تقريرات موجزة: درس (الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة) - الشيخ الحرُّ العاملي (قدِّس سرُّه) {5}.
الأستاذ: السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي.
المقرِّر: محمود أحمد سهلان العكراوي.
الباب التاسع من أبواب الكلِّيات المتعلقة بأصول الدين وما يناسبها - أن الله سبحانه إلهٌ واحدٌ لا شريك له في الربوبية:
{29} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن محمَّد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي، وعن علي بن إبراهيم، عن المختار بن محمَّدٍ الهمداني، جميعا، عن الفتح بن يزيد، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: سألته عن أدنى المعرفة؟ قال: الإقرار بأنه لا إله غيرُه، ولا شِبه له ولا نظير، وأنه قديمٌ مثبت، موجودٌ غير فقيد، وأنه ليس كمِثلِه شيء.
قال: "سألته عن أدنى المعرفة؟ فأجاب (عليه السلام): "الإقرار بأنه لا إله غيره". أدنى المعرفة أيْ أقربُها إليك وأقلُّ ما يجب عليك إن كنت تريد أن تكون من أهل المعرفة.
والإقرار هو الاعتراف، ويترتَّب عليه نفي الاضطراب، فلا يكون إقرارًا إلا عندما ينفي الاضطراب، وهو ما يؤدي لنفي الشكوك بالتسليم بالأمر.
والإله هو الذي يُقصد لكلِّ نقصٍ ليرفعه، وهو المُفيض بالغِنى مطلقا، والإقرار بأنه لا يُقصد غيره ولا يُتألَّه إلا إليه لكونه غنيًّا مطلقًا ومُفيضًا للغنى ورافعًا للنقائص.
قال (عليه السلام): "لا شِبه له ولا نظير"، وهذه من أصعب المسائل. لماذا؟
لأن تفكير الإنسان قائمٌ على الصور الذهنيَّة والقياس والمقارنة، فعندما تقول لا شِبه له ولا نظير فعلى ماذا أقيس؟ فكل ما شهدناه في حياتنا وما عشناه من تجاربٍ هي منطلقاتنا في التفكير.
الكلام في المسألة راجعٌ لقاعدةٍ عميقة، وهي: (الأشياء تُعرف بأضدادها)، وعمقها لرجوعها للقضيَّة الأوليَّة (اجتماع النقيضين وارتفاعهما مُحال)، فإذا عرفت أن لكلِّ شيءٍ شبيهًا عرفت أن هناك من لا شبيه له، فالمسألة موجودةٌ في أعماقنا.
قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ) [فصلت/٥٣]، أيْ أننا نجد توحيد الله خالصًا في أصل وجودنا وهو المحدوديَّة، فطالما أقررنا بالمحدوديَّة فنحن نُقرُّ باللامحدود، بالرجوع لقاعدة الأضداد.
قال (عليه السلام): "وأنه قديمٌ مُثبت"، يعني أن القول بأنه قديمٌ إنما هو عن دليلٍ وبرهان، وذلك ما نفهمه من قوله (مُثبت).
ملاحظتان:
الأولى: النزول عن أدنى المعرفة يُسهِّل وُرُود الشبهات.
الثانية: هذه الرواية أساسٌ في البحوث العقائدية.
{30} الرواية الثانية: محمَّد بن علي بن الحسين في كتاب التوحيد، عن محمَّد بن الحسن بن الوليد، عن الصفَّار، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): ما الدليل على أنَّ الله واحد؟ قال: اتِّصال التدبير وتمام الصُّنع، كما قال الله عزَّ وجل: (لَو كانَ فِيهما آلِهةٌ إلا الله لفَسَدَتَا) [الأنبياء/ 22].
قوله (عليه السلام): "اتصال التدبير وتمام الصنع" تفصيلٌ في عبارةٍ مختصرة، ويسمى اختزالًا، والتدبير متصلٌ فكل ما نفعله له أثره حتى لو لم نَلحظه، فأكثر الآثار على نحو الغالبية العظمى لا نعرفها.
قوله (عليه السلام): "كما قال الله عز وجل: (لو كانَ فيهِمَا آلهةٌ إلا الله لفَسَدَتا)". هذه تسمى فذلكةٌ، وهي الإجمال بعد التفصيل.
{31} الرواية الثالثة: وعن عبد الواحد بن محمَّد بن عُبدوس، عن علي بن محمَّد بن قُتيبة، عن الفَضْل بن شاذان، قال: سأل رجلٌ من الثنويَّة أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وأنا حاضر، فقال له: إني أقول: إنَّ صانع العالم اثنان، فما الدليل على أنه واحد؟ فقال: قولك إنه اثنان، دليلٌ على أنه واحد، لأنك لم تدَّع الثاني إلا بعد إثباتك للواحد، فالواحد مُجمعٌ عليه، وأكثر من واحدٍ مختلفٌ فيه.
جواب الإمام مسكتٌ للسائل كفردٍ بلا شك، لكنه جوابٌ جدليٌّ بالمستوى الأول على قدر السائل، ولو ناقش السائلُ الإمامَ (عليه السلام) لانتقل الإمام لمستوًى آخر من الجدل والجواب. وهو -في الواقع- جوابٌ يفيدنا في مسألة أصالة البراءة، فالأول القدر المتيقَّن والثاني يحتاج إلى دليل.
ولكنْ، هذه الرواية لا تصلح للإدراج في كتاب الفصول لأنها لا تُعطي قاعدةً كلِّيةً في بابها.
{32} الرواية الرابعة: وعن جعفر بن عليِّ بن أحمد الفقيه، عن عَبدان بن الفضل، عن محمَّد بن يعقوب بن محمَّد الجعفري، عن محمَّد بن أحمد بن شُجاع الفَرْغاني، عن الحسن بن حَمَّاد العنبري، عن إسماعيل بن عبد الجليل البرقي، عن أبي البختري وَهْب بن وَهْب القُرَشي، عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) في حديث: أنَّ عليًا (عليه السلام) قال: رأيت الخَضِرَ في المنام قبل بدرٍ بليلة، فقلت له: علِّمني شيئًا أُنصَر به على الأعداء، فقال: قل: يا هو، يا مَن لا هُوَ إلا هُو، فلمَّا أصبحت قَصَصتُها على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال لي: عُلِّمتَ الاسم الأعظم، إلى أنْ قال: قال الباقر (عليه السلام): الأحد الفرد والأحد والواحد بمعنًى واحد، وهو المُنفرِد الذي لا نظير له، والتوحيدُ الإقرارُ بالوَحدة وهو الانفرادُ والواحدُ المتباين الذي لا ينبعث من شيءٍ ولا يتَّحِد بشيء، ومن ثَمَّ قالوا: إنَّ بناء العدد من الواحد وليس الواحد من العدد، لأنَّ العدد لا يقع على الواحد بل يقع على الاثنين.
قال (عليه السلام): "الأحد الفرد والأحد والواحد بمعنًى واحد". نحن نقول أن الواحد يختلف عن الأحد فهل قول الإمام (عليه السلام) أنهما بمعنًى واحدٍ فيه إشكال؟
كلَّا، لا إشكال فيه ولا ينقض ما نقول فهما بمعنًى واحد، مع اختلافهما في حيثيةٍ معيَّنة، فالأحد يطرد غيره فلا يكون له ثانٍ، والواحد لا يطرد غيره.
قال (عليه السلام): "والواحد المتباين…" أيْ الذي لا يقبل قُرب أحدٍ مطلقا.
قال (عليه السلام): "إنَّ بناء العدد من الواحد وليس الواحد من العدد، لأنَّ العدد لا يقع على الواحد بل يقع على الاثنين". لا يكون الله بما أنه واحدٌ في عَرضِ هذا الوجود لأن الواحد ليس من الأعداد، فهي تبدأ من الاثنين، ولولا هذا الواحد لما وُجِد هذا الوجود.
من القواعد التي وردت في الرواية:
- التوحيد هو الإقرار بالوَحدة.
- الله تعالى متباين، لا ينبعث من شيءٍ ولا يتحد بشيء. وهي راجعةٌ للقِدَم والتباين.
الباب العاشر من أبواب الكلِّيات المتعلقة بأصول الدين وما يناسبها - أنَّ الله سبحانه لا يشبهه شيءٌ من المخلوقات في صفةٍ ولا ذاتٍ ولا يشبه شيئًا منهم:
{33} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن محمَّد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، قال: سألت أبا جعفرٍ يعني الثاني (عليه السلام) عن التوحيد، فقلت: أَتوهَّم شيئا؟ فقال: نعم، غيرَ معقولٍ ولا محدود، فما وَقَعَ وَهمُك عليه من شيءٍ فهو خِلافه، لا يُشبِهه شيءٌ ولا تُدرِكه الأوهام، وهو خِلافُ ما يُعقَل وخِلافُ ما يُتصوَّر من الأوهام، إنما يُتوَهَّم شيءٌ غيرُ معقولٍ ولا محدود.
سُئل الإمام عن إمكان توهُّم الله تعالى فأجاب بنعم، لكنه بيَّن طبيعة هذا التوهُّم، وقال "غير معقولٍ" أي لا يتصوَّره الذهن، "ولا محدودٍ" أيْ لا جنس له ولا فصل.
طبيعة تفكير الإنسان قائمةٌ على المقارنة والمقايسة -كما أشرنا- ودونهما يتعطَّل التفكير، وهي مسألةٌ مهمَّةٌ في كلِّ العلوم، لذلك لا نقبل القول أن الذهن يكون صفحةً بيضاء عند ولادة الإنسان، على تفصيل في محلَّه.
طبيعة العلم الذي تتوهَّم به الله هي الطَّرد، فهو يطرد كل متوهَّمٍ ومحدود، فالله تعالى هو الضد الثابت وباقي الأضداد مفروزةٌ عنه بالضرورة.
قال (عليه السلام): "ولا تدركه الأوهام وهو خلاف ما يُعقل"، فهل هو يُدرك وننفي إدراك الأوهام له؟
في مقام الجواب نقول: الفروض التي نفرضها على ضربين:
الأول: أن نفرض فرضًا ممكنًا فنثبت آثاره ولوازمه إن وُجِد.
الثاني: أن نفرض محالًا لنثبت استحالة لوازمه وآثاره.
الآن نقول -والفرض من القسم الثاني-: لو كان هناك وجودًا أعظمَ من الله تعالى لأدركه، ولكن إدراكه ممنوعٌ على مَن هو دونه، ولا يوجد ما هو أعظم منه، فلا يمكن إدراك حقيقته.
تنبيه:
عدم توهُّمه وإدراك حقيقته، لا ينفي عنه الشيئية، وهو أمرٌ وقع فيه البعض فأوقعه في بعض الانحرافات.
{34} الرواية الثانية: وعن محمَّد بن أبي عبد الله، عن محمَّد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن الحسن بن سعيد، قال: سُئِل أبو جعفرٍ الثاني (عليه السلام): يجوز أنْ يُقال لله إنه شيء؟ قال: نعم، يُخرِجه عن الحدَّين، حدُّ التعطيل وحدُّ التشبيه.
هناك أمورٌ في قضايا العقيدة لازمة، إنما أراد الإمام إظهارها لا التأسيس لها، من ذلك مثلا: أن مجرد السؤال دليلٌ على وجود الله، فكلما ثبت لديك نقصٌ دلَّ على وجود الله، وسؤالك عن شيءٍ دليلٌ على نقصك وعلى أنك مُحاطٌ بك، وهذه هي طبيعة المحدود، ولا يكون الشيء محدودًا إلا في قبال ما لا حدَّ له. ودليل ذلك برهانيٌّ وهو بُطلان التسلسل، حيث إن كلَّ مُحاطٍ مُحاطٌ بما يُحيط به ويتسلسل ما لم نقل باللامحدود، وكلما سألنا وتصاعدنا في الأسئلة والإجابة ولم نصل للمُحيط مطلقًا بكل السائلين وقعنا في التسلسل وهو باطل، ولازم هذا وجود المطلق.
المشكلة أنه وبالرغم من أنني أسأل وفيه إقرارٌ بنقصي إلا أنني أنتهي إلى قياس المطلق على الناقص، فإما أن أشبِّه أو أعطِّل، ومرجعه للقياس على الناقص.
الله سبحانه وتعالى عالمٌ محيطٌ بكلِّ شيء، وعالمٌ بمآل الأمور، أما الإنسان فهو محتاجٌ فلا بد له أن يتحرك لسدِّ هذه الحاجة. إذًن -كما يقع البعض في الإشكال- الله لا يفعل شيئًا لأنه غير محتاج، وبالتالي فحياتنا كلها وهمٌ في وهم، وهذا هو حدُّ التعطيل.
الحدُّ الثاني هو حدُّ التشبيه، فيقيس الإنسان الله على المخلوقات، ويحاول بعض المحاولات بالاعتماد على تصوُّراته وقياساته، فيقول مثلا: أنه يجعل قدمه في النار، أو أنه ينزل إلى السماء الأولى، وغيرها من المقولات الباطلة.
هذا التنزيه في الرواية عن هذين الحدَّين هو دفع الأضداد مع الإقرار بأنه شيء، وقوله (عليه السلام): "يخرجه من الحدين" يعني أنه يُخرج ما في ذهنه عن الله.
{35} الرواية الثالثة: وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العبَّاس بن عمرو الفُقيمي، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث، قال: ولكنَّا نقول: كلُّ موهومٍ بالحوَّاس مُدرَكٌ تحدُّه الحواس وتُمثِّله، فهو مخلوق، إذ كان النفي هو الإبطال والعدم، والجهة الثانية التشبيه، إذ كان التشبيه هو صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف، فلم يكن بدٌّ من إثبات الصانع لوجود المصنوعين والاضطرار إليهم أنهم مصنوعون وأن صانعهم غيرُهُم وليس مثلَهُم، إذ كان مثلُهُم شبيهًا بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم، إلى أن قال: ولكن لا بد من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه، لأن مَن نفاه فقد أنكره ودفع ربوبيته وأبطله، ومن شبَّهَه بغيره فقد أثبته بصفة المخلوقين المصنوعين الذين لا يستحقُّون الربوبية.
قاعدة: كل ما نتوهَّمه بالحواس مُدرَكٌ بها فهو مخلوق.
المرتبة الأولى هي الإدراك الإجمالي، وهذا لا يكون إلا بعد أن يكون محدودًا في ذهني بجنسه وفصله القريبين حتى لو لم أُميِّزهما، وأما المُمتنع عن الإدراك لا يمكن أن يُتوهَّم، فكل مُدركٍ محدَّدٌ بتحديدات تعريفية، ونفي الماهية هي الإبطال والعدم، وهذا هو حدُّ التعطيل.
أما في حدِّ التشبيه فنقول: يمكن لي أن أركِّب صورًا لرجلٍ بعدَّة رؤوسٍ وعدَّة أيد، وهو مجموع صورٍ ذهنيةٍ فهذا ممكن، وإن لم يقع في الخارج، وتركيب الإله بهذه الكيفية باطل، ولمَّا وجدنا أن المخلوقين على هذه الهيئة من التركيب عرفنا أنه لا بد من وجود الخالق.
تنبيه:
ما هو المراد بنفي الصفات عنه؟ المقصود بها نفي الصفات العارضة عنه، كالتي تعرض على الإنسان من طولٍ وقِصرٍ وغيرهما، فإذا قلنا صفاته عين ذاته لا تناقض فيه، فالمسألة راجعةٌ لضيق العبارة، فلو لم نستعمل لفظ (صفة) ماذا نستعمل غيره؟
وهذه الرواية محلُّ الكلام مفصِّلةٌ للرواية السابقة.
{36} الرواية الرابعة: قال الكليني: وسُئِل أبو جعفرٍ (عليه السلام) عن الذي لا يُجتزى بدونه من معرفة الخالق؟ فقال: ليس كمثله شيءٌ ولا يُشبهه شيء، لم يزلْ عالمًا سميعًا بصيرا.
هذه الرواية متعقِّبة لروايةٍ مسندةٍ إلى الإمام الكاظم (عليه السلام) في الكافي. وهنا مسائل:
الأولى: لو كان عندي عشرُ رواياتٍ تتحدث عن حكمٍ واحدٍ لموضوعٍ واحد، وبدأت أناقش كلَّ روايةٍ على حدى، فوجدت الأولى مرسلة، والثانية فيها رجلٌ ضعيف، والثالثة تحوي المجاهيل، وهكذا بقية الروايات، بهذه الطريقة أنتهي إلى صفرٍ من الروايات، ولكن إن قلت أن عندي طرقًا متعددةً تتحدث عن موضوعٍ واحدٍ بأحكامٍ متوافقةٍ كالوجوب والاستحباب مثلا، ومع ما في أسنادها من مشكلاتٍ ألا يعطي ذلك احتمالًا أن الموضوع تحدث عنه أهل البيت (عليهم السلام)؟ هذا ما يسمى بفقه الحديث. هذا إذا كنت ممَّن يحاسب الروايات بمعيار السند فقط، وإلا فسقوط السند ليس إلا فقدانٌ لواحدةٍ من المعايير والقرائن المرتبطة بقوة الحديث، لا كل القرائن، وهذه الرواية التي ذكرها الشيخ الكليني تتحدث عن نفس الموضوع الذي ذكره في الرواية التي سبقتها عن الكاظم (عليه السلام) كما قلنا، والروايتان جاءتا في عصرين مختلفين، فالأولى في زمن الكاظم (عليه السلام) والثانية في زمن الجواد (عليه السلام) كما يبدو، ولو رفضنا الرواية الثانية للإرسال لفقدنا مادَّةً علميةً تاريخية.
الثانية: يرى العلماء أن الإرسال عيبٌ في السند، بل هو عيبٌ خطير، فالإرسال يجعلنا نتساءل كيف وصلت الرواية للمُرسل؟
الآن نسأل: لماذا نقل المحمَّدون الثلاثة الروايات المرسلة في كتبهم، مع أنهم في عدَّة أماكن من كتبهم ناقشوا الروايات بالإرسال والمشاكل السندية؟
ينبغي الالتفات إلى أن الإرسال حاله ليس واحدًا من كل رجل، فإنْ أرسل الثقة قد يكون ذلك من مصلحة الرواية أكثر من الإسناد لأنه يعلم أن الإرسال عيب، لكن هذا الثقة بإرساله كأنه يقول أنا قمت بمهمة التحقيق في السند وكفيتكم المُؤنة، بخلاف ما لو كان المُرسِل ضعيفًا أو مجهولًا أو ما شابه.
الثالثة: الرفع: وهو أن يرفع الراوي قيمة الحديث برفعه إلى من يدَّعيه أو إلى الإمام (عليه السلام) مباشرة، وكذا من عبَّر بـ (قال) فهذا التعبير بقوة الرفع، ومثل ذلك ما قيل في الشيخ الصدوق من التفريق بين قوله (قال) وبين قوله (قيل) أو ما شابه، ولا بد من ملاحظة أن الطعن في الرفع هو طعنٌ في الراوي فتأمل. نعم، قد تُرفض الرواية المرسلة بالنظر لمبنى الفقيه في المسألة، لكن تكذيبها مشكل.
الرابعة: طاهر بن حاتم، وكذلك علي بن حمزة البطائني، وكذا غيرهما انحرفوا عن الجادة، ولكن يوجد لدينا أكثر من رواية تُفيد معنى خذوا ما رَوَوا حال استقامتهم، فلا ينبغي أن نضرب الرواية مباشرةً حال وجود رجلٍ منحرفٍ في سندها، بل نحتاج للمراجعة وملاحظة زمن انحرافه وغيرها من الحيثيات.
في السؤال: (الذي لا يُجتزى بدونه في معرفة الخالق)، وهو الأمر الذي مهما عرفت من المعارف لا يفيد شيئًا ما لم تعرفه.
في تتمة الرواية، نقول: مرَّ الكلام في ليس كمثله شيءٌ ولا يشبهه شيءٌ فراجع.
أمَّا في قوله (عليه السلام): "لم يزلْ عالمًا سميعًا بصيرا"، فنُمهِّد بالتالي: هناك مسألةٌ تطرأ كثيرًا في الذهن، وهي: أنا كإنسان أتحدث وأسكت وأتحدث وأسكت وهكذا، فهل هذا الكلام والسكوت يتردد على الله بمعنى أنه يعرض عليه مثلنا؟
مثالٌ لتقريب المسألة: عندما خرج الفضائيون خارج الخلاف الجوي صارت العين لا حاجة لها، فإذا أغمضوا عيونهم يرون ما تراه العين والحال أنها مغلقة، وقد قلنا في دروسنا أن الجوارح من شأنيات هذه النشأة، وبخروجك من هذه النشأة تكون الجوارح لا معنى لها فالعقل هو الذي يرى، لكنك محجوبٌ في هذه النشأة فتحتاج للجوارح. فما نحتاج لبيانه بالتلفظ والكتابة، وكذا المعلوم عندنا، كله حاضرٌ عند الله، وشأنيات هذه الدنيا كلها حاضرةٌ عند الله تعالى كذلك.
{37} الرواية الخامسة: وعن علي بن محمَّد، ومحمَّد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن بِشر بن بشَّار، قال: كتبتُ إلى الرجل: أنَّ من قِبلنا قد اختلفوا في التوحيد، منهم من يقول: جسم، ومنهم من يقول: صورة، فكتب إلي: سبحان من لا يُحدُّ ولا يوصف ولا يشبهه شيءٌ وليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير.
قد يُتوهَّم أن المقصود من قول بِشر: "أن من قبلنا"، يراد به الشيعة، لكنه ليس كذلك بالضرورة، فالمقصود مَن هم بجوارهم أو محلَّتهم أو ما شابه، ويدلُّ عليه بعض الروايات التي وردتْ فيها نفس العبارة وكان المقصود منها أبناء العامَّة.
المقصود من قوله (عليه السلام): "لا يُحد" أنه لا يميَّز بحدٍّ عن غيره، وإن كان غيره يميَّز عنه. أما باقي المعاني الواردة في الرواية فقد مرَّ بيانها.
{38} الرواية السادسة: المفضَّل بن عمر في كتاب التوحيد الذي رواه عن الصادق (عليه السلام) في حديثٍ طويلٍ قال في صفة الله: لم يستترْ بحيلةٍ يخلُص إليها كمن يحتجب عن الله بالأبواب والستور، وإنما معنى قولنا إنه استترَ أنه لطُف عن مدى ما تبلغه الأوهام كما لطُفت النفس وهي خلقٌ من خلقه وارتفعت عن إدراكها بالنظر، إلى أنْ قال: لأنه لا يليق بالذي هو خالق كلِّ شيءٍ إلا أنْ يكون مباينًا لكلِّ شيءٍ متعاليًا عن كلِّ شيء، سبحانه وتعالى.
المراد من الحيلة ليس الخديعة كما قد يتبادر للبعض، بل المراد أن يجد لنفسه حلًّا لأمرٍ يريده، فيصنع أمرًا زائدًا يحقِّق به غرضه، وهو هنا الاستتار.
أمَّا القرب من الله فيقُرب المخلوق من الله تعالى كلما خلُص له، وليس القرب ماديًا كما هو واضح.
نعم، يدرك الإنسانُ الله لكن لا كإدراكه لسائر المخلوقات بالحواس، فالله سبحانه وتعالى بعُد فلا تدركه الأبصار وقرُب فسمع النجوى، وكلما اقترب العبد من الله ميَّزه لكن لا بالحواس والأوهام، فالبُعد والاستتار إنما هو عن الأوهام، وقال: "لطف" أي امتنع عن التمييز. ومثَّل الإمام (عليه السلام) للُّطف بالنفس مع أنها خلقٌ من خلق الله، لأنها ارتفعت عن مدركات البصر.
قوله (عليه السلام): "لأنه لا يليق بالذي هو خالق كلِّ شيءٍ إلا أنْ يكون مباينًا لكلِّ شيءٍ"، وإثبات المباينة مطلقًا يثبت عدم إمكان إدراكه، لأن الممايزة والمقارنة تعتمد على التمييز عن المجانِس له كما هو حال الأجسام، فيمكننا إبصارها لوجود حجمٍ وحدٍّ لها ويمكن ممايزتها عن غيرها مما يجانسها.
أبواب الكلِّيات المتعلقة بأصول الدين وما يناسبها - ب11 - أنَّ كلَّ مخلوقٍ دالٌّ على وجود خالقه وعلمه وقدرته وأنَّ لنا أنْ نستدلَّ بذلك:
معنى الباب أنه يمكن الاستدلال على الخالق عن طريق المخلوق، وهي قاعدةٌ في الاستدلال العقائدي، وسننظر في الروايات المذكورة إن كنَّا نتمكَّن من استفادة هذا منها.
{39} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، قال: حدثني عدَّةٌ من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد البرقي، عن أبيه، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن داود بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: كفى لأولي الألباب بخلق الربِّ المسخَّر وملك الربِّ القاهر وجلال الربِّ الظاهر ونور الربِّ الباهر وبرهان الربِّ الصادق وما أنطق به ألسن العباد وما أرسل به الرسل وما أنزل على العباد، دليلًا على الربِّ عزَّ وجل.
هناك فرقٌ بين قولنا (أولو الألباب) وقولنا (أولو العقول)، فأولو الألباب هم أولو العقول الراجحة، لا أيَّ عقول، فهم الذين تخلَّصوا من أيِّ تأثيرٍ غير العقل في فهمهم، فكلُّ قواهم تكون مع عقولهم.
قد يُشكَل بأن الإمام (عليه السلام) كأنه قال: إذا لم تلتزم بما قلتُ فأنت لستَ من ذوي الألباب، لكن الأمر ليس كذلك، إنما كلامه تحفيزٌ لبلوغ هذه الدرجة.
أمَّا قصده ممَّا ذكره من أدلةٍ بقوله: "بخلق الرب المسخر وملك الرب القاهر ... دليلا على الرب عز وجل"، فهو أن هذا طريقٌ للاستدلال على وجود الرب.
تنبيه:
الكلام بشكلٍ عامٍّ يختلف فهمه بحسب المتلقي، فقد يفهمه من أول مرةٍ ويعجب به كما هو حال أولي الألباب مع كلام الإمام المذكور، وقد يحتاج للإعادة والتوضيح، وقد يأتي من يُشكِل ويعارض حتى لو كان الكلام في نفسه واضحا.
مَن يكون مِن أولي الألباب يكتفي بمثل الملاحظات التي ذكرها الإمام (عليه السلام)، فإنه يرى بوضوحٍ أن كل شيءٍ يؤثِّر في غيره، سواء كان على المستوى التكويني أو غيره، وهذا التأثير الواضح دليلٌ على وجود واضعٍ له.
قال (عليه السلام): "ملك الله القاهر". في الواقع تنقسم المِلكية إلى حقيقيةٍ واعتبارية، والمِلكية الحقيقية تعني عدم زوال مِلك المالك، أما الاعتبارية فتنتقل وتزول، ومِلك الله تعالى حقيقي، قال تعالى: {إنَّا لِلهِ وإِنَّا إِليهِ رَاجِعُون} ]البقرة/ 156[، فنحن وكلُّ ما نملك هو بيد الله يتصرَّف فيه كيف يريد، فانظر مثلًا ما يفرض الله على العباد في شهر رمضان من أمور، فيمتنع الزوج عن زوجه، ويمتنع عن أكل وشرب ما يملك، وغير ذلك، فمِلكه تعالى قاهرٌ لكل مِلكٍ اعتباري، وأولو الألباب يُدركون هذه المسائل.
قال (عليه السلام): "جلال الربِّ الظاهر"، والجلال هو العظمة المتناهية التي لا يعلوها شيء، فمهما ارتفع الأمر في الجانبين الإيجابي والسلبي فإن الإنسان يشعر ويعلم بوجود قوةٍ أعلى، فحتى لو تجبَّر وبلغ أشدَّ ما يمكن فإنه يعلم بذلك، ولذلك هو يتحصَّن ويحتاط، ومهما تعرَّض الفرد للمصيبة أو الذلَّة يبقى يتعلق أمله في شيءٍ يخرجه ممَّا هو فيه، وهذا الشعور موجودٌ عند كلِّ إنسان، وهذا الجلال ظاهرٌ فمَن لا يلتفت إليه فهو أعمى بصرٍ وبصيرة.
قال (عليه السلام): "ونور الربِّ الباهر"، فإن أصل هذا الوجود نور، وكل شيءٍ في هذا الوجود دالٌّ على وجود الله تعالى، والنور مصدر العلم والمعرفة والوجود، فبالنظر في هذه الموجودات نرى نور الله تعالى ووجوده.
قال (عليه السلام): "وبرهان الربِّ الصادق". إنَّ أخشى ما يخشاه العقلاء موجات الحداثة وتيَّاراتها، ونحن في الحوزة نحاول دائمًا معالجة أيّ احتمالٍ لحدوث تضارباتٍ بنفس الطالب، فنتحدَّث كثيرًا وبشدَّةٍ عمَّا يخالف طبيعة الإنسان، فمن يتصوَّف مثلًا ثم يريد أن يعيش الحياة الطبيعية للإنسان، نقول: هذا غير ممكن، وهذه التناقضات من أسوء ما يُخشى على الإنسان، فالانحرافات التي تبتني عليها تكون شديدةً جدا.
وعندما نخرج من الذات ونراقب هذا الوجود نجده يسير على قانونٍ لا يمكن أن يتغير، وعندما يعبث الإنسان في هذه الدنيا فهو لا يعبث بالقانون بل بالمسارات المبنيَّة عليه، فأراد الله تعالى للإنسان أن يسير بمساراتٍ معينة، وأيُّ خروجٍ عنها لا يخرجه عن القانون لكنه يغيِّر مساراته، فكل شيءٍ يسير في قانونٍ جعله الله مُحكمًا ومحكَّما، فهذه الجهة بالذات دالَّةٌ صادقةٌ على وجود الله تعالى.
قال (عليه السلام): "وما أنطقَ به ألسُنَ العباد". في شرح المازندراني (رضوان الله عليه) لأصول الكافي، علَّق الميرزا أبو الحسن الشعراني في الحاشية على الشرح، فقال: "أما ما قاله المازندراني، قال: المراد به اللغات المختلفة الدالة على وجود القادر المختار كما قال سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِيْ ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) ]الروم: 22[، فجعل الاختلاف في الألسن والألوان آيةً من آياته عزَّ وجل، أو المراد به آلات النطق من العضلات ومخارج الحروف والأصوات، أو المراد به ما نَطَق به العباد الهادين للخلق من الكلام المشتمل على الحكمة البالغة والنصيحة الكاملة التي بها يهتدون إلى طريق الهداية ويجتنبون سبيل الضلال". لكننا نختلف مع هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرها المازندراني، أما الشيخ المجلسي (قدس سره) فقد ذكر احتمالين آخرين: "الأول: الاحتجاج باتفاق الأنبياء والأوصياء والعلماء والحكماء بل كافَّة العقلاء على وجود الصانع، فيحصل العلم الضروري بوجوده، والاحتمال الثاني دعاؤهم وتضرُّعهم والتجاؤهم إلى الله تعالى في الشدائد والمِحَن بمقتضى فطرة عقولهم، وهذا يدلُّ على أن عقولهم بصرافتها تشهد بخلقهم ومفزعهم في كلِّ شدائدهم، وهذا الوجه الأخير قويٌّ جدا"، وهو ما نتفق معه.
بيانه:
الإمام (عليه السلام) قال: "وما أنطقَ به ألسُنَ العباد"، فالفاعل هو الله سبحانه وتعالى، والفاعل الثاني هو الإنسان بفعل الله عزَّ وجل، فعندما أتحدَّث الآن فأنا أنطق ولكن المُنطِق ليس الله تعالى، ربما يكون والعياذ بالله الشيطان، وربما يكون باجتهاداتي الخاصة، فأُخطِئ وأُصيب، ويتفاوت هذا من واحدٍ إلى آخر، ولكن هناك ما ينطق به الإنسان ويكون أمرًا واحدًا عند الجميع وإن اختلفت الألسن والثقافات والعقليات، فإن هناك مدلولات واحدة تنطق بها الألسن على اختلاف لغاتها وتوجُّهات حَمَلَتها، هذه الالفاظ الدالة على المعنى الواحد يكون المُنْطِق فيها هو الله سبحانه وتعالى، وهذا مما يدلُّ عليه عزَّ وجل، على اعتبار أن الدافع والمنشأ هي الفطرة السليمة، فجواب الإمام عامٌّ كما في الرواية التالية، ولاحظ أنه ليس هو المتيقِّن كفردٍ بل كل فرد، فعندما تأتي لهذه الأدلة الواضحة القاطعة كجواب الإمام (عليه السلام) في رواية ركوب السفينة مثلا، فمحاولة النجاة في عرض البحر لا يكفي لها عضلاتك وقدراتك، فبماذا تتمسك حينها؟ وهذا الأمل الذي تتمسك به هو الله مهما اختلفت الثقافات واللغات، فمن يمارس شيئًا خلاف الإيمان يُوصف بالجاحد، كما قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاستَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُم) ]النمل: 14[، وهذا الجحود ملازمٌ لليقين الذي بداخلهم. هذا الاحتمال الخامس ذكره الشيخ المجلسي واستشهد بمسألة الدعاء والتضرُّع، وقد عمَّمنا الموضوع ليشمل كل ما يتعلق بالله تعالى.
قال (عليه السلام): "وما أرسلَ به الرسل". قال بعض الشُّرَّاح أنها الخوارق والمعجزات والكرامات، ولكن لا أرى أن الله تعالى أرسل الرسل بها، فلو آمن الناس بالحُجَّة والبرهان لما احتاج الأنبياء إلى المعجزة أو ما شابه، بل الله تعالى أرسل الرسل برسالةٍ واحدة ودعوةٍ ذات طبيعةٍ واحدة، موضوعها توحيد الله والإيمان بالغيب والتكافل الاجتماعي والإيمان بالرسل، ونحو ذلك، ووجوب الإيمان بباقي الرسالات ليس إلا لأنها ذات طبيعةٍ واحدة، وإن كنتَ مطالبًا بتطبيق شريعتك أنت.
تنبيه:
في مسألة الأساطير وما اتُّهم به رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وما وقع بعضنا في شِراكه أيضا، نقول: عندما يُقال بأن ما جاء به رسول الله مأخوذٌ من أديان الهند والصين فهي تهمةٌ قديمة، وقد دوَّنها وأثبتها القرآن الكريم، لكن عندما تأتي اليوم بكلمة أساطير الأوَّلين وتعطيها للعلماء الخبراء المختصِّين في علوم الأحفوريات والمنحوتات، يجدون فيها ما نقول به اليوم، ودونكم الاطلاع على الأساطير كملحمة جلجامش وغيرها، ستجدون حينها كثيرًا مما نحن عليه اليوم، وفي الواقع هذا تبانٍ على الإيمان وإن انحرف البعض، ما دام لم يكن تقليدًا للكفَّار فما المشكلة، وليس الأمر أكثر من تبانٍ فكري.
قال (عليه السلام): "وما أنزلَ على العباد". قالوا بأن المقصود هو المطر، كما ذهب إليه المازندراني، على اعتبار أن هذا الماء هو سرُّ الحياة، ونحن لم نرتضه، أما السياق وما أنزل على العباد فربما نقول خيراتٌ واحدة، ولا تنظروا إلى عِرقٍ هنا أو هناك، أو أن هنا خيرٌ وهناك خير، ولكن الأقرب ربما ما أنزل على العباد ممَّا جاء به الرسل، فيتعرَّضون جميعًا لدعوةٍ واحدة، وهي التوحيد، فالمسألة راجعةٌ إلى الوِحدة التي لا دخالة فيها لنفس هذا الإنسان، فهناك دعوةٌ إلى الله وللإيمان بالغيب، وهي نازلةٌ على العباد عن طريق الرسل، وهناك أمرٌ آخر وهو أن ما يتعرَّض له الإنسان نازلٌ من الله تعالى، وهذا أيضًا لا يفرق بين أبيض وأسود أو عربيٍّ وأعجميٍّ وغير ذلك. وما مرَّ كله دالٌّ على الله عزَّ وجل.
فائدة:
إننا نرى أن جمع (عبد) على عبيدٍ أو عِبادٍ يعطي معنًى مختلفا، فالجمع على (عبيد) هو لعامَّة الناس، بينما الجمع على (عباد) خاصٌّ بالمؤمنين منهم، ويمكن مراجعة ذلك في رسالتنا براءة المطمئِّن. وبالتالي ما أنزل على العباد يكون خاصًّا بمن آمن بالرسل لا كل العبيد.
نسأل: لماذا قال على الرب، ولماذا قال عزَّ وجل؟
يريد أن يبين أن المراد ليس التألُّه وأنه المعبود فلم يقل (الله)، لأنه ليس في هذا المقام، بل في مقام الدلالة على المدبِّر والمتسلِّط، وهو الرب، ثم قال (عزَّ وجل) تنزيهًا له عنكم كمخلوقات.
{40} الرواية الثانية: محمَّد بن علي بن الحسين في التوحيد والأمالي وعيون الأخبار، عن أحمد بن محمَّد بن يحيى، عن سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن هاشم، عن علي بن معبد، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه دخل عليه رجلٌ فقال له: ما الدليل على حدوث العالم؟ فقال: أنت لم تكنْ ثم كنتَ وقد علِمتَ أنك لم تكوِّن نفسَكَ ولا كوَّنكَ من هو مثلك.
يقول الإمام (عليه السلام) أنت دليلٌ على حدوث العالم، وأظهر للرجل الوجه في ذلك بأمورٍ ثلاثة: أولا: ما كنتَ ثم كنت، ثانيا: وتعلم أنك لم تُكوِّن نفسك، ثالثا: ولم يكوِّنكَ من هو مثلك. وبما أنك جزءٌ من هذا العالم، وهذا الحكم الذي هو للجزء يلحق بالكل، فإذا جئت وطبَّقت على الأجزاء الموجودة نفس القاعدة، تحصل على نفس النتيجة، وهو شبيهٌ ببرهان بطلان التسلسل، ولانطباق القاعدة على عموم المفردات كان لها حكم الكلِّي، فكل الموجودات يثبت لها حكم الحدوث.
{41} الرواية الثالثة: وفي التوحيد وعيون الأخبار، وعن محمَّد بن علي ماجيلويه، عن عمِّه، عن أبي سَمينة محمَّد بن علي الكوفي الصيرفي، عن محمَّد بن عبد الله الخُراساني خادم الرضا (عليه السلام)، قال: دخل رجلٌ من الزنادقة على الرضا (عليه السلام) وذكر الحديث، إلى أنْ قال الرجل: فما الدليل عليه؟ قال أبو الحسن (عليه السلام): إنِّي لمَّا نظرتُ إلى جسدي فلم يمكنِّي فيه زيادةٌ ولا نقصانٌ في العَرْضِ والطولِ ودفع المكاره عنه وجرِّ المنفعة إليه، علمتُ أنَّ لهذا البنيان بانيًا فأقررتُ به، مع ما أرى من دوران الفَلَك بقدرته وإنشاء السحاب، وتصريف الرياح، ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المُحكَمات المتقنات، علمتُ أنَّ لهذا مقدِّرًا ومُنشأً، الحديث.
تنبيه:
إذا لم يُذكَرْ في الرواية مَن هو هذا الزنديق فيمكن أن نفهم مستواه من جواب الإمام (عليه السلام)، لأن الإمام (عليه السلام) دون شكٍّ يراعي حال المخاطب، فهي مسألةٌ عرفيِّةٌ عامَّة، واختيار الجواب بالحلِّ أو النقض أو بما يراه الإمام (عليه السلام) يكون بالبناء على هذه المسألة.
قال (عليه السلام): "إني لمَّا نظرتُ ... فأقررتُ به"، وأراد الإمام بيان أن عجز الإنسان وعدم قدرته على التصرُّف في نفسه يُخبِره بوجود الباني له والخالق، وإن تمكَّن الإنسان من بعض التصرفات في حدودٍ معيَّنةٍ فهو يبقى في داخل القانون الذي جعله هذا الخالق وهو الله تعالى.
ولكن هل للإنسان قدرة؟ نعم للإنسان قدرةُ محدودة، وليست له القدرة القاهرية التي اختصَّ بها الخالق، ولذلك نجد قدرته تجري في التقديرات والقوانين الكونيَّة الإلهيَّة ولا يمكنه الخروج منها، فهي محيطةٌ به مُحكمةٌ مطلقًا.
قال (عليه السلام): "مع ما أرى ... منشأ". ما الذي نستفيده من هذا الكلام؟
في الحقيقة هو القانون الذي مرَّ بيانه سابقا، فالدَّال على المُقدِّر والمنشئ ليست نفس هذه المظاهر والتجانس بينها، بل الدالُّ هو الأمر الذي جعلها هكذا، فلماذا لم تكن على هيئةٍ أخرى وترتيبٍ آخر؟
مهما فعل الإنسان ولو وصل لطريقةٍ يُحيي بها الموتى فهو لن يخرج من هذا القانون المُحكَم، فهو لا يستطيع -مثلًا- إيجاد علَّةٍ معيَّنةٍ ويمنع من حدوث معلولها، وهذا هو العجز التامُّ في مقابل هذه القوانين التكوينيَّة الإلهيَّة.
القاعدة المستفادة من الرواية:
أنَّ كل ساكنٍ وكل متحرِّكٍ مُعجِزٌ للإنسان ومُثبِتٌ للخالق.
فائدة:
عندما ندرُس أيَّ روايةٍ ينبغي أن نخرجَ منها بأقصى فائدةٍ ممكنة، فمثل هذه الروايات التي ندرُسها الآن هي من أفضل المواعظ والدروس الأخلاقيَّة التي يمكن أن نحصُل عليها، فهي دافعةٌ للتواضع أمام قدرة الله، ولمعرفة النفس على حقيقتها من الضعف والعجز أمام خالقها.