بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلهِ الطيبين الطاهرين
قال سيِّدُ العروة (قُدِّسَ سرُّه): "إذا كان أهلُ الصفوفِ اللاحِقَةِ غير الصف الأوَّل متفرقين؛ بِأنْ كانَ بينَ بَعْضِهم مَعَ البَعضِ فَصْلٌ أزيد من الخطوة التي تملأ الفُرَج، فإنْ لم يكن قدامهم من ليس بينهم وبينه البعد المانع ولم يكن إلى جانبهم أيضا مُتَّصِلًا بهم من ليس بينه وبين من تقدمه البعد المانع لم يصح اقتِدَاؤهم، وإلَّا صَحَّ. وأمَّا الصَفُّ الأوَّلُ فلا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَدَمِ الفَصْلِ بين أهله، فمعه لا يَصُحُّ اقتِدَاءُ مَنْ بَعُدَ عَنِ الإمَامِ أو عَنِ المأمُومِ مِنْ طَرَفِ الإمَامِ بِالبُعْدِ المَانِعِ"[1].
فالمدار هو ما يتحقَّقُ به الاتِّصال الشرعي بالإمام، فيكون الصفُّ الأوَّل هو موضوع أقصى البُعد الوارد في الروايات الشريفة، ثُمَّ ما يتحقَّقُ به الاتِّصال الشرعي لكلِّ مصلٍّ من الصف الذي يليه والذي يليه.. وهكذا. أي لو تباعد مصلِّيان في الصفِّ الثاني عن بعضهما البعض بمقدار مئة خطوة مع اتِّصال كلِّ واحد منهما مستقلًّا بالصف المتقدِّم المتصل بالإمام صحَّـت الجماعة. ولا دخل في صحَّة الجماعة للمسافة بين المصلين في الصف الواحد غير الأوَّل التالي للإمام.
أمَّا عدم جريان حكم أقصى البعد بين المصلَّين في الصفِّ الأوَّل على المصلِّين من الصف الواحد في باقي الصفوف فلسيرة المتشرِّعة؛ إذ إنَّهم يشترطون عدم التباعد بين المأموم والإمام، وبين الصف المتقدم والصف المتأخر، غير أنَّ السَّيد السيستاني (دام ظلُّه) احتاط لزومًا بأن "لا يكون بين أهل الصف الواحد بعضهم مع بعض أزيد من أقصى مراتب الخطوة"[2] وإن زاد عنها بين أهل الصف الواحد غير الصف الأوَّل فإنَّ ذلك لا يقدح في صحَّة جماعتهم إذا كان المتباعد متَّصِلًا بالإمام عن طريق من يقف أمامه، وحمله السَّيد الحكيم (دام ظلُّه) وغيره على الكراهة، فقال: "كما يُكره تباعد المُصلِّين بعضهم عن بعض في الصف الواحد. بل ينبغي سدُّ الفُرَج ومحاذاة المُصلِّين بعضهم لبعض في المناكب"[3].
والكلام في جهتين:
الأولى: المدار في تحقُّق الجماعة.
وهي مردَّدةٌ بدوًا بين أمرين:
الأوَّل: كفاية الاتصال بالإمام مباشرة أو بواسطة.
قال في المدارك: "أجمع علماؤنا وأكثر العامة على أنه يشترط في الجماعة عدم التباعد بين الإمام والمأموم إلا مع اتصال الصفوف"[4].
عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى، عَنْ حَرِيزٍ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام)، قَالَ:
"إِنْ صَلَّى قَوْمٌ وبَيْنَهُمْ وبَيْنَ الإِمَامِ مَا لَا يُتَخَطَّى فَلَيْسَ ذَلِكَ الإِمَامُ لَهُمْ بِإِمَامٍ. وأَيُّ صَفٍّ كَانَ أَهْلُه يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ إِمَامٍ وبَيْنَهُمْ وبَيْنَ الصَّفِّ الَّذِي يَتَقَدَّمُهُمْ قَدْرَ مَا لَا يُتَخَطَّى فَلَيْسَ تِلْكَ لَهُمْ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ سُتْرَةٌ أَوْ جِدَارٌ فَلَيْسَتْ تِلْكَ لَهُمْ بِصَلَاةٍ، إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ حِيَالِ الْبَابِ.
قَالَ: وقَالَ: هَذِه الْمَقَاصِيرُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ وإِنَّمَا أَحْدَثَهَا الْجَبَّارُونَ، لَيْسَتْ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَهَا مُقْتَدِيًا بِصَلَاةِ مَنْ فِيهَا صَلَاةٌ.
قَالَ: وقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السَّلام): يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصُّفُوفُ تَامَّةً مُتَوَاصِلَةً بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ لَا يَكُونُ بَيْنَ صَفَّيْنِ مَا لَا يُتَخَطَّى؛ يَكُونُ قَدْرُ ذَلِكَ مَسْقَطَ جَسَدِ الإِنْسَانِ"[5].
والنص صريح في أنَّ مقامَ الصفِّ المُتَقَدم مقامُ الإمامِ للصفِّ المتأخر عنه من جهة شرط الاتصال، والنظر في صحَّة الجماعة إلى المسافة المستقبلة، لا المسافة بين أهل الصف الواحد غير الصف الأوَّل الذي لا يتحقَّقُ في الاتصال إلَّا بأحد الطرفين وصولًا للمتصل بالإمام استقبالًا.
وتُؤيدها روايةُ دعائم الإسلام عن أبي جعفر محمَّد بن عليٍّ (صلوات الله عليه) أنَّه قال:
"ينبغي للصفوف أن تكون تامَّةً متواصلةً بعضُها إلى بعض، ويكون بين كُلِّ صفَّين قَدَرُ مَسْقَطِ جَسَدِ الإنسان إذا سجد. وأيُّ صفٍّ كان أهلُهُ يُصَلُّونَ بصلاة الإمام وبينهم وبين الصفِّ الذي يَقْدُمُهم أقل من ذلك، فليس تلك الصلاةُ لهم بصلاة"[6].
الثاني: اعتبار الاتصال بين أهل الصف الواحد سواء كانوا في الأوَّل أو غيره.
الوجهُ في هذا الفرض تصريحُ النُصُوصِ بالصَفِّ عند بيان مقدار اتصال المتأخر بالمتقدم، والصَفُّ هو ما يُكَوِّنُهُ الانْتِظام في خطٍّ واحِدٍ، وكانت العناية بذكر البعد بين الصفين لعدم الظهور، أمَّا بين المصلِّين في الصفِّ الواحد فيكفي فيها التصريح بكونه صفًّا.
أضف إلى أنَّ التعبير بلفظ (ينبغي)، كما في رواية الدعائم، لا يبعد أن يكون مستعملًا في إرادة الوجوب، بل وقد ذهب بعض الأعلام، وهو الشَّيخ محمَّد ابن الشَّيخ أحمد آل عصفور الدُّرازي البحرانيُّ، إلى أنَّه "لا يبعُد ادِّعاء أنَّ لفظ (ينبغي) حقيقةٌ في الوجوب، و(لا ينبغي) في التحريم، واستعمال الأوَّل في الاستحباب والثاني في الكراهة مجازٌ لا يُصارُ إليه إلَّا معَ القرينة"[7]، ثُمَّ أنَّه ساق أكثر من عشرة موارد من النصوص الشريفة استعمل فيها لفظ (ينبغي) بمعنى الوجوب، وأيَّد مذهبه بقوله: "وقد ذكر بعضُ المعاصرين المُحدِّثين المُتَبحرين[8] أنَّه وجد لفظ (ينبغي) للوجوب في سبعة عشر حكمًا في الأخبار، وأمَّا لفظ (لا ينبغي) فأكثر في التحريم"[9].
ومن الأخبار الشريفة في الاتصال بين أهل الصف الواحد غير الأوَّل ما رواه في التهذيب عنه عن أبيه عن آبائه (عليهم السَّلام)، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): "سَووا بين صُفُوفِكُم وحَاذُوا بين مَنَاكِبِكُم؛ لا يَسْتَحْوذ عَليكم الشَيطَانُ"[10].
وفي ثواب الأعمال عن أبيه (قُدِّس سرُّه)، قال: حدَّثني سعدُ بن عبد الله، عن محمَّد بن الحسين بن أبي الخطَّاب، عن وهب بن حفص، عن أبي بصير، قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) يقول: "إنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قال: يا أيُّها الناسُ، أقيموا صُفُوفَكم وامْسَحُوا بِمَنَاكِبِكُم لِئَلَّا يكون فيكم خَلَلٌ، ولا تُخَالِفُوا فَيُخَالِفُ اللهُ بينَ قُلُوبِكُم. وأنِّي أرَاكم مِن خَلْفِي"[11].
فيُقال: إنَّما اعتننت الروايات الشريفة ببيان البعد عن الإمام وعن الواسطة في الاتصال بالإمام لعدم ظهور ذلك في مجرَّد التصريح بوقوف المأموم خلف الإمام وبتوالي الصفوف خلف بعضها البعض، والأمر ليس كذلك في البعد بين أهل الصف الواحد غير الأوَّل؛ إذ أنَّ في كلمة (الصف) كفاية عن تكلُّف بيان البعد بين أهله، ولذا توجَّه الكلام إلى بيان الحدِّ الأفضل وهو المحاذاة بين المناكب والمسح بها.
وعليه يُتمسَّك بالوجوب الظاهر من قوله (عليه السَّلام): حاذوا وامسحوا. ويكون المُحقِّق للجماعة هو الاتصال بالإمام أو بمن يوصل بالإمام، وبمن يتصل بالإمام من جميع الجهات، وإلَّا بطلت جماعة من يخلُّ بالاتصال متى ما وجود موضوعه.
أقول: بالرغم من وجاهة ذلك، إلَّا أنَّ السيرة على خلافه، وأقصى ما وجدناه هو احتياط السَّيد السيستاني (دام ظلُّه) لزومًا، وقد مرَّت عبارته، وهذه هي بتمامها "والأحوط لزومًا أن لا يكون بين موقف الإمام ومسجد المأموم أو بين موقف السابق ومسجد اللاحق، وكذا بين أهل الصفِّ الواحد بعضهم مع بعض أزيد من أقصى مراتب الخطوة"، وإن زاد التباعد بين أهل الصف الواحد فإنَّه غير قادح في صحة صلاتهم، لذا قال (دام ظلُّه) في مقام نفي القدح: "وكذا إذا تباعد أهل الصف الثاني بعضهم عن بعض فإنَّه لا يقدح ذلك في صحَّة إئتمامهم؛ لاتصال كل واحد منهم بأهل الصفِّ المتقدِّم"[12].
وذهب غيره من الأعلام إلى استحبابها، قال في البيان: "يستحبُّ استِوَاءُ الصُفُوفِ في الأثناء، كما يُسْتَحَبُّ في الابتداء، وليس ذلك فعلًا خارجًا عن الصلاة، والمعتبر تساوي المناكب"[13]، وفي الذكرى: "يستحب إقامة الصفوف استحبابًا مؤكَّدًا" مستدلًا بما "قال ابن بابويه: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): أقيموا صفوفكم، فإنِّي أراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي، ولا تُخَالِفُوا فَيُخَالِفُ اللهُ بين قلوبكم. وروى الشيخ بإسناده إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: سدُّوا بين صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم؛ لا يستحوذ عليكم الشيطان. وروي في صحاح العامَّة: كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يُسَوِّي صفوفنا كأنَّمَا يسوي القداح، وقال: أقيموا صفوفكم فإنِّي أراكم من وراء ظهري. وقال: سووا صفوفكم، فإنَّ تسوية الصفوف من تمام الصلاة. وكان يمسح مناكبهم في الصلاة ويقول: استووا، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم"[14].
وعنون شيحنا الحرُّ العامليُّ (طاب رمسه) أحاديث الباب بـ "باب استحباب إقامة الصفوف وإتمامها والمحاذاة بين المناكب وتسوية الخلل، وكراهة ترك ذلك، وجواز التقدم، والتأخر مع ضيق الصف"[15]، وقدَّم المُحدِّثُ البحراني (علا برهانه) بحث مسائل الباب بقوله: "ومنها: إقامة الصفوف واعتدالها ويستحبُّ استحبابًا مؤكَّدًا، وكذا سدُّ الفُرَج الواقعة في الصفوف"[16].
فالمسقط لاعتبار الدلالة هو ما جرت عليه سيرة المتشرعة القائمة على اشتراط عدم التباعد بين المأموم والإمام، أو بين الصف المتقدم والصف المتأخر. أمَّا التباعد بين أهل الصف الواحد غير الأوَّل فغير قادح في صحَّة الجماعة؛ بحسب السيرة لا الدلالة.
الثانية: مقدار التباعد.
الكلام في بُعد المأموم المباشر خلف الإمام، والمأموم عن المأموم الذي يوصله بالإمام، والقدر على الأقل هو مربض عنز، وقد بينت الروايات الشريفة مقداره بذراع؛ كما في رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله الصادق (عليه السَّلام): "وكَانَ جِدَارُه قَبْلَ أَنْ يُظَلَّلَ قَامَةً فَكَانَ إِذَا كَانَ الْفَيْءُ ذِرَاعًا وهُوَ قَدْرُ مَرْبِضِ عَنْزٍ صَلَّى الظُّهْرَ وإِذَا كَانَ ضِعْفَ ذَلِكَ صَلَّى الْعَصْرَ"[17]، وعلى الأكثر مربض فرس، ويُفهم القولُ بما لا يُتخطَّى بأنَّه تقدير لمربض الفرس، أمَّا مسقط الإنسان إذا سجد فهو الذي من أجله جاءت التقديرات.
وهو بين الموقفين، لا بين مسجد اللاحق وموقف السابق؛ إذ لا معنى لتقديره بـ(الأقل) فيما لو كان الموضوع هو ما بين مسجد اللاحق وموقف السابق، وإنَّما المأخوذ في المسافة إمكان السجود. وإلَّا فما هي الجهة الموضوعية في أن يكون (أقل) البعد بين مسجد اللاحق وموقف السابق أو موقوف الإمام (مربض عنز)؟ فإن قيل للمرور. قلنا: فالحق أن يقال: (أكثر البعد مربض فرس) لا أقله.
أضف إلى ذلك ظهور التعبير بأن لا يكون بين (الصفَّين) في المسافة بين الموقفين، لا بين موقف مسجد اللاحق وموقف السابق.
ويُحْمَلُ أقَلُّ القدر (مربض العنز، وهو الذراع) على الاضطرار عند مثل ازدحام الصفوف؛ إذ إنَّ السجود في مقدار مربض العنز يستوعب الساجد متكوِّرًا، على خلاف (مربض الفرس) فيكون منبسطًا في سجوده.
قال في الفقيه[18]: روى زرارةُ عن أبي جعفر (عليه السَّلام) أنَّه قال: "ينبغي للصفوف أن تكون تامَّةً متواصِلَةً بعضها إلى بعض، ولا يكون بين الصفين ما لا يُتَخَطَّى؛ يكون قدر ذلك مسقط جسد إنسان إذا سجد".
وعن أبي جعفر (عليه السَّلام)، قال: "إنْ صَلَّى قَومٌ بينهم وبين الإمام ما لا يُتَخَطَّى فليس ذلك الإمامُ لهم بإمام، وأيُّ صَفٍّ كان أهلُهُ يُصَلُّونَ بصلاةِ إمَامٍ وبينهم وبين الصَفِّ الذي يَتَقَدَّمُهُم ما لا يُتَخَطَّى فليس تِلكَ لهم بِصَلَاة".
وفي رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: "أقلُّ ما يكون بينك وبين القبلة مربض عنزٍ، وأكثر ما يكون مربط فرس".
استقرب بعض الفضلاء كونَ موضوع المسافة هو ما بين مسجد اللاحق وموقف السابق. قال:
"ويدل على أنَّ النظرَ في هذه الفقرة معطوفٌ على ملاحظة النسبة بين مسجد اللاحق وموقف السابق، وأنَّه يجب أن لا يكون بمقدار لا يتخطى، وليس بين الموقفين، أمور:
الأول: الموقف الخارجي، فإنَّ السيرة القطعية المطردة بين المتشرعة في إقامة الجماعات قائمة على الفصل بين موقف السابق بأكثر مِمَّا يُتَخَطَّى، وعدم اتصال مسجد اللاحق بموقف السابق سيما بعد ملاحظة الفاصل الموجود بين فرش المصلين المقتضي للفصل بين الموقفين بأكثر مِمَّا يتخطى، فيستكشف من ذلك أن المدار في التحديد المذكور على ملاحظة البعد بين مسجد المصلي وموقف المصلي الآخر، وليس بين موقفيهما.
الثاني: موثقة الساباطي، والتي جاء فيها: "وعن الرجل يصلِّي بالقوم خلفه دارٌ وفيها نساء، هل يجوز لهنَّ أن يُصَلين خلفه؟ قال: نعم، إن كان الإمام أسفل مِنْهُنَّ. قلتُ: فإنَّ بينهنَّ وبينه حائطًا أو طريقًا، فقال: لا بأس"[19]. لدلالتها على نفي البأس من وجود الطريق بين المأموم والإمام، ومن المعلوم أنَّ الطريق يُوجِبُ الفَصْلَ بين الموقفين بأكثر مِمَّا يُتَخَطَّى.
نعم لا إطلاق فيها من حيث سعة الطريق ليكون منافيًا للصحيحة التي دلت على الفصل بين المسجد وموقف السابق بأزيد مِمَّا يُتَخَطَّى، بل إنَّ الموثق ناظِرٌ إلى عدم قادحية الطريق في حدِّ ذاته، ومنعه من الصحة.
على أنَّه لو بُنِيَ على وجود إطلاق في الصحيح، فإنَّه سوف يُقَيَّدُ بالصحيحة جمعًا"[20].
أقول:
أمَّا الأوَّل، فالحقُّ على خلافه؛ إذ إنَّ ما سمعنا به وشهدناه ونراه هو إنكار المتشرِّعة ابتعاد مسجد اللاحق عن موقف السابق، بل وأكثر من ذلك أنَّهم يشكِّكون في صحة الجماعة مع مثل التباعد محل الكلام.
وأمَّا الثاني، فقد قال في السرائر: "وقد وردت رخصة للنساء أن يصلّين، إذا كان بينهن و بين الإمام حائط"[21]، وأورد الوسائل موثقة الساباطي تحت باب: (جواز اقتداء المرأة بالرجل مع حائل بينهما)[22]، وقال في الحدائق: "الأشهر الأظهر عدم اشتراط هذا الشرط في حقِّ المرأة فيجوز لها الاقتداء مع الحائل، ويدلُّ على ذلك، مضافًا إلى الأصل والعمومات وعدم ظهور تناول الصحيحة المتقدمة التي هي الأصل في هذا الحكم لهذه الصورة، ما رواه الشيخ في الموثق عن عمار"[23] وساق (نوَّر الله مرقده) الرواية المزبورة.
الإحالة أو الإرجاع إلى العرف في تحديد مسافة التباعد:
ذهب جمعٌ من الفقهاء الأعلام إلى انعقاد الجماعة بما يراه العُرفُ اتِّصالًا وعدمَ بُعْدٍ بين الصوف وبين أهل كل صفٍّ فيما إذا كان الاتصال بالإمام عن طريق أحد الجانبين.
قال المُحقِّق: "ولا يجوز تباعد المأموم عن الإمام بما يكون كثيرا في العادة"[24]، والشهيد الأوَّل في شرائط الاقتداء: "السابع قرب المأموم من الامام وقرب الصفوف بعضا من بعض والحكم في قدره العرف"[25]، والشَّهيد الثاني: "وإنّما يُغتفر (التباعد بين) الصفوف المتّصلة إذا لم يؤدّ إلى تخلَّف المتأخّر عن الإمام بما يخرج عن اسم القدوة عرفًا"[26].
أقول:
صلاةُ الجماعةِ جماعةٌ لها محدِّداتها الشرعية، وإنَّما هي جماعة لجهة الاجتماع، إلَّا أنَّه اجتماع خاص بموضوعاته المُسْتَنْبَطَة، والأمارات على كونها مُسْتَنبَطة قائِمة؛ من أهمِّها تضييق الشارع وتوسيعه لمسافة التباعد محل الكلام، وهذا مانع من الإحالة إلى التحديد العُرفي.
وقد رفع المُحدِّثُ البحرانيُّ صوته في الردِّ على من يحيل الأحكام الشرعية إلى العرف، قائلًا: "ثُمَّ إنَّ العجبَ منهم (نوَّر اللهُ مراقدَهم) في هذا المقام في ارتكاب هذه التأويلات البعيدة والتَمَحُّلات الشديدة من غير موجب لذلك، فإنَّ ما ذهبوا إليه من الحوالة على العادة لا دليل عليه غير مجرَّد تخرُّصهم وظنِّهم، مع ما عرفتَ في غير مقام من ما تقدم ما في حوالة الأحكام الشرعية على العرف الذي لا انضباط له بالكلية، وهل هو إلا رد إلى جهالة لما يعلم من اختلاف الأقطار والبلدان في هذا العرف فان لكل قطر عرفا على حدة ، ثم انه من الذي يدعى الوقوف والاطلاع على العرف العام لجميع الناس في جميع الأقطار والأمصار حتى يرتب عليه حكما شرعيا أو أنه يجب الوقوف في الحكم حتى يحصل تتبع العرف أو أنه يكتفى بعرف كل بلد وإقليم على حدة ، ما هذه إلا تخرصات ظنية ومجازفات وهمية في أحكامه سبحانه المبنية على القطع واليقين والعلم (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) مع أنَّ الخبرَ المذكورَ صحيحٌ صريحٌ خالٍ مِنَ المعارض دالٌّ على الحكم المذكور بأظهر تأكيد؛ لقوله (عليه السلام) زيادة على ما قدمنا ذكره "ينبغي أن تكون الصفوف تامَّةً متواصلةً بعضها إلى بعض لا يكون بين الصفين ما لا يتخطى". و"ينبغي" هنا بمعنى الوجوب كما استفاض في الأخبار، وعليه صدر الكلام إلى أن قال (عليه السلام) أيضًا في الخبر "أيُّما امرأة صلَّتْ خلفَ إمامٍ وبينها وبينه ما لا يُتَخَطَّى فليس لها تلك بصلاة". وهل وقع في حكمٍ من الأحكام ما وقع في هذا الحكم من المبالغة بهذا التأكيد التام؟ ما هذا إلَّا عجبٌ عجيبٌ من هؤلاء الأعلام تجاوز الله عنَّا وعنهم في دار المقام"[27].
بعد ما تقرَّر، فإنَّ أصالة عدم سقوط القراءة على المكلَّف تقضي بكون ما نحن فيه من موارد الاحتياط.
تنبيهان:
الأوَّل: تردَّد بين الأعلامِ تقديرُ ما لا يتخطَّى بين الإرجاع إلى المتعارف والقياس بالوحدة المعتمدة، وتردَّد أيضًا في نفس وحدة القياس المعتمدة بين المتر الواحد والمتر والنصف.
الظاهر محاكاة ما لا يُتخطَّى، في العادة، لمربض الفرس، وهو غير ثابت ثبوت الوحدة القياسية إلَّا أن يُؤخذ فيها الاحتياط. فلا تغفل.
الثاني: ليس بخفي عدم طرو الاضطرار أو الضرورة المسوغة لتجاوز الحد الشرعي في التباعد؛ إذ إنَّ نفس هذا التجاوز ماح لهيئة الجماعة الشرعية، إلَّا أن يرد دليلٌ خاصٌّ، وهو مفقود.
فائدة:
استفاض عنهم (عليهم السَّلام) قولهم: "ولا تُخَالِفُوا فَيُخَالِفُ اللهُ بينَ قُلُوبِكُم"، بعد مثل: "أقيموا صُفُوفَكم وامْسَحُوا بِمَنَاكِبِكُم لِئَلَّا يكون فيكم خَلَلٌ"، والظاهر منها ذمُّ الفُرَج وعدم استواء الصفوف والمحاذاة بين المناكب ما قد يكون مقتضيًا إلى أن يُخالِف الله تعالى بين القلوب، وهذا من الأسباب الموغلة في الخفاء عن الأفهام، ومثلُ ذلك موجبٌ للحرص على الاحتياط والتزام حدوده دون أقلِّ تهاون؛ فمِلاكات هذه الأحكام والتحديدات شديدة الخفاء على فهم البشر، وإلَّا ما العلاقة بين "أقيموا صُفُوفَكم وامْسَحُوا بِمَنَاكِبِكُم لِئَلَّا يكون فيكم خَلَلٌ" وبين القلوب أن يخالف الله بينها إن خالف المُصلُّون في الصفوف بعدم مراعاة التحديدات الصريحة في النصوص الشريفة؟ فتأمَّل واحذر الغفلة.
............................
[1] - العروة الوثقى – السَّيد اليزدي- ج3 ص149 (تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي) – الطبعة الأولى
[2] - منهاج الصالحين – السَّيد السيستاني-، المسألة 795- ج1 ص245
[3] - منهاج الصالحين – السَّيد محمَّد سعيد الحكيم- المسألة 492 – ج1 ص287
[4] - مدارك الأحكام – السَّيد محمَّد العاملي- ج4 ص322
[5] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 - ص 385
[6] - دعائم الإسلام - القاضي النعمان المغربي - ج 1 - ص 156
[7] - رسالة الجهر بالتسبيح في ثالثة المغرب وأخيرتي الرباعية – الشَّيخ محمَّد ابن الشَّيخ أحمد آل عصفور الدُّرازي البحرانيُّ – ص101، تحقيق: أبو الحسن علي بن جعفر بن مكِّي آل جسَّاس
[8] - استقرب المُحقِّقُ أنَّه أراد بهذا البعض أخاه الشَّيخ يوسف صاحب الحدائق. وذكر شاهدًا عليه.
[9] - المصدر السابق ص108 - 109
[10] - تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 3 - ص 283
[11] - ثواب الأعمال - الشيخ الصدوق - ص 230
[12] - المسألة 796 من المنهاج
[13] - البيان - الشهيد الأول - ص 238 - 239
[14] - ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة - الشهيد الأول - ج 4 - ص 441 - 442
[15] - وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 8 - ص 422
[16] - الحدائق الناضرة – الشَّيخ يوسُف البحراني – ج11 ص166
[17] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 - ص 296
[18] - من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 386 - 387
[19] - تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 3 - ص 53
[20] - بحث بعنوان: الفاصل بين المصلِّين في صلاة الجماعة، لسماحة الفاضل الشَّيخ محمَّد العبيدان القطيفي
[21] - السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي -ابن إدريس الحلي- ج 1ص289
[22] - وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 8 - ص 409
[23] - الحدائق الناضرة – الشَّيخ يوسُف البحراني – ج11 ص100
[24] - شرائع الإسلام - المحقق الحلي - ج 1 - ص 93
[25] - البيان - الشهيد الأول - ص 135
[26] - حاشية شرائع الاسلام - الشهيد الثاني - ص 129
[27] - الحدائق الناضرة – الشَّيخ يوسُف البحراني – ج11 ص 106 - 107