 - عدمُ جواز العمل في الاعتقادات بالظنون والأهواء والعقول الناقصة والآراء ونحوها من أدلَّة عِلْم الكلام التي لم تثبت عنهم (عليهم السلام)
{23} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمَّد، عن الوَشَّاء، عن مثنَّى الحنَّاط، عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تَرِدُ علينا أشياءُ ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنَّة، فننظرُ فيها؟ فقال: لا، أمَا إنَّك إنْ أَصبتَ لم تُوجَر، وإنْ أَخطأَت كذبت على الله.
سؤال أبي بصيرٍ كان عن النظر في الأشياء التي لم تَردْ في الكتاب والسنة، فكان الجواب من الإمام (عليه السلام) بالنهي عن ذلك.
العموم المستفاد من الرواية:
مهمٌّ أن نَفهمَ الأمور لكن مع كون الطريق صحيحا.
{24} الرواية الثانية: محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن بابويه في كتاب التوحيد، عن أبيه، عن أحمد بن إدريس، عن محمَّد بن أحمد، عن عليِّ بن السندي، عن حمَّاد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يَهلَك أصحاب الكلام وينجو المُسلِّمون، إنَّ المُسلِّمين هم النجباء.
الفرق بين الكلام والفلسفة هو أن الفلسفة الإسلامية تنطلق من العقل إلى النصِّ على اعتبار عدم التعارض بينهما، وتُؤوِّل الرواية بحسب العقل، لذلك تجد كثيرًا من التأويلات للفلاسفة، أمَّا الكلام فهو بخلافها حيث ينطلق من النصِّ إلى العقل؛ أيْ نكشف عن حكم العقل من خلال النص، والخطورة إنما هي في قراءة النصِّ بعقليَّةٍ كلامية، فقد أتوهَّم أحيانَا أنني أنطلق من النص، لكن الواقع ليس كذلك، فأُحكِّم كلامي على النصِّ وأنطلق من خلال المباني المؤسَّسة بعيدًا عنه. لذلك إذا أردت أن تؤسِّس علمًا فلا بد أن يؤسَّسَ على مسطرة كلام أهل البيت (عليهم السلام)، وإلا فهو المنهي عنه، سواء سمَّيته كلامًا أو لم تسمِّه، وشاهد هذا ما دار بين الإمام (عليه السلام) وهشام في مناظرة هشام مع عمرِو ابن عُبيد، واستحسان الإمام لكلام هشام كما في الكافي الشريف، فلاحظ كلام هشام في جواب الإمام، قال: (هذا شيءٌ سمعته منك وألَّفته)، فأيَّده الإمام كما يتَّضح في ذيل الرواية. ومن مثل هذه الرواية نفهم أن المُفترض أن تكون البناءات على روايات أهل البيت (عليهم السلام) والانطلاق في ذِكر القواعد الفلسفية وغيرها أقل، وأن يكون الغالب هو ذِكر نفس كلامهم نصًّا، فيكون البناء أيضًا من نفس الروايات.
{25} الرواية الثالثة: وعنه، عن سعد بن عبد الله، عن محمَّد بن عيسى، قال: قرأت كتاب عليِّ بن هلال إلى الرجل، يعني أبا الحسن (عليه السلام): أنَّهم نَهَوا عن الكلام في الدين، فتأوَّل مواليك المتكلِّمون، أنَّه إنَّما نهى الذي لا يُحسن أنْ يتكلَّم، فأمَّا مَن يُحسن أنْ يتكلَّم فلم ينهَه، فهل ذلك كما تأولوا أم لا؟ فكتب (عليه السلام): المُحسن وغير المحسن لا يتكلَّم فإنَّ إثمه أكبر من نفعه.
السائل في هذه الرواية يستفهم إن كان تأوُّل الأصحاب صحيحٌ بأن المنهيَّ هو الذي لا يحسن الكلام أم لا، فنهى الإمام (عليه السلام) عن الكلام ممَّن يحسن الكلام وممَّن لا يحسن.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب 7 - عدم جواز التقليد في شيءٍ من الاعتقادات وأخذها من غير النبيِّ والأئمَّة الهداة عليهم أفضل الصلوات
مرَّ في ما سبق من كلام الشيخ الحرِّ العاملي والروايات التي ذكرها أن العلم الإجمالي موجودٌ لدى الإنسان، والمطلوب هو أخذ بيانها وتفاصيلها من عند أهل البيت (عليهم السلام).
{26} الرواية الأولى: محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن بابويه في كتاب معاني الأخبار، عن محمَّد بن عليِّ ماجيلويه، عن عمِّه محمَّد بن أبي القاسم، عن محمَّد بن عليٍّ الكوفي، عن حسين بن أيوب بن أبي عقيلة الصيرفي، عن كرام الخثعمي، عن أبي حمزة الثمالي، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إياك والرياسة وإياك أنْ تطأ أعقاب الرجال، إلى أنْ قال: إياك أنْ تنصب رجلًا دون الحُجَّة، فتصدِّقه في كلِّ ما قال.
الشاهد في هذه الرواية هو العموم المستفاد من كلمة الحُجَّة، والحُجَّة هو من يُحتجُّ بقوله، ولا يُحتجُّ إلا بقول الإمام (عليه السلام) مطلقا، وكلَّما اشتدَّ المقام اشتدَّ النهي كما لو كانت المسألة في العقائد، ممَّا جعل الرواية مناسبةً للاندراج تحت هذا الباب. وقد اكتفى الحرُّ العاملي (رحمه الله) بهذه الرواية في هذا الباب.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب 8 - أن الله سبحانه قديمٌ ولا قديم سواه:
{27} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن العبَّاس بن عمرو الفقيمي، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث الزنديق، وكان من قولِ أبي عبد الله (عليه السلام): ولا يخلو قولُك إنَّهما اثنان، من أنْ يكونا قويَّين أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدُهما قويًّا والآخر ضعيفا، فإنْ كانا قويَّين، فلِم لا يدفع كلُّ واحدٌ منهما صاحبه ويتفرَّد بالتدبير؟ وإنْ زعمت أنَّ أحدَهما قويٌّ والآخر ضعيف، ثبتَ أنَّه واحدٌ كما نقول للعجز الظاهر في الثاني، فإنْ قلت: إنَّهما اثنان، فلا يخلو من أنْ يكونا متَّفقين من كلِّ جهةٍ أو متفرِّقين من كلِّ جهةٍ فلمَّا رأينا الخلق منتظمًا والفلك جاريًا والتدبير واحدا، والليل والنهار والشمس والقمر، دلَّ صحَّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنَّ المدبِّر واحد. ثمَّ يلزَمُك إنْ ادَّعيتَ اثنين، فُرجةً ما بينهما حتى يكونا اثنين فصارت الفُرجة ثالثًا بينهما قديمًا معهما فيلزَمُك ثلاثةٌ، فإنَّ ادَّعيتَ ثلاثةً لزمك ما قُلتَ في الاثنين حتى يكون بينهما فُرجةٌ فيكونوا خمسةً، ثمَّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة. قال هشام: فكان من سؤال الزِّنديق أنْ قال: فما الدليل عليه؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): وجود الأفاعيل دلَّت على أنَّ صانعًا خلقها، ألا ترى أنَّك إذا نظرتَ إلى بناءٍ مشيَّدٍ مبنيٍّ عَلمتَ أنَّ له بانيًا وإنْ كُنتَ لم ترَ الباني ولم تشاهده، قال: فما هو؟ قال: شيءٌ بخلاف الأشياء ارجع بقولي إلى إثبات معنًى وأنَّه شيءٌ بحقيقة الشيئيَّة غير أنَّه لا جسمٌ ولا صورةٌ ولا يُحسُّ ولا يُجسُّ ولا تدركه الحواس الخمس، لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا تغيِّره الأزمان.
أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في الاحتجاج، عن هشام بن الحكم، نحوه إلى قوله: على أنَّ المدبِّر واحد.
والكلام في الرواية يقعُ في نقطتين:
الأولى: الزنادقة يُنكرون الوحدانيَّة ويقولون ببقاء الدهر فيُنكرون الآخرة، ومنهم فِرقةٌ يُسمَّون بالثنويَّة يقولون بإلهين: إله النور وإله الظلام، وقولهم ذلك باطل؛ وذلك لملازمة الاثنينيَّة الفُرجة بين الأول والثاني، والفُرجة وجود، وبإثباتها يتعدَّد القديم وبنفيها ينتفي وجود إلهين، حيث لا وجود لاثنين إلا بفُرجةٍ وإلا فهو واحد.
الثانية: ليس المُراد بالفساد في الآية (لو كانَ فِيهِمَا آلهةٌ إلا الله لفَسَدَتا) انتفاء التناسقِ والترتيب في الخَلق بل الفساد يعني الانعدام، وهذا لِمَا تقدَّم من الحديث في الفُرجة.
استطراد:
أمَّا برهان النَّظم وما يقال من أنَّه الانتظام والترتيب بين هذه الموجودات فليس صحيحًا في الاستدلال على وجود الإله، وليس المراد ببرهان النَّظم هذا، بل المُراد هو القوانين التي انتظمتْ فيها هذه الموجودات، فلا يصحُّ أن يُقال أن تعاقب الليل والنهار وكون الأول للسَّكن والثاني للمعاش، هما بهذا الترتيب وغيرهما كالأفلاك، يدلان على وجود الله، فهذا الترتيب الموصوف به وُصف به لكونه ما اعتيد عليه فلو كان المُعتاد هو العكس سيكون هو المرتَّب وغيره يعني الفوضى فلا يصلح للاستدلال، هذا بغضِّ النظر عن قوله تعالى أن الليل لباسٌ والنهار معاش، بل الصواب أن سَير هذه الموجودات ضمن نظامٍ معيَّن، قانونٍ معين، هو ما يدلُّ على الله سبحانه وتعالى، وهو النَّظم، فكون الكواكب تُوجد بانفجارٍ نتيجة تصادم النجوم وكون هذا الخلق أجمع بسبب الانفجار الأعظم، لا ينفي وجود الله بل على العكس تمامًا فهو يُثبته حيث إنه يمشي ضمن القانون.
قال هشام: "فكانَ من سؤال الزِّنديق... وجود الأفاعيل دلَّت...".
بطبيعة الحال عندما نطرح سؤالًا فلسنا في مقام الإشكال على الإمام (عليه السلام) والعياذ بالله، ولكن هذا الكلام مع من؟ مع من لا يؤمن بالإمام (عليه السلام)، واليوم عندنا نظرياتٌ أن هذا القياس يُناقش فيه. فقالوا بأن هذا الوجود أوجد نفسه بهذا الشكل، والشواهد كثيرةٌ كاصطدام كوكبان أو نجمان فيصير عندنا كواكب ونجوم، وهكذا، ولو تسلسلنا فيها لرجعنا إلى بداية الخلق وهو الانفجار العظيم، هذه المقدمة الأولى.
أمَّا المقدمة الثانية: لا وجود لشيءٍ اسمه منتظمٌ أو فوضوي، والحقيقة أننا نَأَلفُ ما نراه، فهذا ما اعتدنا عليه، فهذا التمثيل بأنك ترى بناءً مشيَّدًا فيدلُّك على وجود بان، لا يتم، بل حتَّى البناء يختلف من بلدٍ لآخر، ففي الواقع هذا ما أَلِفتهُ فقلتَ أنه منظَّم، والجواب له مقامان:
الأول: تأتي لأحدهم فتقول انظر لهذه الساعة جاءت هكذا لوحدها، فلا يصدِّق ويقول لا بد من وجودِ صانعٍ لها.
الثاني: ما لم يؤمن بالأول وقال انتظمتْ الأمور بنفسها ومثالك بالساعة خطأ، فنحن نتحدَّث عن الأمور الطبيعية لا عن هذه المصنوعات، نقول له هذا البناء شيِّد على وُفق قانون، فلا توضَع حجرةٌ على حجرةٍ إلا وُفق قانونٍ حاكم، وكلامنا في القانون وليس في الحَجرة والبناء، كلامنا في ما وَقَع فيه الشيء، ولذلك قال (الأفاعيل)، وأراد بها القوانين بحسب تعبيرنا.
"قال: فما هو؟ قال: شيءٌ بخلاف الأشياء...". السؤال عن الماهيَّة، فبماذا أجاب الإمام (عليه السلام)؟
أيُّ شيءٍ غير الله تعالى نحن لا نشخِّص ماهيَّته واقعًا عندما نُعرِّفُه، فالحدود والرسوم لا تحكي الحقيقة الخارجية وإنما تحدُّ الفهم بما يصوِّر لها المعنى، ولا نقول أننا عندما نقول هذا تعريفٌ لله يعني أننا نقول أن هذه هي الماهية، لا في الله تعالى ولا في غيره، فمعنى الحدِّ التَّام هو أننا نميِّزه عن غيره لا أكثر، فلا ينبغي أن نُداخل بين مقام الفهم والتفهيم ومقام الواقع الخارجي، فعندما نقول: (الإنسان حيوانٌ ناطقٌ) فنحن ميَّزناه بعنوانين، ميَّزناه بالجنس والفصل القريبين، وهذا له واقعٌ في الخارج لكن ليس بهذا الشكل الذي في الذهن. الإمام (عليه السلام) قال: "شيء"، والمخلوقات شيء، ولكن قال (عليه السلام): "بخلاف الأشياء"، وهذا هو الفصل، فشيءٌ يعني وجود، ولكن وجوده وجودٌ آخر، مباينٌ للوجودات، فنفى عنه أيَّ جهة اشتراكٍ مع الأشياء، فلا ينفي أحدٌ عنه الوجود.
قال (عليه السلام): "ارجع بقولي لإثبات معنى"، فلا تأخذ كلامي وتجري به، ما أريده هو أن أُثبِت معنًى في الذهن، فخطابي معك خطابٌ عقليٌّ ذهنيٌّ مفهومي، فلا تعجل، فما أريده هو إفهامك، وكيف أُفهمك؟ فيقول: "وأنه شيءٌ بحقيقة الشيئية" أيْ وجودٌ بل حقيقة الوجود، لأن كلَّ وجودٍ هو من ذلك الوجود، وعندما نسأل عن الشيء نعرِّفه بما نتمكَّن أن نُشخِّصَه من خلاله، والإمام يُقرِّه لكن عندما نتحدَّث عن الله تعالى فهذه الأشياء التي نعلمها بالحواسِّ الخمس نُجرِّده عنها، فإنك عندما تلمس أو تسمع أو تتذوَّق أو تنظر أو تشمُّ فأنت في الواقع تُمايز بين الأشياء، فلا تعدم كلَّ هذه المحسوسات واستعمالك الحاسَّة المناسبة تميِّز الأشياء عن غيرها، وعندما نتجاوز هذا الوجود ونتحدَّث عن الله سبحانه وتعالى فهو مميَّزٌ عن كلِّ هذا الوجود، وبالتالي لا نحتاج لما يميِّزه عن غيره، فهذه الأجسام وغيرها في هذه النشأة ليست إلا للممايزة بين الأشياء بالنسبة لنا، فإننا نحتاج إليها عند وجود أكثر من واحد، ولكن عندما يكون لدينا شيءٌ واحدٌ فلا حاجة إلى هذه الأمور للممايزة فلا يوجد ما نقارنه به، فأصل الكلام عن الجسميَّة والصوت وغيرهما باطل، فقال: "غير أنَّه لا جسم...".
قال (عليه السلام): "لا تدركه الأوهام... الأزمان"، فإن الوهم يأتي من الصور المُدرَكة بالحواس، وهو خلاف كلِّ هذه الصور، ولا تنقصه الدهور ولا تغيِّره الأزمان لأنه خلاف هذه الأشياء وخارج هذه الأزمان، وبالتالي يتحقَّق الغِنى المطلق.
{28} الرواية الثانية: وعن هشام، أنَّه سأل الزِّنديقُ الصادقَ (عليه السلام) عن قول من زعم: أنَّ الله لم تزلْ معه طينةٌ مؤذية، فلم يستطع التَّفصِّي منها إلا بامتزاجه بها ودخوله فيها ومن تلك الطينة خلق الأشياء؟
قال: سبحان الله وتعالى ما أعجز إلهًا يُوصَف بالقدرة، لا يستطيع التَّفصِّي من الطينة، إنْ كانت الطينة حيَّةً أزليَّةً فكانا إلهين قديمين فامتزجا ودبَّرا العالم من أنفسهما، فإنْ كان ذلك كذلك، فمن أين جاء الموت والفنا؟ وإنْ كانت الطينة ميتة، فلا بقاء للميت مع الأزليِّ القديم والميِّت لا يجيء منه حي، هذه مقالة الدَّيصانية أشدِّ الزنادقة قولًا وأهملهم مثلا، نظروا في كتبٍ صنَّفتها أوايلهم وحبَّروها بألفاظٍ مزخرفةٍ من غير أصلٍ ثابتٍ ولا حجَّةٍ تُوجب إثبات ما ادعوا، كلُّ ذلك خلافًا على الله ورسله، وتكذيبًا بما جاؤوا به عن الله.
فأمَّا مَن زعم: أنَّ الأبدان ظلمةٌ وأنَّ الأرواح نورٌ وأنَّ النور لا يعمل الشرَّ والظلمة لا تعمل الخير، فلا يجب عليهم أنْ يلوموا أحدًا على معصيته ولا ركوب حرمةٍ ولا إتيان فاحشة، وأنَّ ذلك على الظلمة غير مستنكَرٍ لأنَّ ذلك فعلها، ولا له أنْ يدعو ربًّا ولا يتضرع إليه لأنَّ النور ربٌّ والربُّ لا يتضرَّع إلى نفسه ولا يستعيذ بغيره، ولا لأحدٍ من أهل هذه المقالة أنْ يقول أحسنتُ وأسأت، لأنَّ الإساءة من فعل الظلمة وذلك فعلها والإحسان من فعل النور، ولا يقول النور لنفسه أحسنتَ يا محسن، وليس هناك ثالثٌ فكانت الظلمة على قولهم أحكم فعلًا وأتقن تدبيرًا وأعزَّ أركانًا من النور، لأنَّ الأبدان مُحكمة، فمن صوَّر هذا الخلق صورةً واحدةً على نعوتٍ مختلفةٍ وكلَّ شيءٍ يُرى ظاهرًا من الزَّهر والأشجار والثمار والدواب والطير، يجب أنْ يكون إلهًا ثم حبست النور في حبسها والدولة لها وما ادعوا بأنَّ العاقبة سوف تكون للنور فدعوى.
وينبغي على قياس قولهم أنْ لا يكون للنور فعل، لأنَّه أسيرٌ وليس له سلطانٌ فلا فعل له ولا تدبير، وإنَّ له مع الظلمة تدبيرًا فما هو بأسير بل هو مطلقٌ عزيز، فإنْ لم يكن كذلك وكان أسير الظلمة فإنَّه يظهر في هذا العالم إحسانٌ وخيرٌ مع فسادٍ وشر، فهذا يدلُّ على أنَّ الظلمة تحسن الخير وتفعله كما تحسن الشرَّ وتفعله. فإنْ قالوا محالٌ ذلك فلا نور يثبت ولا ظلمة، بطلتْ دعواهم ورجع الأمر إلى أنَّ الله واحدٌ وما سواه باطلٌ فهذه مقالة ماني الزنديق وأصحابه.
وأمَّا من قال: النور والظلمة بينهما حَكَمٌ فلا بدَّ أنْ يكون أكبر الثلاثة الحكم، لأنَّه لا يحتاج إلى الحاكم إلا مغلوبٌ أو جاهلٌ أو مظلومٌ وهذه مقالة المدقونية والحكاية عنهم تطول.
قال: فما قصة ماني: قال: متفحِّصٌ أخذ بعض المجوسية فشابها ببعض النصرانية فأخطأ الملَّتين ولم يُصِبْ مذهبًا واحدًا منهما وزعم أنَّ العالم دُبِّرَ من إلهين نورٍ وظلمةٍ وأنَّ النور في حصار الظلمة على ما حكيناه عنه، فكذَّبته النصارى وقبلته المجوس... الحديث.
قال بعض الزنادقة أننا نؤمن بوجود الله، ولكن تساءلوا من أين أتى الشر، فقالوا بوجود هذه الطينة المؤذية التي لم يتمكن أن يتخلَّص منها فخلق منها الشرور. في الواقع أصل تفكيرهم صحيحٌ لأنهم أرادوا تنزيه الله تعالى لكنَّهم لم يصيبوا مرادهم.
السؤال: الله سبحانه وتعالى خيرٌ، فمن أين جاء الشر؟
الجواب: إن الشر أمرٌ عدميٌّ وليس أمرًا وجوديًا حتى نقول أن الله تعالى خلقه، فالواقع أن الله تعالى خلق الخير فإذا عُدِمَ الخير حلَّ الشرُّ محلَّه، ولا يقال للأمر العدميِّ أنه مخلوق. وقال الخواجة نصير الدين الطوسي أن الدليل على ذلك الاستقراء، ولكننا نقول أن الدليل عليه عقليٌّ فهو يرجع إلى استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين.
بعد ذلك نجد أنَّ الإمام (عليه السلام) افترض بعض الفرضيَّات ثم أبطلها فأثبت أنَّ الله هو القديم لا سواه.
وفي بيان قوله (عليه السلام): "فمن أينَ جاءَ الموت والفنا؟"؛ أيْ أن الموت والفناء جاء من أيِّهما؟ الله أم الطينة؟
نقول: عدم الشيء نرجع فيه لمقولة الإضافة، فالأفعال والمفعولات وكلُّ نسبةٍ ترجع لمقولة الإضافة، وعندما نقول عدم الأمر الفلاني، فإننا نقولها بالإضافة لحالته السابقة من الوجود؛ أيْ بالنسبة لوجوده السابق، وليس معنى ذلك أنه فناءٌ مطلق، إذا كان الله تعالى وحده. ولكن إذا افترضنا معه أمرًا آخر كالطينة، وهذه الطينة يلحقها الفناء بالنسبة إلى وجودها السابق، لكن الفرض هنا أنها قديمة، وبالتالي لا يمكن أن يُنسَبَ الفناء للشيء لأنه لا بد أن يُنسب إلى وجوده السابق، والفرض أنها أزليةٌ فهي لا تفنى، وبالنتيجة فالخلق لا يفنى، وبالتالي لا يوجد فناءٌ فننسبه إلى من؟ وكان جواب الإمام بالنقض على الزنديق، كما هو واضح.
أمَّا من قالوا أن كلَّ شرٍّ فهو من الظلمة (الأبدان) وكلَّ خيرٍ من النور (الأرواح)، وهؤلاء قِسمٌ من الثنوية، فقد أبطل الإمام (عليه السلام) مقالتهم أيضًا بالافتراض ونقض الفرضيات. وملخصُّ كلامهم أن كلَّ شيءٍ قهريٌ ولا يمكن التخلُّص منه، لقولهم أن الأبدان يأتي منها الشر، والأرواح يأتي منها الخير، وبالتالي تأتي المترتبات التي ذكرها الإمام (عليه السلام).
ثم إن قولهم (أنَّ الله لم تزل معه طينةٌ مؤذيةٌ) يُثبت وجود الله أولًا، ولكن طروء النقص والمعائب في المخلوقات يَعيب الخالق في نظرهم، فقالوا بهذه الطينة المؤذية القديمة التي امتزج بها الله تعالى بعد عدم تمكُّنه من التفصِّي منها إلا بامتزاجه بها، فخلق الأشياء من تلك الطينة لذلك كانت فيها هذه النقائص والمعائب.
وفي الجواب على قولهم هذا انطلق الإمام الصادق (عليه السلام) بالبناء على أنَّ قدرة الله مطلقةٌ، والإطلاق مستفادٌ من إثبات الربوبيَّة له تعالى فلا يكون أجنبيًا عن دعواهم، وهذه هي جهة الاشتراك في القول بين الإمام (عليه السلام) والزِّنديق في أن القدرة مطلقة.
في الفرض الأول من مجادلة الإمام (عليه السلام) للزِّنديق، وهو (كون الطينة أزليةً)، تساءل الإمام (عليه السلام) قائلًا: "فمن أين جاء الموت والفناء؟"، وهذا راجعٌ لقاعدةٍ عقائديَّة، هي: (لا بد أنْ يكون هذا الخلق مخلوقًا ممَّا يفنى، لا من الحيِّ الأزلي). ودعواهم بحسب الفرض تُثبت أزليَّة الطينة وأزليَّة الله تعالى فلا يوجد ما يأتي منه الموت والفناء.
في الفرض الثاني، وهو (كون الطينة ميتةً)، تبطل دعواهم كذلك، حيث قال (عليه السلام): "فلا بقاء للميِّت مع الأزليِّ القديم والميِّت لا يجيء منه حيٌ".
فائدة:
لسان المجادلة هو إمَّا وإمَّا، لأن الكلام يحتمل وجوهًا دائمًا، فنحتاج أن نعرف وجوه الكلام ومناقشتها، ثم تخليصه من الاحتمالات حتى نصل للحق. وهذا لا بد له من أصولٍ ومبادئ، ومنها في محاججة الإمام (عليه السلام) للزنديق: أن الله قادرٌ مطلقًا، وأن ما يفنى يُخلَق ممَّا يفنى.
في إثبات العلَّة المتوسِّطة في الخلق:
بمجرد أن يسأل السائل عن شيءٍ يدل ذلك على عدم إحاطته، فإذا سأل عن علَّة الخَلق فهذا إقرارٌ منه بعدم الإحاطة، فيكون مُحاطًا، وهذا الإقرار يؤسَّس عليه البحث، ويلزم منه أساسٌ آخر، وهو أن السائل يصل إلى حدٍّ من العلم لا يتمكَّن من تجاوزه لأنه مُحاط.
وفي مسألة خلق الله لسائر المخلوقات، إمَّا أن نقول أن هذا الخلق هو الله أو غيره، والاتفاق على أنه غيره إلا من بعض المتصوِّفة، وإذا كان غيره -كما هو مقرَّر- فما هي النقطة العلميَّة التي تكون الفاصلة بين الخالق والمخلوق، فإمَّا هي نفس الخلق فيكون في الخلق مسٌّ إلهي، فنقع في إشكال المجانسة بين الخالق والمخلوق، وهو ممنوعٌ نصًّا وكلامًا وفلسفةً.
والفرض العقلي هو: لا بدَّ من وجودٍ متوسِّطٍ نعلم منه جهةً ونجهل الجهة الأخرى، ويرجع هذا لأننا محاطون بهذا الوجود المتوسِّط، وبالتالي نُمسك القلم عند الجهة السفلى -المعلومة- من الوجود المتوسِّط، ومن هنا خلق الله الخلق.
أما الجانب الروائي: ففي روايات أهل البيت (عليهم السلام) الكثير ممَّا يؤدي هذا المعنى، فالخلق منهم، والبداية منهم، والله تعالى احتجب عن الخلق بهم، وغير ذلك من الكلمات التي وردت في الروايات في هذا المعنى.
في تتمة الرواية:
في قوله (عليه السلام): "فأمَّا من زعم…": هذا هو فرض الجبر، ويُفهم ذلك من مثل قوله: "أنَّ النورَ لا يعمل الشرَّ والظلمة لا تعمل الخير، فلا يجب عليهم أنْ يلوموا أحدًا على معصيته"، ومن قوله: "ولا لأحدٍ من أهل هذه المقالة أنْ يقول أحسنتُ وأسأتُ، لأنَّ الإساءة من فِعل الظُلمة وذلك فعلها والإحسان من فِعل النور".
قال (عليه السلام): "وينبغي على قياس قولهم…": هنا انتقل (عليه السلام) لبيان ما يلزم من قولهم الماضي "أنَّ الأبدان ظُلمةٌ وأنَّ الأرواح نورٌ". ومنها أنه لا فعل للنور لأنه أسير الظُلمة، وإن كان كذلك فتكون الظُلمة تفعل الإحسان والخير، فإن قالوا هذا محالٌ بطلت دعواهم.
فائدةٌ:
في المجادلات نبحث عن ملازمات الكلام، لكنها ينبغي أن تكون حقيقيةً بحيث تصلح للمجادلة.
قال (عليه السلام): "وأمَّا مَنْ قال النور والظُلمة بينهما حَكمٌ…" فالحَكم واسطةٌ بينهما ولا بد أن يكون أكبر الثلاثة لأن الاثنين الآخرين يحتاجانه وهو لا يحتاجهما.
قال: "فما قِصة ماني؟". فأجاب (عليه السلام) بأنه مُتفحِّصٌ أي التقاطيٌّ أخذ شيئًا من هنا [بعض المجوسية] وشيئًا من هناك [فشابها ببعض النصرانية] فكان أمره كما مرَّ بيانه من الزعم "أنَّ العالم دُبِّر من إلهين نورٍ وظُلمة".