بسم الله الرحمن الرحيم
نناقشُ في هذا المقال موضوعًا في غاية الأهميّة متشعب الجهات، عظيم الأثر، في تقديري لا يقبل الاختصار والإيجاز، لما يحفّه من إشكالات ومسالك وطرق، وإرهاصات ثقافيّة، موضوعنا هو الزواج.
هذا المقال لا يُراد به إقناع القارئ فيما يتعلق بأمر الزواج وتفاصيله، فللنّاس مسالكها وقناعاتها المرتبطة بهذا الموضوع بتفاصيل لا شأن لنا في الخوض فيها، ولا يخفى أنّ كل إنسانٍ لهُ حريّة الاختيار، فالله سبحانه وتعالى لم يلجئهُ إلى خيارٍ من الخيارات، وإنّما أرشدهُ للخيار الأقوم لمن أراد أن يختاره من غير قسرٍ عليه.
إنّنا في هذا المقال نستعرضُ السنّة الشريفة المنيفة، ونطرحها كخيارٍ لمن أراد أن يختارها، لمنْ أراد أن يعمل بها تفصيلاً، أو العمل بها ولو في الجملة بقدر مستطاعه ووسعه.
ومن هنا نقولُ: لا ينبغي أن نصادم بين الواقع والسنّة العزيزة بما يؤدي لتأويلها أو تخصيصها بزمانٍ دون زمان أو إنكارها، إنّنا نريد المقاربة بين الواقع والسنّة، ونحتذي بالسنّة كمثالٍ، فنطابق واقعنا على وفقها، لا أنْ نؤول السنّة بحسب الواقع.
لك أنْ لا تأخذ بالسنّة؛ لأنّها تتضمن الترخيص، لكن ليس لأحدٍ أن ينكرها أو يستنقصها أو يؤولها حسب ما يريد، وإنْ كانت تعارضُ حالاً من الأحوال لا خلاص منه بالنسبة لأحدٍ من النّاس فينبغي له أن يلتزم بما يستطيع؛ لأنّ الضرورة تقدر بقدرها، وإنْ لم يقدر على شيءٍ منها فلا يجعل قناعته على خلافها، ولا دعوته لما هو ضدٌّ لها، وهو في حال الضرورة والحرج في مورد العذر والترخيص شرعًا.
هذه هي مقدمة المقال، وأرجو من القارئ الكريم أنْ يُجري ويسرِّي هذه المقدمة في كلِّ مفصلٍ من المفاصل التي نطرحها، لكي لا نقع في المحذور والإشكال الذي نريد أن تجنّبه.
الزواج: هو الطريقة الشرعيّة عند العقلاء لتكوين علاقة خاصّة بين رجل وامرأة على أن يكون الرجل زوجًا لتلك المرأة، وهي بالعكس له.
إنّ العقلاء على مرِّ العصور والدهور في سيرورتهم وسيرتهم وعرفهم لهم طريقة شرعيّة لتكوين هذه العلاقة على اختلاف أديانهم ومجتمعاتهم.
والمخالفة لهذه الطريقة عمومًا تتحقق بوجهين:
الأول: أن لا تكون العلاقة بين رجل وامرأة، بل بين الأمثال.
الثانية: أن تكون العلاقة غير شرعيّة، بمعنى أنّها غير منضبطة بضوابط الدين أو أعراف المجتمع الذي ينتمي إليه الفرد.
هذا فيما إذا اختار الإنسان أن يكوّن علاقة خاصة من هذا النوع، فقد يختار خيارًا آخر وهو أن لا يكوّن علاقة شرعيّة ولا غير شرعيّة، فيترهّب أو يتصوّف أو ما شاكل ذلك من هذه المسالك.
في هذا السياق المرتبط بالمسلك الذي قد يختاره الإنسان ينتخب الإسلام للنّاس الزواج كسنّة، فاختار أن يحافظ على سيرة العقلاء من وجود طريقة شرعيّة وطريقة غير شرعيّة، وأرسى عرف العقلاء وسلك مسلكهم بالمحافظة على اعتبار الطريقة الشرعيّة، ونبذ الطريقة المخالفة والترغيب عنها سواءً كانت بتكوين علاقة لا عن طريق الزواج أم بترك التزويج.
عندما اختار الإسلام هذا المسلك أقام عرف الأمّة الإسلامية على سننٍ خاصّة، فبعد أن أمضى أصل عقد الزوجيّة قنّن قوانين وسنّ سننًا تسبقه وتعقبه وتتوسطه، وأجرى الأمّة عليها عمليًّا.
إنّ المصلحة في الزواج ترتبط بحيثيات عديدة تعودُ لعرف العقلاء، وعرف الأمّة الإسلامية، كما أنّها تعودُ للفرد نفسه في دنياه، وأخراه.
ومن هنا كانت الإشكاليّات والمشكلات التي تواجه هذه السنّة العظيمة تؤثر سلبًا على العرف العام والخاص والأفراد، وهذا ما سنناقشه.
الخلل في سيرة العقلاء
إنّ الميل الطبيعي والميل المحترم عند العقلاء هو ميل الرجل للمرأة لا ميل الأمثال للأمثال، وذلك لانتفاء الغاية المطلوبة من العلاقة الخاصة، ولانحراف هذا الميل عن التكوين الجسدي الطبيعي للإنسان، ولاستقباح الذوق السليم له.
ولو حصل ميلٌ غير محترم عند أحدٍ من الناس فإنّ مجتمع العقلاء يُقبِّح ذلك الميل ولا يرتضيه ويمنعهُ، هذا فيما إذا كان الميل بين رجلٍ ورجلٍ أو امرأةٍ وامرأةٍ، أمّا لو كان الميل بين رجل وامرأة فلابد أن تكون العلاقة بينهما على وفق الميزان والقانون العقلائي، فلو لم يكنْ على وفق ذلك لم تحصل العلقة الزوجيّة بين الطرفين وإنْ مورست كل الممارسات الخاصة، فإنّ تلك الممارسات في عرف العقلاء ليست في حيز الإباحة والشرعية، ويُمثِّل ذلك مجاوزةً لقانون الزوجية المعتبر عند العقلاء، فإنْ كان هذا القانون في مجتمعٍ من المجتمعات العقلائية له سلطته ومكانته واحترامه أصبحت هذه العلاقة مذمومة ومستقبحة، وإلّا إنْ لم يكن حاكمًا ولا محترمًا فجدوائيته وقانونيته مفقودة، وعندئذٍ يكون الاختلال في المجتمع، لاختلال قوانينه القائمة على المصالح والمفاسد العقلائية العامّة التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان.
إنّنا نتعرّض لهذه القضية لأنّنا نواجه إشكالية معاصرة وهي الترويج وإشاعةُ هذين المسلكين: (اكتفاء الأمثال بالأمثال، والعلاقة غير الشرعية بين الرجل والمرأة) بالتقنين والتشريع والتماس المبررات وإشاعتها في الإعلام والترويج العملي لها.
إنّ ما يتمّ الترويج له وإشاعته ينافي المسار الطبيعي للإنسان السوي، وينافي الغايات المهمّة والجادة في الحياة البشريّة، فالاكتفاء بالأمثال ينافي المسار المطلوب من الإنسان المرتبط بإبقاء النوع البشري، وتحقيق الاتصال الذي يحتاجه الإنسان في بنيته النفسية والجسدية، وحرف المسار البشري لهذه الطريقة إفسادٌ في العرف العقلائي من حيث ما يستحسنه الناس وما يستقبحونه، وتفويت للمصلحة العامة مع ما في ذلك من المفاسد.
أمّا تكوين العلاقات من غير الطريق الشرعي –الأعمّ من الديني وغيره- ففيه إفسادٌ للمسار العقلائي من احترام نظام الزوجية، خصوصًا مع الظاهرة الحاصلة من إباحةِ ما يُفقد الخصوصية الزوجية، ويسقط عنوان الزوجية عن اعتباره، من كشف المستور وإظهاره مما هو خاصٌّ بالعلاقة الزوجية، فالعرف العقلائي يعتبرُ عنوان الزوجيّة عنوانًا تترتب عليه جملة من المترتبات الخاصة، وبالإفساد الحاصل في المجتمعات اليوم قد قُلّصت هذه الخصوصية، وعُمِّم ما هو خاصّ، فلو توجّه العاقل بما هو عاقل لأثر هذا التعميم لما هو خاص لوجده قادحًا ومخلًّا بعنوان الزوجية بما يفقده خصوصيته، ويحقق المساواة في الجملة بين الزوجة وغيرها، ويَقبُحُ ذلك عند العقلاء، لما فيه من إخلالٍ بقانون الزوجية.
الخلل اللاحق بعرف الأمّة الإسلامية
إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) قد أرسى وأجرى الأمّة الإسلاميّة على عرفٍ خاصٍّ يتعلّق بالزواج، وأراد له البقاء في الأمّة، إنّ هذا العرف عبارة عن مجموعة من السنن إذا تأمّلها الإنسان وجدها ترتبطُ بالغايات المهمّة في حياة الإنسان، وترتبط بالمصلحة العامّة للنّاس، وترتبط بصالح الرجل والمرأة.
إنّ هذه السنن التي أكّد عليها نبيُّ الإسلام تُسهِّلُ باب الهداية والصلاح، وتفتح له باب الخير في الدنيا والآخرة، وكلُّ هذه السنن ترتبط بسنّة الزواج.
إنّ الإسلام يتعامل مع الزواج على أنّه محورٌ في نظم العلاقات البشريّة فيما يرتبط بصلاحها واستقامتها، فلذا حفّه بمجموعة من السنن التي تحددُ مسار البشريّة، وهدفها، وغايتها، فلا يُراد من المجتمع الإنساني على وجه العموم، والمجتمع المسلم على وجه الخصوص أن يكون مجتمعًا منتجًا للربح والمال، بل مجتمعًا منتجًا للفضيلة والخلق والإيمان والهدى، فهو لا ينظر إلى النّاس على أنّهم أرقام تنتج أرقامًا، لا ينظرُ لهم بأنّهم آلات لتوليد الربح بالدرجة الأولى وكسبه بالدرجة الثانية لتوليده مرةً أخرى في عمليةٍ يُراد بها مضاعفة الأرباح، بل ينظرُ للبشر بما هم بشرٌ، لهم حاجاتهم النفسية والجسدية، ولهم غاية سامية عليا هي رضا الله سبحانه وتعالى حاكمةٌ على كل أهدافهم وغاياتهم، وترجُحُ على كل شيءٍ ينافيها.
إنّ سدّ الطريق على تطبيق هذه السنن هو تعطيلٌ لما يهدف له الإسلام من عموم الخير الذي يلازم تطبيقها، وهذه هي الإشكالية التي نواجهها اليوم.
ونتطرق في المقام لمجموعةٍ من هذه السنن المهمّة ونجيب على بعض ما يُدار حولها.
السُنّة الأولى: سنّ الزواج
قبل الخوض في السنّ الذي حددته الأخبار الشريفة نقول: إنّنا نواجه إشكاليّة ثقافية من جهتين:
الأولى: قبول السنّ المحدد في الأخبار.
الثانية: العمل والتطبيق لهذه السنّة.
أمّا الجهة الأولى فنقول فيها: إنّ هنالك إشكالًا معقدًا في نظام الحياة اليوم يحتاج إلى معالجةٍ لتعقّل السنّ الذي تحدده النصوص الشريفة، فلو اختلفت التنشئة والتربية لأصبح الأمر معقولًا جدًا، وعندما نتكلم عن التربية فإنّنا نتكلم عن مسار ثقافي عامّ لا يرتبط بالعائلة بالدرجة الأولى، وإنْ كان للعائلة دخالتها في الجملة، فإنّ الحياة اليوم قائمة على أمورٍ أثّرت بما يمنع من تقبل ما تطرحه الروايات، ولا يلزم من هذا كون هذه السنّة سنّة نسبيّة تختلف باختلاف الزمان والمكان.
إنّ العلة في عدم تقبّل هذه السنّة هو اختلاف الزمان والمكان لا من حيث كونهما بعدين متغيرين، بل لأجل التغيرات الثقافية واختلاف نظام الغايات في المجتمع، ولو يُعالج ذلك لكانت السُنّة في غاية المعقولية والمنطقية.
فما نقرُّهُ هو وجود خللٍ في نظام الغايات في المجتمع هو سببٌ مؤثرٌ في تعقل وقبول السنّة الشريفة، فلا يُقال أنّ هذه السنّة غير صالحة لهذا الزمان أو لذاك المكان، بل عدم الصلاح متعلّقٌ بالمجتمع وثقافته، لأنّه لم يتمكّن من إقامة السنّة أو لم تكن مقبولةً عنده.
أمّا الجهة الثانية وهي تطبيق السنّة والعمل بها، فنقول فيها: إنّ تعسّر وصعوبة الإلتزام بالسنّة يُقدَّر بقدره وحدوده، لأنّ الضرورات تعامل على هذا الوجه، فمن غير الصحيح التمسّك بالضرورة والعسر في نفي السنّة من أصلها، وإسقاطها عن العمل، فعروض عناوين ثانويّة لا يسقط السنّة مطلقًا، بل يُقدّر ذلك بقدره.
إذا اتضح هذا نتناول السنّ الذي حددته الأخبار لزواج البنت، وممّا دلَّ عليه من الأخبار الخبران التاليان:
الخبر المروي في الكافي الشريف: «إنّ الله عزّ وجلَّ لم يترك شيئًا ممّا يُحتاج إليه إلّا علّمه نبيه (ص) فكان من تعليمه إياه أنّه صعد المنبر ذات يوم فحمدالله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها النّاس إن جبرئيل أتاني عن اللطيف الخبير، فقال: إنّ الأبكار بمنزلة الثمر على الشجر، إذا أدرك ثمارها فلم تجتن أفسدته الشمس ونثرته الرياح، وكذلك الأبكار إذا أدركن ما يدركن النساء فليس لهنّ دواءٌ إلّا البعولة، وإلّا لم يؤمن عليهنّ الفساد؛ لأنهنّ بشر».
ومما روي عن أبي عبدالله الصادق (ع) قوله: «من سعادة المرء أنْ لا تطمث ابنته في بيته».
إنّ الخبر الأول مفادهُ أنّ المرأة يلحقها الفساد كما يلحق الثمر إذا لم يجتنَ، وفي الخبر الثاني جعل طمث البنت -أي حيضها- في بيت زوجها من سعادة أبيها بها، ومن جهات هذه السعادة هو الصلاح الحاصل من اجتناء الثمر في وقته وتأمينه وحفظه، فالسلامة الجسديّة والنفسية للمرأة مرتبطة بوصولها الغاية الإنسانية المطلوبة منها وهي البعولة والأمومة.
وظاهر الخبرين هو مطلوبيّة المبادرة والمسارعة في تزويج النساء وعدم تأخيرهن.
بعد ذكرنا للنصين ودلالتهما نقولُ مجددًا إلفاتًا لهذا الباب من أبواب الهداية والصلاح لمن أراد أن يختاره من الآباء والأمهات والبنات: إنّ السنّة في تبكير الزواج في أول أوقات إمكانه، وعروض العناوين الثانوية لا يُسقط سنّة التعجيل ويقيم سُنّة التأجيل، بل تبقى هذه السنّة جارية، فالفضيلة هي في تقديم الزواج على غيره من المهمّات والغايات الأخرى، والعسر والحرج والضرورة كلها تقدر بقدرها، فإذا كان بالإمكان أن تزوّج البنت وهي في السنّ الثامنة عشر فإنّ تأخيرها إلى الخامسة والعشرين على خلاف سنّة الرسول (ص)، فإنّه ينبغي على الأولياء أن يفتحوا باب الزواج للبنت في أول أوقات إمكانه، وأن يجعلوه خيارًا من خياراتها، وأن يقنعوه بها، لكي لا تفوتها المصلحة التي يريدها الرسول (ص) لنساء أمّته، والأولياء أمناء على بناتهم، وينبغي أن يكونوا على قدر الأمانة بتبليغ ما ينبغي عليهم تبليغه.
ومن ذلك يُعلم أنّ من الخطأ ترغيب النساء عن هذه السنّة وصرفهنّ عنها، ودعوتهنّ لمخالفتها بتأخير الزواج، ولا ينبغي أن تكون الحالة العامّة عند النساء هي على هذا الحال المخالف للسنّة الشريفة.
السُنّة الثانية: التكافؤ بين المؤمن والمؤمنة
سُئل الرسول (ص) على المنبر عند حديثه عن الزواج: «يا رسول الله فمن نزوّج؟»
فقال: «الأكفَاء».
فقال: «ومنْ الأكفَاء؟».
فقال: «المؤمنون بعضهم أكفَاء بعض، المؤمنون بعضهم أكفَاء بعض».
إنّ الرسول (ص) بنى سنّة الزواج على كون المؤمن كفؤ المؤمنة من غير مزايا زائدة، فلا المال ولا المكانة الاجتماعيّة ولا غيرهما له خصوصية في المنع من الزواج، ولإرساء هذه السنّة وتسرية هذا الفكر وترويج هذه الثقافة زوّج الرسول (ص) المقداد بن الأسود بن ضباعة، بابنة الزبير بن عبد المطلب، وقد تكلّم بنو هاشم في هذا الزواج، فقال رسول الله (ص): «إنّي إنّما أردتُ أن تتضع المناكح».
فقد صنع ذلك الرسول (ص) ليتأسّى به النّاس، وليعلموا أن الكرامة هي بالتقوى لا غير ذلك من الاعتبارات البشريّة.
إنّ الطريقة العقلائيّة العامّة في تكوين العلاقات الزوجيّة تابعة لحصول الإعجاب والرضا من الطرفين بذلك، غير أنّ الشارع بعد أنْ أقرّ هذه الطريقة قد ضبط الأمر بالحثّ والترغيب على ذي الدين والخُلُق من الرجال وذات الدين من النساء، والدعوة لتجنّب منْ لا دين لهُ من الرجال والنساء وإنْ امتاز بمزايا مشجعةٍ على اختياره.
إنّ مقتضي القبول متحققٌ في ذي الدين والخلق، فلا يرفضُ إلّا لعلة معتدٍ بها عند العقلاء ويرتضيها الشارع المقدس، فعن أبي حمزة الثمالي في حديث قال: «كنتُ عند أبي جعفر (ع) فقال له رجل، إنّي خطبتُ إلى مولاك فلان بن أبي رافع ابنته فلانة، فردني ورغب عني وازدرأني لدمامتي وحاجتي وغربتي، فقال أبو جعفر (ع): اذهب فأنت رسولي إليه، فقل له: يقول لك محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب زوِّج منجح بن رياح مولاي بنتك فاطمة، ولا تردّه».
وقد كتب أحدُ الأصحاب إلى الإمام (ع) كتابًا يسأله فيه عن النكاح، فكتب له: «منْ خطب إليكم فرضيتم دينته وأمانته فزوّجوه، إلّا تفعلوه تكنْ فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير».
إنّ اختلال المعيار في القبول والرفض يؤدي إلى فساد كبير كما يصرّح بذلك الخبر، ومن وجوه ذلك تعسيرُ طريق الزواج بما يفتح المجال للطرق الأخرى، وفوات المصلحة الاجتماعية المترتبة على استقرار النفوس واطمئنانها وتحصّن الرجال والنساء، والتأخر في تحصيل فضل الزواج بقسميه الدنيوي والأخروي.
السنّة الثالثة: اختيار المرأة للتبعّل
قد تختار المرأة التبتل وترك الزواج، وقد تختارُ تأخيره في قبال غاية تريد الوصول إليها، أمّا التبتل فقد ورد فيه هذا الخبر عن أبي عبدالله (ع): «نهى رسول الله (ص) النساء أن يتبتلن ويعطلن أنفسهنّ من الأزواج»، وأمّا تأخير الزواج فإنّ نظام الغايات والأولويات والمهمات عند الشارع المقدس يحث على الزواج في قبال الغايات الأخرى إنْ زاحمته، ويعدُّ التبعّل جهاد المرأة، ففي الخبر: «جهاد المرأة حسن التبعّل»، وفي تأخير الزواج فواتٌ للمصلحة الدنيوية من الاستقرار النفسي، وانفتاح باب الرزق والخير والبركة والوِلد، والمصلحة الأخروية من الثواب والأجر.
فالمسنون بالنسبة للمرأة هو التبعّل لا غير ذلك من الغايات فقد حددت الروايات موضع خدمة المرأة في المجتمع بما قبل باب منزلها، أي يدور مدار ذلك ولا يتعدّى لخارج المنزل، فعن أبي عبدالله (ع) عن أبيه (ع) قال: «تقاضى عليٌّ وفاطمة إلى رسول الله (ص) في الخدمة، فقضى على فاطمة (ع) بخدمتها ما دون الباب، وقضى على عليٍّ (ع) بما خلفه.
قال: فقالت فاطمة: فلا يعلم ما دخلني من السرور إلّا الله بإكفائي رسول الله (ص) تحمّل أرقاب الرجال».
السنّة الرابعة: تقليل المهور
قال الشيخ محمد حسن النجفي (رحمه الله) في كتابه جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: ” (ويستحب تقليل المهر) بلا خلاف كما في المسالك، لقوله (ص): «وأفضل نساء أمّتي أصبحهنّ وجهًا وأقلّهنّ مهرًا» و «إنّ من شؤم المرأة كثرة مهرها»، (و) «إنّ أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة» بل (يكره أن يتجاوز) مهر (السنّة، وهو خمسمائة درهم) لأنّه (ص) كما حكاه الباقر (ع) عنه «لم يتزوّج ولا زوّج بناته بأكثر من ذلك» و «قد أمر أن يسنّ ذلك لأمته ففعل»، وحينئذٍ فما زاد عليه فهو شؤم المرأة الذي هو كثرة مهرها، وفي خبر حسن بن خالد عن أبي الحسن (ع): «أيّما مؤمن خطب إلى أخيه مؤمنة وبذل له خمسمائة درهم فلم يزوجه فقد عقّه واستحقّ من الله أن لا يزوّجه حوراء»” اهـ.
فالسنّة قد ثبتت بتقليل المهر، وأنْ لا يتجاوز من حيث الزيادة خمسمائة الدرهم، حتى قال السيد المرتضى (رحمه الله) في كتاب الانتصار: “وممّا انفردت به الإمامية أنْ لا يتجاوز بالمهر خمسمائة درهم جياد قيمتها خمسون دينارًا، فما زاد على ذلك ردَّ إلى السنّة”، وقد جاء في الخبر الذي رواه الشيخ الطوسي بإسناده إلى المفضل بن عمرو قال: «دخلت على أبي عبدالله عليه السلام فقلت له: أخبرني عن مهر السنّة الذي لا يجوز للمؤمنين أن يجوزوه؟ قال: فقال: السنّة المحمّدية خمسمائة درهم فمن زاد على ذلك رُدَّ إلى السنّة»، وهذا الخبر محمولٌ على تأكّد الاستحباب، لا عدم جواز الزيادة، وإنْ كانت الزيادة على ذلك مرجوحة شرعًا.
(والدرهم الواحد يساوي 2 غرام و 6 من عشرة من الفضة).
هذا من حيث حد الكثرة في المهر وهو أن لا يتجاوز الخمسمائة درهم، وأمّا من حيث القلة فقد ثبت استحباب القلة وثبوت الفضل فيها ما لم تبلغ الحد الذي يذكره هذا الخبر عن علي (ع):«إنّي لأكره أن يكون المهر أقل من عشرة دراهم لئلا يشبه مهر البغي».
وقد أقام الرسول (ص) هذه السنّة وجرى عليها، وطبقها على زواجِ عليٍّ (ع) بابنته الصديقة فاطمة (ع) حتى قال النّاس ما قالوه في ذلك، ففي الخبر المروي عن جابر قال: «لمّا زوّج الرسول (ص) فاطمة من علي (ع) أتاه النّاس فقالوا له: إنّك قد زوّجت عليًّا بمهرٍ خسيس».
ولا يخفى على أحدٍ أنّه ما من كفءٍ من الخلق لفاطمة (ع) غير علي (ع)، فهي قد بلغت من الفضل والمقام والشأن ما لم يبلغه أحد من نساء العالمين، وهي مع ذلك زوّجت بالمهر الذي وصفه الناس بالخسيس.
السنّة الخامسة: تخفيف المؤنة
إنّ التكاليف الزائدة التي يُعلّق عليها أمر الزواج تعيقُ من التعجيل والمبادرة إلى هذه السنّة العظيمة، ففي كثرة المصروفات المطلوبة والاشتراطات تضييقٌ على المكلّفين في تحصيل الفضل والخير بما يفوّت عليهم المصلحة، وإذا كانت الحالة عامّة مستشرية فإنّ الفوات يكون عامًّا، بل قد يكون موجبًا للمفسدة، ولا يخفى أنّ تعسير هذا الطريق تعسيرٌ لطريق الصلاح والهداية، وقد جاءت السنّة بتخفيف المؤن المرتبطة بالزواج، فعن أبي عبدالله (ع) قال: «من بركة المرأة خفّة مؤنتها وتيسير ولادتها، ومن شؤمها شدة مؤنتها وتعسير ولدها»، فالبركة تحلُّ وتعمُّ مع خفّة المؤنة، وأمّا مع شدتها فيحلُّ الشؤم، وهذا ينافي أصل الغاية المطلوبة من الزواج من تحقيق الاستقرار والمودة والرحمة بين الطرفين باعتبار أنّه قد ابتُدأ بالشؤم أو ما يسبب حلوله وهو شدة المؤنة وثقلها، فمنْ أراد لابنته سلوك هذه الغاية بما يحقق البركة ويُبعد الشؤم فعليه أن يخفف المؤنة على الزوج، ويُرشد ابنته لأنْ تخفف ذلك أيضًا، والعاقل يختارُ الطريقة التي تبارك له في حياته، ويتجنّب الطريقة التي تحقق الشؤم، على أنّ النّاس قد تسلك طرقًا من هنا وهناك لرفع الشؤم المتوهّم، وهذه الرواية تصرّح بالشؤم بما يحقق العلم به، وتصرّح بكيفية رفعه فهي أولى بالاتباع.
ولو نلاحظ هذا الخبر الشريف ونتأمّله لوجدنا اليُسر والسهولة التي بُني عليها الزواج في السنّة الشريفة، حيث يبيّنُ لنا الخبر طريقة أئمتنا الأطهار(عليهم السلام) في ذلك: سأل عبيد بن زرارة الإمام الصادق (ع) عن التزويج من غير الخطبة، -أي الكلمة التي تُلقى قبل إجراء عقد الزواج- فقال: «أوليس عامّة ما تتزوّج فتياتنا ونحن نتعرّق الطعام على الخوان نقول: يا فلان زوّج فلانًا فلانة، فيقول: قد فعلت».
التعرّق هو أكل اللحم الذي على العظم، والخوان: المائدة.
إنّ هذا الخبر الشريف واردٌ في مقام بيان حكمٍ شرعيّ وهو حكم الخطبة لأجل العقد، وقد بيّن الإمام (ع) بيانًا زائدًا فيما يتعلق بطريقة إجرائهم للعقود ويُسرها من غير تكلّفاتٍ زائدة، وهو محلُّ الشاهد.
ونحتاج في المقام إلى التنبيه إلى أمرٍ وهو الفرق بين العقد والعرس، فالأول لم يكن الأئمة (ع) يتكلفون فيه كما يظهر من الخبر، وأمّا الثاني فهو الإعلان عن دخول الرجل بزوجته، والذي تقام لأجله الوليمة استحبابًا، وتقترنُ به وتُقامُ له المراسم المعهودة من إظهار الفرح والسرور، وغير ذلك.
ومن جملة الأمور التي نظمها الشارع المقدس هو إقامة الولائم في الأعراس، والوليمة للعرس أحد الولائم الخمس المسنونة كما في جاء في الخبر المسند إلى الرسول (ص) عن طريق ابنه الرضا (ع): «لا وليمة إلا في خمس: في عرسٍ أو خرس أو عذار أو وكار أو ركاز».
وهنا يُطرح هذا السؤال: هل تختصُّ الوليمة بوقت الزفاف على وجه التحديد فلا تستحب وقت إجراء العقد أو لا؟
قال الشيخ يوسف (رحمه الله): “قالوا: وقتها يعني في العرس عند الزفاف، وأقله مسماه، وأكثره يوم أو يومان، وتكره الزيادة.
أقول: أمّا ما ذكروه من أنّ وقتها عند الزفاف فإنّ فيه أنّ ظاهر خبر وليمة النجاشي عن النبي صلى الله عليه وآله المتقدم أنّ الوليمة إنّما كانت عند العقد، حيث إنّه صلى الله عليه وآله جعل النجاشي وكيلًا عنه في تزويجه بها، والدخول بها إنّما وقع في المدينة” [الحدائق الناضر ج23/ ص31].
والخبر الذي يذكره الشيخ البحراني مرويٌّ في الكافي عن الوشاء عن أبي الحسن الرضا (ع) قال: سمعته يقول: إنّ النجاشي لمّا خطب لرسول الله (ص) أم حبيبة بنت أبي سفيان فزوّجه دعا بطعام، وقال: «إنّ من سنن المرسلين الإطعام عند التزويج».
وقال الشيخ يوسف (رحمه الله) أيضًا: “وظاهر خبر وليمة زينب بنت جحش إنّما هو بعد الدخول” أي أنّه لم يكنْ عند العقد ولا عند الدخول وزفاف المرأة” [نفس المصدر].
ولعلّه قد توسّع الشارع المقدس وتسامح في توقيت الوليمة لأجل العرس، فلم يحصر وقتها في وقت الزفاف والدخول، فإذا أقيمت عند العقد كما في زواج الرسول (ص) من أم حبيبة أو بعد الدخول كما في زواجه من زينب بنت جحش صدق على ذلك أنّه إطعام عند التزويج بتنزيلٍ من الشارع لذلك كما هو ظاهر ما قاله الرسول عند عقده على أمّ حبيبة: «إنّ من سنن المرسلين الإطعام عند التزويج».
وأمّا ما جاء من الأخبار في الوليمة يومًا ويومين وثلاثة فمنها الخبر المروي عن أبي عبدالله (ع) قال: «قال رسول الله (ص) الوليمة أول يوم حق، وبيومين مكرمة، وثلاثة أيام رياء وسمعة».
السنّة السادسة: الإعانة على الزواج
قال الإمام الصادق (ع): «منْ زوّج أعزبًا كان ممّن ينظر الله إليه يوم القيامة».
وعن الحسن بن سالم قال: «بعثني أبو الحسن موسى (ع) إلى عمّته يسألها شيئًا كان لها تعين به محمد بن جعفر في صداقه، فلمّا قرأت الكتاب أعطتنيه فإذا فيه، إنّ لله ظلًّا يوم القيامة لا يستظلّ تحته إلا نبي أو وصي نبي –إلى أن قال- أو مؤمنٌ كفَّ أيمة مؤمن» أي رفع عنه العزب بالتزويج.
إنّ الإعانة على الزواج بأيّ وجهٍ من الوجوه أمرٌ مطلوبٌ شرعًا، لأنّه إعانةٌ على الخير عمومًا، وقد دلَّ الخبران السابقان على ذلك خصوصًا، وينبغي أن تكون الإعانة والتسهيل للزواج حالة ثقافية عامّة، فما إنْ يشبّ الشاب يكون في جوٍّ يحثه على تعجيل الزواج وتهيئة مقدماته، ولا يحبّطه عن ذلك ويبعّده، فإنّ أُولى المعسّرات والمعوّقات للزواج هو الحالة الثقافية العامّة من عدم وقوف الأهل والأصحاب والمجتمع مع الشاب في فكرة الزواج، فينبغي على الأب أن يفتح أمام ابنه الأبواب التي تعينه على العمل بهذه السنة وتطبيقها وتعجيلها، ولو بالاقتراح والحثّ والترغيب، وكذلك ينبغي على الأم ذلك.
ولو لاحظ النّاس ما في هذا الخبر واعتقدوا به لما صعب عليهم أمر الزواج، ففي الخبر عن الصادق (ع): «منْ ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء بالله الظنّ»، فينبغي على منْ يؤمن بالله سبحانه أن يكون على يقينٍ بأنّ الله سبحانه كافلٌ له ولمن يعوله، وهو الرازقُ وحده سبحانه.
وكذلك ينبغي أن تحثّ الشابات على الزواج، وأنْ تقرّب هذه الفكرة من أذهانهن ونفسياتهن، ليتهيئن لقبول المؤمنين الذين يتقدمون لهنّ، ومن الأدب الشرعي أنْ لا يُردّ المؤمن من غير أمرٍ مقبولٍ عند الشرع، بل قد يترتب على ولي البنت ما جاء في الخبر الذي مرَّ ذكره «أيّما مؤمن خطب إلى أخيه مؤمنة وبذل له خمسمائة درهم فلم يزوجه فقد عقّه واستحقّ من الله أن لا يزوّجه حوراء»، وعدم تهيئة البنات لهذا الأمر يوقع الآباء في هذا الموقع الذي لا ينبغي أن يقعوا فيه.
والإعانة على الزواج كما تكون من الخطوات الأولى وتنشئة الفكرة في ذهن الشاب والشابة تكون عند حصول المقبولية والرغبة في الزواج، فينبغي أن تتعاون العائلتان على تيسييره وتخفيف مؤنه مهما أمكن عند المواساة.
وكيفية التيسيير والتخفيف وتفاصيله يختلف باختلاف الأعراف والأزمان، ويرتبط بتشخيص المكلفين، فالمطلوب شرعًا هو تحقيقُ هذا الأمر العامّ، فلاحظ ذلك أخي العزيز لدفع ما قد يجري على الألسن من أنّ هذه السنّة غير صالحة للعمل، ولكي لا تترك السنّة بأمثال هذه الحجج وتهجر وتموت، فيجري عرف الناس على الخطأ، ويصير ما اعتادوه هو السنّةً والطريقة المحمودة، فإنّ ذلك من تسويلات الشيطان وخطواته قطعًا.
إنّ سنّة الزواج أُقيمت من الرسول (ص) والأئمة (ع) على هذه المسنونات العظيمة، وقد أقامها (ص) على أنّها الطريقة المحمودة والعرف الذي ينبغي أن يُتبع، وقد دلّت النصوص على فوات المصالح العقلائية والشرعيّة عند هجران هذه السنن، بل قد دلّت على ترتب المفسدة.
وعليه إنّ المسؤولية الملقاة على المسلمين تجاه هذا التأسيس العظيم من الرسول (ص) مسؤولية خطيرة، حيث إنّه قد تبينَ ارتباطه بعرف العقلاء وعرف الأمّة ارتباط الصلاح والفساد، فالانحراف عن هذا المسلك مع معرفته والدراية به هي كما ترى تعمّد في إفساد عرف العقلاء وعرف الأمة، ولذلك بالغ الأثر السلبي على نظام الغايات والأولويات عند الشرع تعقلًا وعملًا، ونظام المجتمع وغاياته من حيث المطابقة للشرع وعدمه، واستقرار المجتمع المؤمن، ومع ذلك يفتح باب المعصية، ويفوّت الثواب والأجر، ويفوت الآثار الغيبية المترتبة على الزواج من الخير والبركة.
المصلحة العائدة على الزوجين
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).
تفيدُ الآية الشريفة أنّ خلق الأزواج وإقامة نظام التزاوج لتحقيق السكنى والاستقرار والاطمئنان، فإنّ الرجال يحتاجون إلى مأوى يسكنون إليه، وليس لهم من خلقتهم إلّا النساء، والمرأة بدورها تحتاج إلى منْ يسكنُ إليها ويقيم أمرها ويصلح شأنها، ولهذه الحاجة والنقص يتحرك الواحد منهما إلى الآخر حتى إذا اتصل به سكن إليه، ويشيرُ إلى ذلك ما جاء في هذا الخبر الذي يروي لنا المحاورة التي حصلت بين الله سبحانه وبين آدم (ع) عندما خلق الله سبحانه حواء «قال آدم: يا ربِّ ما هذا الخلق الحسن فقد آنسني قربه والنظر إليه، فقال الله: يا آدم هذه أمتي حوّاء أفتحبُّ أن تكون معك تؤنسك وتُحدثك، وتكون تبعًا لأمرك؟ فقال: نعم، يا رب ولك بذلك عليَّ الحمد والشكر ما بقيت، فقال الله عز وجل: فاخطبها إليَّ فإنّها أمتي، وقد تصلح لك أيضًا زوجة للشهوة، وألقى الله عليه الشهوة وقد علّمه قبل ذلك المعرفة بكل شيء، فقال: يا رب فإني أخطبها إليك فما رضاك لذلك؟ فقال الله عز وجل: رضاي أن تعلّمها معالم ديني، فقال: ذلك لك عليَّ يا رب إنْ شئت ذلك لي، فقال الله عزّ وجل: وقد شئت ذلك وقد زوّجتكها فضمّها إليك».
فإنّ احتياج الرجال للنساء وبالعكس لا يرتبط بالشهوة حصرًا، بل الظاهر من الخبر تأخّر الشهوة في الوجود عن الجانب الآخر، فالميل الطبيعي النفساني من الرجل إلى مماثله في النوع من النساء من الأمور التي جبلت عليها النفس الإنسانية، فإنّ آدم قد وجد ميلًا لحواء قبل أن يخلق الله سبحانه الشهوة له، وبذلك كان الكمال للإنسان عند الزواج من جهتين:
الجهة الأولى: من جهة الكمال النفساني، ورجوع كلٍّ منهما إلى الآخر بما يرفع الافتقار النفساني.
الجهة الثانية: من جهة الكمال المرتبط ببنية الجسد، بتحصيل الإشباع للرغبة الشهوية.
وهذان البعدان لا ينفكّان عن بعضهما البعض؛ لأنّ الإنسان مركب من نفسٍ وبدن وكلاهما يشتاقُ إلى كماله وميّالٌ لما يفتقرُ إليه، والتكامل البشري بالتقاء الرجال بالنساء تترتب عليه مترتباتٍ عظيمة بينتها لنا السنّة الشريفة، قال رسول الله (ص): «من أحبَّ أن يلقى الله طاهرًا مطهرًا فليلقه بزوجة»، ولقاء الله سبحانه أسمى غاية، وأسمى غاية ينبغي أن تتحقق بأسمي كيفية، وقد جاء بيان ذلك من الرسول (ص) بأنّ من أحب لقاء الله طاهرًا مطهرًا فليلقه بزوجة، ولقاء الله سبحانه من مصاديقه انقطاع العبد إلى ربه في هذه الدنيا بالصلاة والعبادة، وانقطاعه عن الدنيا بالموت، ولعله لذلك جاء في الخبر عن أبي عبدالله (ع): «ركعتان يصلّيهما متزوج أفضل من سبعين ركعة يصلّيها أعزب»، فللزواج خصوصيّة من حيث الفضل في الصلاة، رغم كونه خارجًا عن ماهية الصلاة نفسها، فهو شرطٌ في بلوغ الفضل، أي أنّه داخلٌ تقيّدًا في مركب الصلاة لا من حيث الصحة والفساد، بل من حيث الفضل والكمال.
وقد خصّ الله سبحانه المرأة بما جاء في الخبر عن الإمام (ع) قال: «المرأة الصالحة خيرٌ من ألف رجل غير صالح، وأيّما امرأة خدمت زوجها سبعة أيام أغلق الله عنها سبعة أبواب النار، وفتح لها ثمانية أبواب الجنة تدخل منها أيّها شاءت»، وورد عنه (ع): «ما من امرأة تسقي زوجها شربة من ماء إلّا كان خيرًا لها من عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، ويبني الله لها بكل شربة تسقي زوجها مدينة في الجنة وغفر لها ستين خطيئة».
فمن تأمّل هذه الأخبار ونظر إليها بعين العقل عَلِم الفضل في الزواج وتعجيله وتسهيله وتيسيره، لأنّه بابٌ من أبواب الصلاح والهداية، لا ينبغي تعسيره ولا ترغيب الناس عنه.
ومن خلال ما ذكرناه من مصالح إجتماعية وفردية دنيوية وأخرويّة نعرفُ مسؤوليتنا تجاه هذه السنّة والمحافظة عليها وعلى السنن التي تحفّها، أعان الله وإياكم على إحياء سنن الله وسنن رسوله (ص).
ختامًا أرجو من الأخوة والأخوات الكرام الأعزّاء أن يلتمسوا بعقولهم النيّرة ما أردتُ إيصاله من خلال هذه الكلمات، ونلتمس منهم العذر والإرشاد فيما خالفنا فيه الصواب، جعلنا الله وإياكم من أهل السداد.
والحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين محمدٍ وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
مهدي الجمري
23 ربيع الثاني 1441 للهجرة