قال عز من قائل في كتابه المبين:
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [سورة البقرة، آية 234]
المقدمة:
تعرضت المرأة المتوفى عنها زوجها - في الأمم السابقة قبل الإسلام - لصنوف عدة من الممارسات العنيفة التي تتعامل مع هذه المرأة المكلومة من منطلقات جاهلية بعيدة كل البعد عن قيم الإنسانية. فبعض الأمم قامت بإحراق الزوجة الحية مع زوجها الميت، أو إلحادها وإقبارها معه، وبعضها قضى بعدم زواجها بعد موت زوجها إلى آخر عمرها كما هو عند النصارى [تفسير الميزان، العلامة الطبأطبائي، ج2ص242]، وبعضها أوجب عليها الاعتزال عن الرجال إلى سنة كعرب الجاهلية، وكان عليها - عند بعض القبائل- أن تنصب لها خيمة سوداء عند قبر زوجها، وتبقى عند قبره في تلك الخيمة شطرًا من الزمن [تفسير الأمثل، الشيخ مكارم الشيرازي، ج2ص181].
إلى أن جاء الإسلام وألغى تلك الخرافات مع الإقرار بقدسية الحياة الزوجية حتى بعد وفاة الزوج من خلال تشريع العدة والحداد على المرأة المتوفى عنها زوجها، فضرب لها أجلا للعدة يقارب ثلث السنة، وهو أربعة أشهر وعشرة أيام، وأوجب عليها –مضافًا لذلك- الحداد إلى أن تنقضي عدتها.
ووجوبه تكليفي، لا ربط له بالعدة، فهي غير مشروطة به، فلو أخلت المعتدة عدة الوفاة بالحداد ولو عمدا إلى أن انقضت العدة حلت لها الأزواج، وإن كانت آثمة من جهة تركها للحداد.
وجوب الحداد:
الحداد واجب على المرأة الحرة المتوفى عنها زوجها، بلا خلاف نصا وفتوى- وادعى في الجواهر الإجماع على ذلك بقسميه [جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج32ص276]، وفي الحدائق عدم الخلاف فيه بين كافة أهل العلم من الخاصة والعامة [الحدائق الناضرة، ج25ص467]. والأخبار المعتبرة - وفيها الصحاح - به مستفيضة، بل متواترة [جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج32ص276].
منها: صحيحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ(ع) قَالَ: إِنْ مَاتَ عَنْهَا - يَعْنِي وَ هُوَ غَائِبٌ- فَقَامَتِالْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ، فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً، لِأَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تُحِدَّعَلَيْهِ فِي الْمَوْتِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً، فَتُمْسِكَ عَنِ الْكُحْلِ وَالطِّيبِ وَالْأَصْبَاغِ. [الوسائل، الحر العاملي، ج22، الباب 29 من أبواب العدد، ح1].
ومنها: ما رواه زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: إِنَّ الْأَمَةَ وَ الْحُرَّةَ كِلْتَيْهِمَا إِذَا مَاتَ عنهمازَوْجُهَا سَوَاءٌ فِي الْعِدَّةِ، إِلَّا أَنَّ الْحُرَّةَ تُحِدُّ وَ الْأَمَةَ لَا تُحِدُّ.[الوسائل، الحر العاملي، ج22،الباب 42 من أبواب العدد، ح2]
ومنها: خبر أَبِي يَحْيَى الْوَاسِطِيِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ(ع)قَالَ: يُحِدُّالْحَمِيمُ عَلَى حَمِيمِهِ ثَلَاثاً، وَ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً. [ الوسائل، الحرالعاملي، ج22، الباب 29 من أبواب العدد، ح6]
ما هو الحداد:
قال في المصباح [المصباح المنير ص 171]: حدت المرأة على زوجها تحد، وتحد حدادابالكسر فهي حاد بغير هاء، وأحدت إحدادا فهي محد، ومحدة، إذا تركت الزينة لموته،وأنكر الأصمعي الثلاثي واقتصر على الرباعي.
وقال في الصحاح [الصحاح ج 2 ص 463]: أحدت المرأة أي امتنعت من الزينة والخضاببعد وفاة الزوج.
وقال في القاموس [القاموس المحيط ج 1 ص 287]: والحادة المحدة تاركة الزينة للعدة.
فالحداد هو عبارة عن ترك الزينة في الثياب والبدن، وعلى ذلك اتفقت كلمة الفقهاء وأهلاللغة. [الحدائق الناضرة، المحدث البحراني،ج25ص467]
ومن الأخبار الواردة في المقام صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال: سألته عن المتوفى عنها زوجها، فقال: لا تكتحل للزينة ولا تطيب ولا تلبس ثوبامصبوغا، ولا تبيت عن بيتها، وتقضي الحقوق، وتمتشط بغسلة [ الغسلة هي الطيبالذي تجعله المرأة في شعرها عند الامتشاط كما في لسان العرب 11- 494]، وتحج وإنكانت في عدتها ". [ الوسائل، الحر العاملي، ج22، الباب 29 من أبواب العدد، ح2].
وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليهما السلام) "في حديث قال فيه: "فتمسك عن الكحلوالطيب والأصباغ". [ الوسائل، الحر العاملي، ج22، الباب 29 من أبواب العدد، ح1].
وصحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "المتوفى عنها زوجها ليس لها أنتطيب ولا تزين حتى تنقضي عدتها أربعة أشهر وعشرة أيام". [الوسائل، الحر العاملي،ج22، الباب 29 من أبواب العدد، ح4].
وما ورد من جواز الاكتحال والخضاب والصبغ في بعض الأخبار، كموثقة عمارالساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) " أنه سأله عن المرأة يموت زوجها، هل يحل لهاأن تخرج من منزلها في عدتها؟ قال: نعم وتختضب وتدهن وتكتحل وتمتشط وتصبغوتلبس المصبغ وتصنع ما شاءت بغير زينة لزوج". [الوسائل، الحر العاملي، ج22،الباب 29 من أبواب العدد، ح7]. فهو محمول على الضرورة لغير الزينة، أما التدهنوالإمتشاط فهما خارجان عن عنوان الزينة. [الحدائق الناضرة، المحدث البحراني،ج25ص471].
فالمتحصل من النصوص: إن المنهي عنه هو تزيين نفسها بالكحل أو الخضاب أو الصبغ أو الطيب، ولباسها، بلبس الأثواب المصبوغة بصبغ يعد زينة في اللباس. [فقه الصادق،السيد الروحاني،ج23ص51]
فيجب عليها أن تترك الكحل والطيب والخضاب والحمرة والخطاط ونحوها، واجتناب لبس المصوغات الذهبية والفضية وغيرها من أنواع الحلي، وكذا اللباس الأحمر والأصفر ونحوهما من الألوان التي تعد زينة عند العرف، وربّما يكون اللباس الأسود كذلك إما لكيفية تفصيله أو لبعض الخصوصيات المشتمل عليها مثل كونه مخططاً.
وبالجملة عليها أن تترك في فترة العدّة كل ما يعدّ زينة للمرأة بحسب العرف الاجتماعي الذي تعيشه، ومن المعلوم اختلافه بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والتقاليد، وأما ما لا يعد زينة لها؛ مثل تنظيف البدن واللباس وتقليم الأظفار والاستحمام وتمشيط الشعر والافتراش بالفراش الفاخر والسكنى في المساكن المزينة وتزيين أولادها؛ فلابأس به. [منهاج الصالحين، السيد السيستاني، مسألة 581]
خروج المعتدة عدة الوفاة من بيتها:
الروايات في خروج المعتدة عدة الوفاة من بيتها وبياتها في غيره على طائفتين:
الأولى: ما دل على المنع - وهو أكثرها - بآكد وجه.
منها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "سألته عن المرأة يتوفىعنها زوجها وتكون في عدتها، أتخرج في حق؟ فقال: إن بعض نساء النبي صلى الله عليه وآله سألته فقالت: إن فلانة توفي عنها زوجها، فتخرج في حق ينوبها؟ فقال لهارسول الله صلى الله عليه وآله: أف لكن قد كنتن من قبل أن أبعث فيكن، وأن المرأة منكن إذا توفي عنها زوجها أخذت بعرة فرمت بها خلف ظهرها، ثم قالت: لا أمتشط ولا أكتحل ولا أختضب حولا كاملا، وإنما أمرتكن بأربعة أشهر وعشرا ثم لا تصبرن، لا تمتشط ولا تكتحل ولا تختضب ولا تخرج من بيتها نهارا ولا تبيت عن بيتها. فقالت: يا رسول الله فكيف تصنع إن عرض لها حق؟ فقال: تخرج بعد زوال الليل وترجع عند المساء، فتكون لم تبت عن بيتها قلت له: فتحج؟ قال: نعم". [الوسائل، الحر العاملي، ج22، الباب 33 منأبواب العدد، ح7].
ومنها: ما رواه محمد بن مسلم، قال: جاءت امرأة إلى أبي عبد الله (عليه السلام) تستفتيه في المبيت في غير بيتها وقد مات زوجها، فقال: إن أهل الجاهلية كان إذا مات زوج المرأة أحدت عليه امرأته إثني عشر شهرا، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله رحم ضعفهن فجعل عدتهن أربعة أشهر وعشرا، وأنتن لا تصبرن على هذا". [الوسائل، الحرالعاملي، ج22، الباب 34 من أبواب العدد، ح3].
ومنها: خبر أبي العباس، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المتوفى عنها زوجها قال: لا تكتحل للزينة ولا تطيب ولا تلبس ثوبا مصبوغا، ولا تخرج نهارا، ولا تبيت عن بيتها، قلت: أرأيت إن أرادت أن تخرج إلى حق كيف تصنع؟ قال: تخرج بعد نصف الليل وترجع عشاء". [الوسائل، الحر العاملي، ج22، الباب 29 من أبواب العدد، ح3].
الثانية: ما دل على الجواز مطلقا.
منها: ما رواه في الفقيه والتهذيب عن عمار الساباطي في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه سئل عن المرأة يموت زوجها، هل يحل لها أن تخرج من منزلها في عدتها؟ قال: نعم وتختضب وتدهن وتكتحل وتمتشط وتصبغ وتلبس المصبغ وتصنع ما شاءت بغير زينة لزوج". [ الوسائل، الحر العاملي، ج22، الباب 33 من أبواب العدد، ح1].
ومنها: وما رواه في الكافي عن ابن بكير في الموثق، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التي توفي عنها زوجها أتحج؟ قال: نعم وتخرج وتنتقل من منزل" ورواه في الفقيه مرسلا مقطوعا. [الوسائل، الحر العاملي، ج22، الباب 33 من أبواب العدد، ح3].
ومنها: وما رواه في الكافي عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:سألته عن المتوفى عنها زوجها أتخرج من بيت زوجها؟ قال: تخرج من بيت زوجها وتحج وتنتقل من منزل إلى منزل". [الوسائل، الحر العاملي، ج22، الباب 33 من أبواب العدد،ح5].
وقد عمل الشيخ الطوسي ومن تبعه بهذه الأخبار، فقالوا بجواز ترك البيات في المنزل وجواز الخروج حيث شاءت، وحملوا أخبار النهي على الكراهة.
وفيه: أن ظاهر الأخبار المانعة - بآكد منع - لا يساعد عليه.
والصحيح ما استظهره صاحب الحدائق من الجمع بينها بما تضمنته صحيحة الصفار إلى العسكري (عليه السلام): (في امرأة مات عنها زوجها وهي محتاجة لا تجد من ينفق عليها وهي تعمل للناس هل يجوز أن تخرج وتعمل وتبيت عن منزلها في عدتها؟ فوقع (عليه السلام) لا بأس بذلك إن شاء الله) [الوسائل، الحر العاملي، ج22، الباب 34 منأبواب العدد، ح1] من إلجاء الحاجة إلى ذلك والضرورة، فتخرج نهارا، وتبيت في غيرهليلا. [ الحدائق الناضرة، المحدث البحراني،ج25ص471]
أو يكون خروجها لأمور راجحة كالحج والزيارة وعيادة المريض وزيارة الأرحام وما أشبه ذلك كله، لما عن الصادق (عليه السلام) في صحيح الحلبي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ يَمُوتُ عَنْهَا زَوْجُهَا، أَيَصْلُحُ لَهَا أَنْ تَحُجَّ أَوْ تَعُودَ مَرِيضاً؟ قَالَ: نَعَمْ تَخْرُجُ فِيسَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَطَيَّبُ. [ الوسائل، الحر العاملي، ج22، الباب 33 من أبوابالعدد، ح6] وهو شامل لكل قربة.
ويؤيد ذلك ما رواه أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي في الإحتجاج والشيخ فيكتاب الغيبة عن صاحب الزمان (عليه السلام) مما كتب في أجوبة مسائل محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري حيث سأله عن المرأة يموت زوجها، هل يجوز لها أن تخرج في جنازته أم لا؟
التوقيع: تخرج في جنازته. وهل يجوز لها وهي في عدتها أن تزور قبرزوجها؟
التوقيع: تزور قبر زوجها ولا تبيت عن بيتها. وهل يجوز لها أن تخرج في قضاء حق يلزمها أم لا تخرج من بيتها في عدتها؟
التوقيع: إذا كان حق خرجت فيه وقضته، وإن كان لها حاجة ولم يكن لها من ينظر فيها خرجت لها حتى تقضيها، ولا تبيت إلا فيمنزلها. [ الوسائل، الحر العاملي، ج22، الباب 33 من أبواب العدد، ح8]
فالمتحصل: أنه مع الضرورة إلى الخروج فلا إشكال في جواز الخروج وإن استلزم البيات في غير بيتها [الحدائق الناضرة، المحدث البحراني،ج25ص472]، ومع عدم الضرورة فإنه يرخص لها الخروج لقضاء الحقوق التي يلزمها من عيادة مريض أو حضور تعزية ونحو ذلك من الحقوق التي يقوم بها النساء بعضهن لبعض ونحو ذلك من الأمورالمستحبة، لكن لا تبيت إلا في بيتها، ولا ينافي ذلك الأخبار الدالة على جواز الانتقال من منزل إلى آخر.