على الرغم من التباينات الثقافية الواسعة بين مختلف الآيدلوجيات والأطروحات القائمة لدى البشر، سواء في ذلك ما هو ديني وما هو غير ديني منها، إلا أن ثمة مساحات التقاء هي غاية في الأهمية، ومن أبرز تلك المساحات الاعتقاد المشترك بالمستقبل المشرق للبشرية، ذلك المستقبل الذي تغيب فيه كل صور الشرور عن العالم ويسود فيه العدل والسلام، فإن الاعتقاد بهذا المستقبل -برغم الاختلاف في تفسيره كما سيتبين- يعتبر مساحة يلتقي عليها كافة بني البشر، وهذا ما سنوضحه في نقطتين:-
النقطة الأولى (المهدي في الشرائع الكبرى الثلاث): تتحدث النصوص الدينية لدى كل من المسلمين والمسيحيين واليهود عن شخصية المنقذ الذي سوف يضع ظهوره حدا للظلم والشرور في العالم.
فأما ما يرتبط بالنصوص الإسلامية فإن عددا من آيات القرآن الكريم فسرتها روايات أئمة أهل البيت (ع) بأنها نازلة في الإمام المهدي (عج) وزمان ظهوره وما سوف ينطوي عليه ذلك الزمان من ملامح، ومن تلك الآيات قوله تعالى: ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ))، فقد روى الطبرسي (قده) في (مجمع البيان) قول الإمام الباقر (ع) في تفسير المراد من العباد الصالحين في الآية: ((أصحاب المهدي عليه السلام في آخر الزمان))، ومن الآيات أيضا قوله: ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ))، فقد روى الصدوق (قده) في (كمال الدين وتمام النعمة) قول الإمام الصادق (ع) حول الآية: ((والله ما نزل تأويلها بعد، ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم عليه السلام))، وجاء أيضا في تفسير فرات الكوفي عن عبد الله بن عباس أن قول الله تعالى: ((وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ)) قد نزل في آل محمد عليهم السلام.
هذا وقد تواترت الروايات المتحدثة عن الإمام المهدي (عج) في كتب الحديث لدى الشيعة والسنة مما يتطلب استقصاؤه وجمعه العكوف على إعداد موسوعة ضخمة، منها ما أخرجه أحمد بن حنبل في المسند وأبو داوود والترمذي في السنن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (ص): ((لا تذهب الدنيا ولا تنقضي حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي))، ومنها ما رواه المتقي الهندي العالم الحنفي المعروف في كتابه (كنز العمال) عن رسول الله (ص): ((لو لم يبق من الدنيا إلاّ ليلة لطوّل الله تلك الليلة حتى يلي رجل من أهل بيتي)).
وأما النصوص الدينية المسيحية في العهد الجديد والذي يمثل القسم الثاني من الكتاب المقدس فإنها هي الأخرى قد بشرت بظهور المنقذ، غير أن عقيدة المسيحيين فيه -المنقذ- تقوم على أساس أنه هو عيسى (ع) ذاته، وأن له ظهورين حصل الأول منهما وانتهى بالصلب وسوف يحصل الثاني، في حين أن عقيدة الإمامية ووفقا لما جاء عن الأئمة الأطهار (ع) تقوم على أساس أن عيسى (ع) سوف ينزل عند ظهور الإمام المهدي (عج) ليكون معه لا أنه هو، ومن النصوص المسيحية التي تبشر بالمنقذ ما في إنجيل متى: ((فكونوا إذن على استعداد لأنّ ابن الإنسان يجيء في ساعةٍ لا تنتظرونها))، وما في إنجبل مرقس: ((في ذلك الحين يرى الناس ابن الانسان آتياً في السحاب بكلِّ عزّة وجلال، فيرسل ملائكته إلى جهاتِ الرياح الأربع ليجمعوا مختاريه من أقصى الأرض إلى أقصى السماء)).
وأما اليهود فكذلك تتحدث نصوصهم في الأسفار المقدسة لديهم عن شخصية المنقذ المخلص الذي أطلقوا عليه اسم (المسيح المنتظر)، غير أن فارقا جوهريا بين المنقذ في العقيدة الإسلامية وبينه في عقيدة اليهود، وهو أن المنقذ عند المسلمين سوف يكون مصلحا عالميا يستنقذ البشرية بأسرها دون نظر إلى عرق أو نسب، بينما هو وفق عقيدة اليهود سوف يخرج ليعيد أمجادهم خاصة ويجمع شتاتهم ويمنحهم سيادة العالم ليكون سائر الناس خدما لهم، وقد حشدوا للاستدلال على ذلك كما من النصوص من العهد القديم منها ما في سفر دانيال: ((سيأتي ابن الانسان على سحب السماء، ويعطى المجد والملك ومملكة تخدمها جميع الأمم والشعوب))، ومنها ما في سفر زكريا: ((ابتهجي جداً يا ابنة صهيون واهتفي يا ابنة اورشليم، لأنّ ملِكك مقبل إليك)).
النقطة الثانية (اللادينيون ونظرية التكامل): على الرغم من أن عدم الاعتقاد بالدين يستلزم عدم الاعتقاد بالإمام المهدي (عج)، إلا أن ثمة نظرية اجتماعية يقول بها عامة اللادينيون يفضي الاعتقاد بها إلى القول بأن مستقبلا ينتظر الإنسانية في يوم ما ستزول فيه عنها صنوف الظلم، وستكون العدالة حاكمة فيه بين الناس، وهذه النظرية هي نظرية التكامل البشري، التي تقوم على أساس أن مسيرة الإنسان الشاقة وسيره الحثيث في الحياة ومكابدته لمختلف الصعاب تسوقه إلى أن يتكامل تدريجيا ويتخلص شيئا فشيئا من القيود والآصار التي تحول دون سعادته، ويستدل أرباب النظرية عليها بأن قراءة التاريخ في حقبه المختلفة تكشف عن أن صورا عديدة للمعاناة كان يعيشها الإنسان سابقا بشكل اعتيادي تحولت إلى جريمة في نظره الآن، فقد كان يستعبد ويتجر به حتى لا يبقى له من كرامته شيء، ومن أبرز أمثلة ذلك جعل السود في الولايات المتحدة داخل حدائق الحيوانات!
صادق القطان
٣١ مارس ٢٠٢١م