تقريرات موجزة: درس (الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة) - الشيخ الحرُّ العاملي (قدِّس سرُّه) {6}.
الأستاذ: السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي.
المقرِّر: محمود أحمد سهلان العكراوي.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب12 - أنَّ كلَّ ما سوى الله سبحانه فهو مخلوقٌ حادثٌ مسبوقٌ بالعدم:
{42} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن عدَّةٍ من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن خالد البرقي، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان، عن زرارة بن أعيَن، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنَّ الله خِلوٌ من خلقه، وخلقه خِلوٌ منه، وكل ما وقع عليه اسم شيءٍ ما خلا الله فهو مخلوق، والله خالق كل شيءٍ تبارك الله الذي ليس كمثله شيءٌ وهو السميع العليم.
قوله (عليه السلام): "خلوٌ من خلقه" نفيٌ للاتحاد، وقوله: "خلقه خلوٌ منه" نفيٌ للحلول، فالرجوع بالتالي إلى عدم المجانسة والمسانخة، والأعم منهما لعدم المشابهة بين الخالق والمخلوق.
القاعدة:
كل ما سوى الله مخلوق. وهو ما عنونَ به الحرُّ العاملي (رحمه الله) الباب.
س: هل يمكن للإنسان أن يخلُق؟
ج: فلنقلْ أنه يستطيع أن يخلق لكن ذلك يقع في حدود السقف الذي جعله الله تعالى، ولكن الأفضل أن نستعمل لفظًا غير كلمة (خلق)، بالبناء على أن الخلق إنما هو الإيجاد بعد العدم، وغاية ما يقوم به الإنسان هو تركيبٌ وجمعٌ لمخلوقاتٍ موجودةٍ تشكِّل موادَّ ما ينتهي إليه ويدَّعي خلقه، لكنه كما هو واضحٌ ليس إيجادًا من العدم.
{43} الرواية الثانية: وعن عليِّ بن إبراهيم، عن محمَّد بن عيسى، عن يونس، عن أبي المغراء، رفعه، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: إنَّ الله خِلوٌ من خلقه، وخلقه خِلوٌ منه، وكلما وقع عليه اسم شيءٍ فهو مخلوق، ما خلا الله.
هو حديثٌ آخر على لسان إمامٍ آخر وهو الإمام الباقر (عليه السلام)، وهو كالحديث السابق تماما.
أما في الرَّفع فقد مرَّ الكلام مرارا، وقلنا أنه قد يكون أقوى من السند المتصل أحيانًا بالنظر إلى حال الرافع.
{44} الرواية الثالثة: وعنه، عن محمَّد بن خالد الطيالسي، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لم يزلِ الله ربنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصَر، والقدرة ذاته ولا مقدور، فلمَّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم، والسمع على المسموع، والبصر على المُبصَر، والقدرة على المقدور، الحديث.
من أبسط وأعقد الإشكالات في ذات الوقت لجهاتٍ مختلفةٍ قياس الله على الإنسان.
فنقول: الله تعالى عالمٌ بهذا الخلق قبل أن يكون الخلق، أما الصفات الإلهية فهي من أجل أن نفهم نحن فقط، لا أنه شيءٌ غير الذات، فالعلوم وجزئيات العلم تصلح لعالمنا هذا وفي خصوص هذه النشأة لحاجتنا للتفريق والتمييز فنحتاج للمقارنات، ومن غير الممايزة لا نعلم بشيء، أما الله تعالى فهو مطلقٌ في كل الجهات، فإذا خلق فهو يخلق فردًا وقع عليه عِلمُه سبحانه فيصير معلومًا لله بوقوع علم الله عليه لا أن الله لم يكن عالمًا فعلم.
ماذا أراد (عليه السلام) من قوله: "والعلم ذاته..."؟ في الواقع لا نستطيع أن نقول أكثر من ذلك، فهذه حدودنا، ولو حاولنا التوضيح أكثر وقعنا في ما لا ينبغي، فلو وضَّحنا الذات لصارت اثنينية بين الذات الإلهية وغيرها، أما وصفنا له بأنه (عالم) فهو راجعٌ لجهة نظرنا نحن لا لتعدُّده سبحانه، وكذا الحال في باقي الصفات.
{45} الرواية الرابعة: وعن محمَّد بن يحيى، عن محمَّد بن الحسين، عن ابن أبي عُمير، عن هشام بن سالم، عن محمَّد بن مسلم، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: كان الله ولا شيء غيره، ولم يزل عالمًا بما يكون فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه.
كيف علم الإمام (عليه السلام) أنه: "كان الله ولا شيء غيره"؟ يمكن أن نجيب على هذا السؤال بطريقين:
الأول: نسلِّم للإمام (عليه السلام) وانتهى الأمر.
الثاني: نقول أنه عرف عن طريق الإعمال العقلي، كما نرجع للدور والتسلسل وغير ذلك من البراهين.
س: هل يفيد هذا الفعل من الإمام (عليه السلام) السماح لغير المعصوم بإجراء الاستدلالات العقلية أم أنه خاصٌّ بالمعصوم؟
نتوقف عن الجواب، ونسأل سؤالًا آخر: ماذا نقصد بالإعمال العقلي؟ فنجيب المقصود هو البرهان. ثم نسأل: هل نتكلم فيما لم ينكشف لنا مع قول الإمام (عليه السلام) في موضعٍ آخر اسكتوا عما سكتنا عنه؟
نجيب على هذا لاحقًا.
أما الشطر الثاني من الرواية فقد مرَّ بيانه في مواضع سابقة.
{46} الرواية الخامسة: وعنه، عن سعد بن عبد الله، عن محمَّد بن عيسى، عن أيوب بن نوح، أنه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الله عزَّ وجل، كان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوَّنها أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها فعلم ما خلق عندما خلق، وما كوَّن عندما كوَّن؟ فوقَّع (عليه السلام) بخطِّه: لم يزل الله عالمًا بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء.
سعد بن عبد الله: مشتركٌ بين عدَّة رجال، لكن الذي يروي عنه محمَّد بن يحيى ويروي عن محمَّد بن عيسى ثقةٌ من شيوخ الطائفة.
كلامنا في سؤال أيوب، وهو من الأصحاب الأجلاء، حيث كان سؤاله في مسألةٍ خطيرة، فالسؤال عن مثل هذه القضايا جائزٌ لكنه يوجَّه إلى أهله، ونلاحظ أن الإمام (عليه السلام) أجاب بتوقيعٍ وليس بجوابٍ عام.
أما جوابه (عليه السلام) فقد حصر أيوب في دائرةٍ معينةٍ من التفكير بإثبات أحد الاحتمالات ونفي الآخر، فالجواب محكمٌ لكنه غير مفصَّل، فلو كتب أحدٌ في هذه الدائرة فإنه لا يضل.
فائدةٌ مهمة:
توجد لدينا نصوصٌ قرآنيةٌ وأخرى عتروية، وعندنا علوم اللغة والأصول والمنطق وغيرها، فكيف يمكن أن نتكامل من خلال هذه العلوم؟
المشكلة أنك لا تتمكن من المناقشة عادة لو قرأ كل واحدٍ النصوص بلغته فقط، فصاحب اللغة ينظر للنص من جهة اللغة لا غير، وصاحب الفلسفة ينظر من خلال الفلسفة لا غير، وهكذا في كل مجال، فلا يتمكن من النقاش إلا أصحاب نفس المجال العلمي مع بعضهم في هذه الحالة.
النصوص تعرض للبشر لا لغير العاقل، والعاقل يمكنه أن يفهم النص دون الرجوع إلى نصوصٍ أخرى أو علومٍ أخرى، ثم يرجع بعد أن يقرر ما فهمه أولًا إلى ما يحتاج من العلوم والنصوص، ومع عدم الرفض المطلق للرجوع للعلوم قطعًا نقول أن هذا الرجوع دوره تقويم الفهم أو تقويته أو ما شابه من فوائد، لا أنه يصادر فهم العاقل مصادرةً تامةً ويلغيه.
نحن ندرس هذه العلوم لتقويم أفهامنا لا لتحكيمها على عقولنا.
{47} الرواية السادسة: وروى ابن بابويه في كتاب التوحيد، عن الدقَّاق، عن محمَّد الأسدي، عن البرمكي، عن الحسين بن الحسن، عن أبي سَمينة، عن إسماعيل بن أبان، عن سعيد بن جبير، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) في حديث: أن رجلًا سأله، ما أول ما خلق الله من خلقه؟ فقال (عليه السلام): إن الله علا ذكره كان ولا شيء غيره وكان عزيزًا ولا عز، لأنه كان قبل عزِّه، وكان خالقًا ولا مخلوق، فأول شيءٍ خلقه من خلقه الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء، فقال السائل: فالشيء الذي خلقه، من شيءٍ أو من لا شيء؟ فقال: خلق الشيء لا من شيءٍ كان قبله، ولو خلق الشيء من شيءٍ إذًا لم يكن له انقطاعٌ أبدًا ولم يزل الله إذًا ومعه شيءٌ ولكن كان الله ولا شيء معه.
نورد هنا هاتين الروايتين من بحار الأنوار:
الأولى: عن الثمالي، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى أحدٌ واحدٌ تفرَّد في وحدانيته، ثم تكلَّم بكلمةٍ فصارت نورا، ثم خلق من ذلك النور محمدًا (صلى الله عليه وآله) وخلقني وذرِّيتي، ثم تكلَّم بكلمةٍ فصارت روحا، فأسكنه الله في ذلك النور، وأسكنه في أبداننا، فنحن روح الله وكلماته، وبنا احتجب عن خلقه، فما زلنا في ظلَّةٍ خضراء حيث لا شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار ولا عين تطرف، نعبده ونقدِّسه ونسبِّحه قبل أن يخلق الخلق. الخبر. ]بحار الأنوار - ج15- باب بدء خلقه وما جرى له في الميثاق - ح10.
الثانية: عن محمَّد بن الحسن الطوسي (رحمه الله) في كتابه مصباح الأنوار، بإسناده عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: إن الله خلقني وخلق عليًا وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق آدم (عليه السلام) حين لا سماء مبنية، ولا أرض مدحيَّة، ولا ظلمة ولا نور ولا شمس ولا قمر ولا جنة ولا نار، فقال العباس: فكيف كان بدء خلقكم يا رسول الله؟
فقال: يا عم، لمَّا أراد الله أن يخلقنا تكلَّم بكلمةٍ خلق منها نورا، ثم تكلَّم بكلمةٍ أخرى فخلق منها روحا، ثم مزج النور بالروح، فخلقني وخلق عليًّا وفاطمة والحسن والحسين، فكنا نسبِّحه حين لا تسبيح، ونقدِّسه حين لا تقديس، فلما أراد الله تعالى أن ينشئ خلقه فتق نوري فخلق منه العرش فالعرش من نوري، ونوري من نور الله، ونوري أفضل من العرش، ثم فتق نور أخي عليٍّ فخلق منه الملائكة، فالملائكة من نور علي، ونور عليٍّ من نور الله، وعلي أفضل من الملائكة، ثم فتق نور ابنتي فخلق منه السماوات والأرض، فالسماوات والأرض من نور ابنتي فاطمة، ونور ابنتي فاطمة من نور الله، وابنتي فاطمة أفضل من السماوات والأرض، ثم فتق نور ولدي الحسن فخلق منه الشمس والقمر، فالشمس والقمر من نور ولدي الحسن، ونور الحسن من نور الله، والحسن أفضل من الشمس والقمر، ثم فتق نور ولدي الحسين فخلق منه الجنة والحور العين، فالجنة والحور العين من نور ولدي الحسين، ونور ولدي الحسين من نور الله، وولدي الحسين أفضل من الجنة والحور العين. الخبر. ]بحار الأنوار - ج15- باب بدء خلقه وما جرى له في الميثاق - ح11.
وبإيراد هاتين الروايتين وغيرهما في الباب -وهي كثيرة- تتضح الصورة أكثر. ولكن كيف نوفِّق بين هذه الروايات والرواية التي تلوناها في من كتاب الفصول؟
لو خُلِّينا والنص الذي نقله الحرُّ العاملي (قدِّس سرُّه) في كتاب الفصول لخرجنا باحتمالين:
الأول: الخلق المقصود في الرواية هو ما يدخل في قوامه الماء مقابل ما لا يدخل في قوامه.
الثاني: أن كل خلقٍ يدخل في قوامه الماء.
والاحتمالان ممكنان في الرواية، لكن الرواية لا تفيد أن كل خلقٍ يدخل في قوامه الماء، فإذا رجعنا للروايات الأخرى ولاحظنا ما فيها نتنبَّه إلى أمرٍ آخر في هذه الرواية، وهو أن السؤال هنا عن رجلٍ غير معروفٍ لنا، والمعاني العالية عادةً ما تُلقى إلى رجلٍ معروفٍ جليلٍ كالأصبغ والمقداد كما هي سيرة أئمتنا (عليهم السلام)، وهنا لم يُذكر الرجل فقد لا يكون معروفًا لجابر (رضوان الله تعالى عليه)، ولم يُعهد من الأئمة التصريح بكل شيءٍ لكل أحد، وبالتالي فقوله أن الخلق من الماء ليس سالبًا للعموم في الأفراد التي قوامها الماء، فلا عموم وخصوص ولا مطلق ومقيَّد إلا عندما ننسب شيئين لبعضهما، فالشيء قد يكون عامًّا بالنسبة لأفراده، لكنه بنسبته لما هو أعم منه يكون خاصا. ولذلك قيل ما من عامٍّ وإلا قد خُص.
عندما نلاحظ السؤال نقول: أن الناس يسألون في حدود إحاطتهم بالأمور وعليه كان الجواب بما يناسب المقام، وفي الواقع إن كل المخلوقات فيها نسبةٌ من الماء، والماء في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ} ]الأنبياء: 30[ يمكن أن نُؤوِّله لمعنًى أعمق بعد مطالعة باقي الروايات، وكذا التين والزيتون وغيرها من المفردات القرآنية.
فوائد رجالية ودرائية:
في تعبير جابرٍ (عن رجل): هذا الحديث من حديث مسائل الشامي، ولم نجد للشاميِّ ذكرًا صريحًا في كتب الرجال، وعبَّروا فقط أنه من علماء الشام، وقد طرح هذه الأسئلة على علماء آخرين مكررا. أين هي الفائدة الدرائية من هذا؟
يوجد اختلاف في سند وكلمات الرواية عمَّا هو منقولٌ في التوحيد والكافي، فيوجد اقتطاعٌ واضحٌ من الشيخ الحرِّ العاملي (قدِّس سرُّه)، وقد يسبِّب هذا خللًا في تحمُّل الرواية، وبالتالي يؤثِّر على فهمنا لها، فمن قواعد تحمُّل الرواية ذكر الحال، لذلك يختلف قولنا (سُئِل) مثلًا عن قولنا (دخل عليه).
ولمحل هذه التغييرات نقول دائمًا هذه الكتب (الفصول المهمة - الوسائل - بحار الأنوار ...) مراجع وليست مصادر، ولا بد لطالب العلم من الرجوع للمصادر وتخريج الروايات بنفسه، كي يتخلَّص من الخلل المُحتمل في نقل الرواية في المراجع.
على أي حال، ييوجد اختلافٌ بين قولي (عن فلان) و (حدَّثني)، فقد تفيد الثانية أنه التقى الراوي، أو أيَّ خصوصيةٍ أخرى، أما التعبير الأول فيحتمل احتمالاتٍ كثيرة، كأن يكون رأى ورقةً مكتوبٌ فيها الرواية، وهذا الاحتمال لا يرد في التعبير الآخر. انظر (العنعنة) عندنا مثلًا فإننا نستقرب أنها من دواعي التقية، وهو الأمر الذي لم يكن يحتاجه غيرنا كما هو واضحٌ للمتتبع.
حديث مسائل الشامي يُدرَج في باب مواجهة الإمام الباقر (عليه السلام) لخطوط الانحراف، ويبيِّن هذا حال علماء الشام، وقد كانوا مذمومين، وقد نُسبوا إلى الإلحاد والزندقة، وكانوا يتلبَّسون بلباس الدين ليثيروا الشبهات في الدين، ولو لم نعرف أن هذا الرجل هو الشاميُّ لما عرفنا طبيعة أجوبة الإمام (عليه السلام).
س: هل يوجد تعارضٌ بين قوله (عليه السلام): "خلق الشيء لا من شيء"، وقوله: "لا يكون الشيء لا من شيء إلا الله"؟
الجواب: أن هذا التعارض البدوي غير متحقِّقٍ لأن المقامين في الروايتين مختلفان، فهذه الرواية التي نحن بصددها تتحدَّث في مقام المخلوق والرواية الأخرى في مقام الخالق.
عندما نتحدَّث عن الله فإننا نتحدَّث عن الوجود، لا عن الخلق ولا الإبداع، أما عند الكلام عن الخلق فهو مقامٌ آخر، وهو مقام الخلق أو مقام الإبداع، فاللاشيئية هنا وهناك مختلفتان، فإن إحداهما متعلقةٌ بالوجود والأخرى بالخلق والإبداع.
إشارة:
النسبة بين الخلق والإيجاد عمومٌ وخصوصٌ مطلق؛ لأن كل خلقٍ إيجادٌ ولا عكس.
{48} الرواية السابعة: وفي كتاب العِلل، عن أبيه، عن سعد، عن محمَّد بن أحمد السياري، عن محمَّد بن عبد الله بن مهران الكوفي، عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن إسحاق الليثي، قال: قال لي أبو جعفرٍ (عليه السلام): يا إبراهيم إنَّ الله تبارك وتعالى لم يزلْ عالما، خلق الأشياء لا من شيء، ومن زعم أنَّ الله عزَّ وجلَّ خلق الأشياء من شيءٍ فقد كفر، لأنه لو كان ذلك الشيء الذي خلق منه الأشياء قديمًا معه في أزليَّته وهويَّته، كان ذلك أزليا، بل خلق الله الأشياء كلها لا من شيء، الحديث.
ذكر الإمام (عليه السلام) فرضًا في قوله: "لأنه لو كان ذلك الشيء الذي خلق ... أزليا"، ونفاه، ويرجع هذا الفرض إلى القسمة الاقترانية أو الثنائية في المنطق، فلم يكن يحتاج إلى ذكر الفرض الثاني في المقام، فنفي الفرض الأول يثبت الفرض الثاني، أو ينفي الفردين معا، وعند نفي الفردين يثبت خطأ الموضوع، وهنا نفيٌ للفردين، فلم يثبت الموضوع، وبالتالي نرجع للرواية السابقة لنجد فيها البرهنة بالتسلسل، وبعد أن انتفى الشيء بقي اللاشيء، ولا قسمة فيه لأنه يعني العدم، ونصل للمطلوب في قوله (عليه السلام): "خلق الشيء لا من شيءٍ كان قبله"، وهذا دليلٌ عقليٌّ راجعٌ لقاعدة استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين.
س: ما الفرق بين قولنا (من لا شيء) وقولنا (لا من شيء)؟
الجواب: الفرق بينهما نفيده في علم المنطق، فقوله (من لا شيء) هو بشرط لا، والآخر لا بشرط. وبالتالي تتوسع الدائرة ونقول حينها يخلق الله من شيءٍ أيضا، فعندما نقول أن الخلق بلا شرطٍ فيخلق المخلوقُ والخلق يرجع إلى الله ولكنه من شيء، أما إذا قلنا بشرط لا فيحصل الإشكال كما مر.
{49} الرواية الثامنة: وفي كتاب التوحيد، عن أبيه، وابن عبدوس، عن ابن قتيبة، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، قال: قال موسى بن جعفرٍ (عليه السلام): هو الأول الذي لا شيء قبله، والآخر الذي لا شيء بعده، وهو القديم وما سواه مخلوقٌ مُحدَث، تعالى عن صفات المخلوقين علوًا كبيرا.
المراد من (الأول) هنا ليس المعدود، والمراد من (الآخر) ليس المعدود كذلك.
س: ما الفرق بين قوله (عليه السلام): "تعالى عن صفات المخلوقين"، وقولنا: (تعالى عن المخلوقين)؟
الجواب: لا بد أن ننتبه أنه لا ظهور للذوات إلا بصفاتها، فالكلام بالصفات دائمًا أبلغ من الكلام بالذات، خصوصًا في مقام التفهيم، بخلاف الكلام في البحث العلمي الدقيق جدًّا حيث تتكلَّم هناك عن الذوات دون الصفات، لذلك قال (عليه السلام): "عن صفات المخلوقين"، فإذا قال تعالى عن المخلوقين فنسأل في ماذا؟ ولكن إذا قال عن صفات المخلوقين فيتعالى عن الصفات وبالتالي يلزم التعالي عن المخلوقين.
س: كيف نستفيد من المشتقِّ الأصولي في إثبات مسألةٍ عقائديةٍ من قوله (عليه السلام): "مخلوقٌ محدث"؟
نقول: أنه -أي لفظ مخلوق- ليس مشتقًا أصوليًا، لفقدانه للشرط الثاني، وهو أن زوال الوصف يؤدي إلى زوال الذات، ولكن القول بأنه ليس مشتقًا أصوليًا يفيدنا فوائد ودلالاتٍ أخرى.
يبدأ البحث بعد إجابتنا أن هذه الذات هل تزول أم لا، فنقول: إما أن وراء المخلوق ذاتٌ محفوظة، وشرطها أن لا تكون مخلوقة، أو لا، فتكون الذات مخلوقة، وإلا لزم التسلسل.
المسألة الأخرى: ما هو محل النزاع في المشتق؟ محله ما انقضى عنه التلبُّس، والتلبُّس من طبيعته الانقضاء، سواء تعلَّق بالذات أم لم يتعلق، وكل ذاتٍ في هذا الوجود لا بد وأن تقع في ظرف، وإلا لا يكون لها ظهورٌ في هذا الكون، وكل مخلوقٍ لا بد أن يكون في مكانٍ وزمان، وإلا لا يمكن أن يظهر في هذا الوجود المُدرَك للإنسان، وهما -أي الزمان والمكان- يتصرَّمان، وبالتالي يتجدَّد وجودنا في كل آن، وعليه نثبت أننا في عناية الخالق في كل آن، ولو رفع الخالق يده في لحظةٍ ما لتحوَّلت المخلوقات من الوجود إلى اللاوجود، لانقطاع تجدد المخلوقية.
فعندما نقول الإنسان مخلوق، يثبت له اسم المشتق، ويثبت معه أمرٌ آخر، وهو بقاء يد الخالقية ببقاء المخلوقية، بل لو مات المخلوق وتحلَّل تبقى ذاته وتبقى اليد الخالقية، وتجمعه بعد تحلُّله وتُرجعه إلى الذات.
فائدة:
في كل درسٍ لنا غايةٌ وهي تعلم المسائل، ولنا أيضًا غايةٌ أخرى مهمة، وهي صياغة المنظومة الفكرية، وفهم المسألة طريقٌ لصياغة المنظومة الفكرية، وعدم تطبيق القاعدة المستفادة في بعض العلوم له دلالاته أيضا.
{50} الرواية التاسعة: وعن الفضل بن العباس الكندي، بإسناده ذكره عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبةٍ طويلة: لم يخلق الأشياء من أصولٍ أزليَّةٍ ولا من أوائل كانت قبله أبدية، بل خَلَقَ ما خَلَقَ وأتقن خلقه، الحديث.
الفضل بن العباس: هو أبو العباس الفضل بن الفضل بن العباس الكندي.
قال (عليه السلام): "من أصولٍ أزلية"، ولو كانت المخلوقات من أصولٍ أزليةٍ لتعدَّد القدماء وهو منفيٌّ في محله.
قال (عليه السلام): "ولا من أوائل كانت قبله أبدية"، ولو ثبتت هذه الأوائل لكان الله -والعياذ بالله- مُحدَثا.
قال (عليه السلام): "بل خَلَقَ ما خَلَقَ وأتقن خلقه"، وهذه الإجابة ليس بالجواب الذي ينتظره الإنسان، لكن الجواب كافٍ ومُحكَم، وذلك عن طريق إثبات البطلان لأمورٍ قد يظنها الإنسان، وبعض الأسئلة جوابها البليغ أنه لا قدرة لك على الجواب تكوينا، وهذا هو مبلغ علم الإنسان، فلا يُسأل عن شيءٍ بعد ذلك، فأيُّ سؤالٍ بعد هذه الإجابة غير صحيح، وقد يأتي من يقول أن لكلِّ سؤالٍ جواب، فنقول: هذا غير صحيح، بل هو ضلال، فبعض أسئلة الإنسان هي سؤالٌ عن لا شيء في الواقع.
{51} الرواية العاشرة: وعن محمَّد بن الحسن، عن أبان، عن ابن أورمة، عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير، عن عبد الله بن جوين العبدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه كان يقول: الحمد لله الذي كان إذ لم يكن شيءٌ غيره، وكوَّن الأشياء فكانت كما كوَّنها، وعلم ما كان وما هو كائن.
كوَّن: جعلها كائنةً أيْ أوجد، ولكن كيف كوَّنها؟
كل فعلٍ يحتاج إلى أربع عِلل، وهي: (الغائية - الصورية - المادية - الفاعلية)، لكنها بالنسبة لله تعالى واحدة، ونسبتها لله تعالى مطلقًا لا إشكال فيها، إنما الإشكال في نسبتها إليه تحليلا، أما الإنسان فتثبت له على نحو التحليل.
الكلام في سند الرواية التاسعة التي مرَّ الكلام فيها: وهي من كتاب التوحيد للشيخ الصدوق كالتالي: أخبرني أبو العباس الفضل بن الفضل بن العباس الكندي فيما أجازه لي بهَمَدان سنة أربعٍ وخمسين وثلاثمائة، قال: حدَّثنا محمَّد بن سهل يعني العطار البغدادي لفظًا في كتابه سنة خمسٍ وثلاثمائة، قال: حدَّثنا عبد الله بن محمَّد البلوي، قال: حدثني عمارة بن زيد، قال: حدَّثني عبد الله بن العلاء، قال: حدَّثني صالح بن سبيع، عن عمرو بن محمَّد بن صعصعة بن صوحان، قال: حدَّثني أبي عن أبي المعتمر مسلم بن أوس، قال: حضرت مجلس عليٍّ (عليه السلام) في جامع الكوفة فقام إليه رجلٌ مصفَّر اللون ... الحديث. (الصدوق - التوحيد - باب التوحيد ونفي التشبيه - ح34).
يتميَّز الشيخ الصدوق (رحمه الله) بذكر طرق تحمُّل ونقل الرواية، وهذه الرواية محل الكلام واضحةٌ في ذلك.
بدايةً نسلِّم بكون الرواة مجاهيل وكذَّابين ووضَّاعين وما إلى ذلك، لكن الذي روى عنهم هم الصدوق والكليني والشيخ (رضوان الله عليهم)، فلا بد أن ننظر في رواياتهم.
وُصِف البلوي مثلًا بأنه كذابٌ فهذا يعني أنه معروفٌ بالكذب، وعندما نرجع لكتب الحديث نرى أن رواياته قليلةٌ وكذا باقي رجال السند، فنحتمل احتمالًا أولًا -ولا أقول نقطع، فطريقة طالب العلم والباحث هي جمع القرائن إذا لم يكن الدليل واضحًا وصريحًا- أن الروايات قد صُفِّيت من المكذوب والموضوع، فوظيفتنا جمع القرائن، والاحتمال الأقرب أن علماءنا رووا عن هؤلاء بعد الاستيثاق من المتن، والمتن هو القرينة الأولى في المقام، ولا يصح رفض الخبر مباشرةً لأن الراوي كذاب.
القرينة الثانية: ما رُوي عنهم: وأكثر روايات هؤلاء كانت في فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، فننظر بالتالي في سبب قولهم بأنه وضَّاعٌ أو كذَّاب، فغالبًا تجد المتهم بالكذب ممَّن يروي فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومقاماتهم، خصوصًا في كتاب الشيخ النجاشي، فيخلق عندك هذا احتمالًا معينًا تدونه وتضيفه لباقي الاحتمالات، بخلاف ما لو كانت المخالفات المنقولة عنهم هي عقائدية أو شرعية.
إن اشتهار الراوي بالكذب ووصول رواياتٍ قليلةٍ عنه أمارةٌ على تمحيص الأصحاب للروايات كما أشرنا. وندَّعي هنا أن كل الروايات المنقولة عن رجال هذا السند ليست رواياتٍ منكرة.
تنبيه:
نحتاج لملاحظة وصف أي رجلٍ بالكذب والوضع والضعف وغير ذلك، فإن كان من رجلٍ واحدٍ فهو خبر واحدٍ وإن نقله عنه باقي العلماء، فلن يُخرجه ذلك من كونه خبر واحدٍ إلى خبرٍ متواتر.
أما قول البلوي في عمارة بن زيد، فنستقرب -ولا ندعي ذلك- أنه كان في مقام الاستهزاء عندما قال: نزل عليَّ من السماء، فكيف يكون نازلًا من السماء ويحتاج لنقل الرواية عن رجلٍ آخر مذكور في السند ليُسندها؟ فنستبعد أن يصدر منه مثل هذا الفعل إلا أن يكون غير راجح العقل، والحال أنه صاحب كتب، واهتم به الرجال. فهذا احتمال نضيفه لاحتمالاتٍ أخرى في المقام.
أما الفضل بن الفضل بن العباس الكندي: فقد التقاه الشيخ في همدان فيبعد أن يكون مجهولًا ويأتيه مثل الشيخ الصدوق ليطلب الإجازة، فالمفترض أنه أجاز الشيخ الصدوق بطلبٍ من الشيخ الصدوق، وإن كان يحصل أن يبادر المُجيز بالإجازة لكنه على خلاف المعتاد، وهذا مما يعتبر قرينةً على تقوية الرجل لاستجازة مثل الشيخ الصدوق منه.
توضيح:
من أقوى القرائن عند النظر في المتن وجود وِحدة الموضوع بين الرواية محل النظر وباقي الروايات الأخرى، أما السند فهو من أهم ما يُنظر فيه، لأنه يفسِّر لي معنى الرواية من خلال معرفتي برجاله.
على مستوى التطبيق، بعد أن وجدنا الذمَّ والقدح في الرواة رجعنا إلى أحاديثهم المرويَّة في كتبنا، فوجدنا أنها ذات طابعٍ غالب، وهو الجانب العقائدي وما يلحق به من ذكر كرامات أهل البيت أو أمورٍ خاصةٍ بهم (عليهم السلام)، فنأخذها ونجعلها كمعطى لا أن نحسم بها الأمر، نعود مرةً أخرى لتوثيقات وتضعيفات الشيخين النجاشي والطوسي، هل لها تميُّز معيَّن؟ فإنه لا يصحُّ أن لا نقرأ كتبهما. ونستحضر هنا كلمةً للسيد محمد باقر الصدر (رحمه الله)، وهي أن الطعن في الرجل يترك شيئًا في النفس، لا من جهة علميَّة، لكن تبقى هناك شائبة في نفس الباحث بمجرد أن يمرَّ اسمه. فعندما يأتي النجاشي ليتحدَّث في مثل هؤلاء، فإنه لا يكتفي بالتضعيف، بل يصفهم بأوصافٍ كثيرةٍ قادحةٍ فيهم، فلا يصحُّ أن نتجاوزه فهو خلاف العلمية، وهكذا الحال مع كلِّ عالمٍ له تأثيره في البحث العلمي، ولا ينبغي الاستهزاء والسخرية من الآراء المطروحة.
تنبيه:
لا يصحُّ التعامل مع الروايات بطريقة الاستهزاء، حتى إن وجدنا فيها ما لا يمكننا أن نقبله، وذلك لأننا نؤثر على باقي الروايات التي قد يكون فيها بعض الأمور الغريبة أو التي لا نتمكَّن من فهم مضمونها، فطريقة الاستهزاء هذه تؤسس للاستهزاء بمثل هذه الروايات وضربها.
الآن نبحث عن وجود رواياتٍ لهؤلاء في كتبنا أو لا، فيأتي أحد المعلِّقين على هذه الرواية ويقول: هؤلاء الرواة من المجاهيل لكنَّ المتن موافقٌ لرواياتنا.
وبعد ذلك نسأل: مع كون هؤلاء الرواة على هذه الحالة من الكذب والوضع والمجهولية، كيف روى عنهم علماؤنا؟
نقول أولًا: لأن المتن قرينةٌ يعتمدونها، وثانيًا: الميزان الذي وضعه أهل البيت (عليهم السلام) هو العرض على الكتاب والسنة المحكمة. فالنظر في السند كميزانٍ أولٍ فيه تكلُّف، فاحتجنا لمقبولة عمر بن حنظلة، وحديث أمير المؤمنين (عليه السلام) في الإسناد. أما مقبولة عمر بن حنظلة فتحتاج إلى ناقلٍ من باب القضاء إلى ما نحن فيه، وهذا النقل صار فيه زيادة فهذا تكلُّف.
ولنفترض الآن أن هناك راوٍ جلس في مجلس المعصوم وكتب ما قاله، ونُقل الحديث حتى بلغنا عن طريقٍ كله ثقات، وكان الحديث فيه بعض الأمور الغريبة، ماذا نفعل؟ لا نفهم الرواية، ولا يحقُّ لنا رفضها، فنتركها على جانبٍ ما دامت خاليةً من المخالفات الشرعية وما شابه.
س: هل نحتاج اليوم لعرض الروايات على الكتاب العزيز؟
في مسألة عرض الروايات على الكتاب والسنة قلنا سابقًا أن الذي يعرض على الكتاب والسنة هم أهل البيت (عليهم السلام) وخِيرة أصحابهم وخِيرة العلماء (رضوان الله عليهم)، وهذه المهمة قد تمت في القرون الثلاثة الأولى قبل بدء الغيبة الكبرى. لا يُعقل أن الأئمة والعلماء في تلك القرون لم يقوموا بهذه المهمة مع علمهم بما عَرَضَ على الروايات والكتب من تحريفٍ وكذبٍ ووضع، فهذه المهمة قد انتهت ولسنا بحاجةٍ إلى إعادة القضية. أما في زماننا فيمكن أن أعرض المشكوك -وهو نادر- على الكتاب والسنة إذا كنت عارفًا بالكتاب والسنة بالحد الذي يؤهلني للعرض.
بملاحظة حديث الثقلين -الوارد بألفاظٍ كثيرة ومضمونٍ متواتر- نحتمل أنَّ المُتمسَّك به إما أن يكون مُحكمًا، وإلا فالمتمسِّك إلى ضلال، فالضمان هو المتمسَّك به، فلا يعقل أن يقول الرسول (صلى الله عليه وآله) تمسكوا بهذا الأمر ثم لا يضع منهجًا لحفظه ويتركه عُرضةً للإسرائيليات والوضع والدس، هذه المسألة عقلائيةٌ فتنبَّه.
ثم إن العرض على الكتاب والسنة أحتاج فيها لأن أكون مالكًا للكتاب والسنة، فلا ضمانة في أن الذي أريد عرضه ليس هو جزءٌ مما يتمِّم الكتاب والسنة، فكيف أعرضه حينها مع كون المعروض مأخوذًا في موضوع المعروض عليه؟ وهذا غير ممكن، فالدليل هنا عقلي.
بعد جمع الروايات في الأصول والكتب، ثم في الموسوعات الحديثية الجامعة، جاء دور النسخ، فالأخطاء الواردة على النُسخ راجعةٌ للنسَّاخ لا لنفس الكتب والمجاميع الحديثية، فيأتي دور المقابلة والتحقيق، واستمرت العملية حتى تبلور علم التحقيق، والأخطاء الموجودة في الكتب اليوم قليلة.
{52} الرواية الحادية عشر: وعن محمَّد بن موسى بن المتوكِّل، عن محمَّد بن يحيى، عن محمَّد بن أحمد، عن عبد الله بن محمَّد، عن عليِّ بن مهزيار، قال: كتب أبو جعفرٍ (عليه السلام) في دعاء: يا ذا الذي كان قبل كلِّ شيءٍ ثم خلق كلَّ شيءٍ، الحديث.
قوله (عليه السلام): "يا ذا الذي كان قبل كلِّ شيء"، فيه أمرٌ زائدٌ عن الروايات السابقة نستفيده من قوله (كان)، فهي تدلُّ على الكينونة أي أنه موجودٌ بلا سابق.
قاعدتان:
الأولى: أنَّه كان قبل كلِّ شيء.
والثانية: أنَّه خلق كلَّ شيء.
{53} الرواية الثانية عشر: وعنه، عن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الصقر بن دِلف، عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام)، قال: يا ابن دِلف، إنَّ الجسمَ محدثٌ والله مُحدِثه ومُجَسِّمُه، الخبر.
الجسم مُحدَثٌ لأنه مركَّبٌ ومحلٌّ للحوادث، وهذه علامات الإمكان والحدوث. قال (عليه السلام): "والله مُحدِثه ومُجَسِّمُه"، فكلُّ جسمٍ مُحدَثٌ، وكلُّ جسمٍ مُحدَثٍ الله مُحدِثُه ومُجَسِّمُه، ولكنْ ماذا أحدث؟ وجوده أم ماهيته؟
إن الأصالة للوجود عند العدليَّة، لكن لا بما يظهر في هذا الوجود، والله مُحدِثُه؛ أي مُحدِثٌ لوجوده، ثم جسَّم هذا الوجود، وجَسَّم؛ يعني رَكَّب.
{54} الرواية الثالثة عشر: وعن علي ماجيلويه، عن عمِّه، عن محمَّد بن عليٍّ الصيرفي، عن عليِّ بن حماد، عن المُفضَّل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في كلامٍ يصف فيه الباري تعالى: كذلك لم يزلْ ولا يزال أبدَ الآبدين وكذلك كان إذ لم تكنْ أرضٌ ولا سماءٌ ولا ليلٌ ولا نهارٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ ولا نجومٌ ولا سحابٌ ولا مطرٌ ولا رياحٌ، ثم إنَّ الله أحبَّ أنْ يخلُقَ خلقًا يعظِّمون عظمته، الحديث.
قال (عليه السلام): "كذلك لم يزلْ ولا يزالُ أبدَ الآبدين"؛ أي هو قديمٌ وسرمد.
أما تعداد الظواهر الكونيَّة إما لأنها ظاهرةٌ للإنسان وفي نظره أنها الأصل التي لولاها لما رأى هذا الوجود، أو لأنها مصاديق للتعبير عن كلِّ شيء، وزوال هذه الأصول المشهودة للإنسان يعني لا شيء حينها فهي مرتبطةٌ بالزمان والمكان، وقد نتمكَّن من إرجاعها لإدراك الإنسان في هذا الوجود، بل وكلِّ إدراكات الإنسان مع شيءٍ من التدقيق مرتبطةٌ بها.
وأما التوفيق بين غاية عبادته الواردة في القرآن الكريم، وغاية التعظيم الواردة في الرواية فيكون بالقول بأن التعظيم عبادة.
قال (عليه السلام): "يُعظِّمون عظمته". قد يقال لأن عظمته سابقةٌ على الخلق، وقد يقال أن التعظيم بملاحظة العظمة الإلهيَّة الموجودة فعلا، لا تعظيم من يدَّعي العظمة وهو لا يستحقُّ التعظيم.
{55} الرواية الرابعة عشر: وعنه، عن عمِّه، عن البرقي، عن أبيه، عن أحمد بن النَضْر، عن عمرو بن شِمر، عن جابر، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: إنَّ الله تبارك وتعالى كان ولا شيء غيرَه، الحديث.
مرَّ مثله في الأحاديث السابقة.
{56} الرواية الخامسة عشر: وعن أبيه، عن محمَّد بن يحيى، عن محمَّد بن الحسين، عن ابن أبي عُمير، عن هشام بن سالم، عن محمَّد بن مسلم، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: سمعتُهُ يقول: كان الله ولا شيء غيرَه ولم يزلْ عالمًا بما كوَّن، فعلمه به قبل كَوْنه كعلمه به بعد ما كوَّنَه.
مرَّ مثله في الأحاديث السابقة.
{57} الرواية السادسة عشر: وعن الدقَّاق، عن الأسدي، عن محمَّد بن بشير، عن أبي هاشمٍ الجعفري، عن أبي جعفرٍ الثاني (عليه السلام) في حديث أسماء الله وصفاته، قال: إنْ قُلتَ: إنَّها لم تزلْ في علم الله وهوه مُستحِقُّها فَنَعَم، وإنْ كُنتَ تقول: لم يزلْ تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها، فمعاذَ الله أنْ يكونَ معه شيءٌ غيرُه، بل كان الله ولا مَعَهُ خلقٌ ثم خلقها وسيلةً بينه وبين خلقه، يتضرَّعون بها إليه.
الهاء في قوله "مُستحِقُّها" عائدةٌ على الأسماء والصفات.
في مباحث العقائد يسألون: هل العالِمُ عالِمٌ بنفسه أم لا؟ وهل يجب ضرورة؟
ثم ينتهون إلى إثباتها، وقد مرَّ الكلام عن الصفات أنَّها عين الذات، وعلمه تعالى هو بهذه الصفات، ولكنَّ علمه بصفاته لا يعني الاثنينية، وكونه يستحقها لا يعني أنه لم يكن يستحِقُّها ثم استحقَّها، بل هي اللائقة به على نحو الضرورة، ولا يليق به شيءٌ إلا هذه الصفات.
قال (عليه السلام): "وإنْ كُنتَ تقول: لم يزلْ تصويرها وهجاؤها"، فتكون قديمةً معه وهذا منفي، لذلك قال: "فمعاذَ الله".
قال (عليه السلام): "وتقطيع حروفها"، فهي -أي الأسماء- مُحدَثَةٌ لكنها معه، وعندما نقول لم تزل نجمع بين النقيضين، وأما معرفتها فبالدليل العقلي لكن لا كصفاتٍ وأسماء بل برَبِّ العزَّة، فهو عالمٌ وحكيمٌ ومحيطٌ وغنيٌّ إلى آخره من أسماء، لكنَّ التعبُّدَ بها فقط ولا نتجاوزها ونخترع أسماء وصفاتٍ من عند أنفسنا.
المعاني في الكلام نصل إليها بالدليل العقلي، لكنَّنَا لا نُطلِق الأسماء من عند أنفسنا، بل نتعبَّد بما جاء في النصوص، وهذا هو الفرق بين المتكلِّم والفيلسوف، فالمتكلِّم ينطلق من الروايات، أما الفيلسوف فيضع مصطلحاته الخاصة.
المقام الثالث: خلقها مُقطَّعَةً خطابًا للناس يُتوسَّل بها ويُتضرَّع بها إليه، وهي مخلوقةٌ وليست الأصل. أمَّا المقام الأول: فهي حقيقةُ الأسماء والصفات وهي عين ذاته تعالى. وأمَّا المقام الثاني: فنفي كونها قديمة.
{58} الرواية السابعة عشر: قال: ورُويَ أنَّ أميرَ المؤمنين (عليه السلام) سُئِل: أين كان ربُّنَا قبل أنْ يخلق سماءً وأرضًا؟ فقال: (أين) سؤالٌ عن مكان، وكان الله ولا مكان.
أجاب أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن السؤالَ غيرُ صحيح، لأن الأين للمكان، والله تعالى موجودٌ ولا مكان وهو خالقه.