تقول الآية : (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون).
فكيف يكون الصوم خيرًا لنا، وما هو هذا الخير؟ مع لحاظ أنَّ هذا التشريع في ظاهره يشكِّل حالةً سلبيةً لا يمكن أن تكون هدفًا، من أهداف شرائع السماء الإيجابية لأنَّ كبح نداءات الجسد ومتطلباته، ولو لفترة يسيرة تمثل فترة الصيام عملية هدم وليست عملية بناء، فهو عملية سلبية، لا تنسجم مع طبيعة الأديان بصورة عامة، ومع طبيعة الإسلام بصورة خاصة، الذي هو حضارة الجسد كما هو حضارة الروح، وقد قال النبي فيما روي عنه:
(إن لبدنك عليك حقا).
فكيف نجيب؟
إذا ما أردنا الإجابة فلا بد أن نمرَّ بعدَّة محطات ونتعرف نظرتها لفريضة الصوم والفائدة المرجوة منها في نظر كل واحدة من هذه المحطات، هذه الفائدة التي تصفها الآية الكريمة بأنها (خيرٌ لكم)، وسنمر بمحطة علماء الأخلاق، علماء الاجتماع، علماء النفس، علماء الطب البشري وبنظرة الدين الإسلامي.
والآن دعنا نمرُّ بها تِبَاعًا واحدةً بعد أخرى لنتعرف ما الذي تقوله في فريضة الصوم:
المحطة الأولى:
علماء الأخلاق: يقولون وإنْ كان الصوم في ظاهره يشكِّل حالةً سلبيةً أو حالةَ هدمٍ لجسد الإنسان وعدم الاستجابة لنداءات الجسد الضرورية من أكل وشرب وجنس، إلَّا أنَّه في واقعه خلافٌ لذلك تمامًا، فربَّما يكون حالةَ هدمٍ ولكن لتتبع بمشروع بناء، كالذي يهدم بيتا قديمًا متداعيًا. هذا في ظاهره أمرٌ سلبي، ولكن إذا عرف أنه سيُبني مرَّةً أخرى بشكل سليم وقوي يتحول الهدم لحالةٍ إيجابيةٍ هادفة، وهكذا الصيام مع الإنسان وجسده فهو يمنع من بعض اللوازم لفترة معينة حتى يرتفع به عن مستوى الحيوانية لمستوى الإنسانية والكمال.
فعلى الصائم أنْ يكفَّ عن الطعام والشراب على الرغم مِنَ الجوع والعطش وعن ممارسة العمل الجنسي، حتَّى يبيَّنَ لنفسه وللآخرين عمليًّا أنَّه ليس بالحيوان الأسير والمجيَّر بين المعلف والمضجع، كما أنَّه يلفت لعظمة النعم التي يرفل بها الإنسان ولا يكاد يشعر بها لقربها منه، فهو طوال العام يستطيع في أي وقتٍ شاءَ أنْ يتناول ما شاء من الأطعمة اللذيذة وإذا عطش ما عليه إلَّا أنْ يفتحَ المبرِّدة وأنْ يتناول المياه الباردة وشتَّى أنواع العصائر، فإذا ما منعه الصيام بشكل وإنْ كان مؤقَّتًا عنها فهو سيلتفتُ لهذه النِعَم، وهذه طبيعةُ الإنسان لا يعرف أهمية الأشياء إلَّا إذا حُرِمَ منها، كما أنَّ في الصوم ترشيدًا لشهوات الإنسان العاتية وتنظيمًا وتقنينًا، والجسد إذا ما تجرد من الملذات يكون قريبًا من الله عزَّ وجلَّ. وهذه الحقائق بينها النبي وأهل بيته: قال الصادق (عليه السلام): (الصوم جنة من النار)، وقالت سيدة النساء فاطمة (عليها السلام) : (فرض الله الصيام تثبيتا للإخلاص).
المحطة الثانية:
علماء الاجتماع: تُبيِّن هذه الفئة أنَّ فريضةَ الصوم تمثل حالةَ بناءٍ للمجتمع، وتزرع روح التكافل الاجتماعي، مِمَّا يوثِّقُ التلاحم والتضامن بين الأفراد، بالتالي تخلق مجتمعًا تسوده ملامح الإخاء والمحبة. فالصوم درسٌ عمليٌّ في المساواة بين الناس. فيحسّ الغنيُّ بحاجة الفقير بعد أن يقدِّم له درسًا عمليًّا في الجوع، يقف هو بنفسه على مرارته ويستشعره من قريب.
وفي هذا يقول الإمام العسكري (عليه السلام) لما سُئِلَ عن علة وجوب الصوم: (ليجد الغني مس الجوع فيمنَّ على الفقير).
وأنقل هنا عبارةً رائعة قرأتها في التفسير الأمثل، تتصل صلة مباشرة بالموضوع: (ترى لو أن الدول الغنية في العالم صامت عدة أيام في السنة وذاقت مرارة الجوع ، فهل يبقى في العالم كل هذه الشعوب الجائعة ؟).
المحطة الثالثة:
علماء النفس: يُقَرِّرُ علماءُ النفسِ على أنَّ الصوم يُدَرِّبُ الإنسانَ على كيفية التعايش مع الإحباط، حيث إنَّ الإنسان ربَّما يسعى أو يَجِدُّ ولفترةٍ طويلة في طلب أمر مِنَ الأمور المادية أو المعنوية ولكنَّه ربَّما لا يحصل عليه إلَّا بعد فترة طويلة، أو ربَّما لا يحصل عليه أبدًا، والصوم بما أنَّه تأجيلٌ وتعطيلٌ لبعض متطلبات الإنسان الضرورية والحيوية، فإنَّه يعوِّد الإنسان على كيفية التعامل مع الأمور التي لا يقوى علي تناولها حتَّى مع قربها منه، وبهذا يقوى على الإحباط.
كما يقرِّرون أنَّ الصومَ يُعَلِّمُ الصَائِمَ الصبر والتحمُّل، وقد عبَّر القُرآنُ في ما يرى كثيرٌ مِنَ المُفَسِّرين عن الصوم بالصبر (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلوات). وقد ورد في بعض الروايات أن الصوم نصف الصبر.
كما أنَّ الصائِمَ يُدَرِّبُهُ الصَومُ على تقوية الإرادة؛ إذ إنَّه وسيلة إيجابية عملية لغرس الأمانة في نفس الإنسان؛ إذ يصبر على الجوع والعطش وسائر المفطرات ولا يمنعه عن ممارستها غير اعتقاده بأنَّ الله يراقبه. وقد وضع الباحث الألماني (جیهاردت) كتابًا في تقوية الإرادة جعل أساسه الصوم وقال: إنَّه الوسيلة الفعَّالة لتحقيق سلطان الروح على الجسد فيعيش الإنسان مالکًا زمام أموره بنفسه لا أسيرَ ميوله المادية. وقد بين علماء النفس أن في الصوم علاج فعال الكثير من أمراض النفس التي قد تودي بالإنسان.
المحطة الرابعة:
الأطباء: إنَّ الإمساك هو من أهمِّ وسائل العلاج، ويستخدم لعلاج كثير من الأمراض في الطبين القديم والحديث.
والمواد الغذائية الزائدة تتراكم في الجسم على شكل مواد دهنية، وتدخل هي والمواد السكرية في الدم، وهذه المواد الزائدة وسطٌ صالحٌ لتكاثر أنواع الميكروبات والأمراض، وفي هذه الحالة يكون الإمساكُ أفضلَ طريقٍ لمكافحة الأمراض، وللقضاء على هذه المزابل المتراكمة في الجسم.
والصوم علاجٌ لأمراض فقر الدم والروماتيزيوم والنقرس والسل والسرطان والسكر وأمراض الكلى وغير ذلك. وبطبيعة الحال يحب أن لا يكثر الصائم على الإفطار والسحور، وإلا لما نفع الأثر الصحي للصيام. قال رسول الله: (المعدة بيت كل داء والحمية هي الدواء) وقال : (صوموا تصحوا).
المحطة الخامسة:
ماذا يقول التشريع الإسلامي الصوم؟: الهدف الأكبر والحكمة الحقيقية من الصوم هو ما عبَّرت عنه الآية الكريمة: (لعلَّكم تتقون).
فالتقوى هو المراد من وراء تشريع هذه الفريضة العظيمة، وهو الخير الذي عنته الآية المبحوثة: (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) وضمنه تأتي الفوائد السالفة: الأخلاقية، الاجتماعية، النفسية والصحية.
ولسائل أن يسأل:
نحن نصوم ولكن لا نری روح التقوى عندنا فما السبب یا تری؟
السبب هو أنَّنا لم نُفَعِّل هذه الفريضة كما أمرنا اللهُ جلَّ وعلا، بل أخذنا منها ما توافق مع ميولنا فقط، ولم نطبقها بالشكل المطلوب منا تطبيقه، وبعد هذا لا نستطيع أن نحمّل الله تعالى السبب.
مثال:
إذا ذهبتُ أنا إلى الطبيب أشكو مرضًا من الأمراض (لا سمح الله) ووصف لى روشتة أو وصفة العلاج، وقال عليك أن تأخذ منه ثلاث جرعات يوميًا، فجئتُ أنا وأخذتُ جرعةً واحدةً أو جرعتين، فلم يذهب المرض بتمامه وتتحقق الصحة، هل ألوم الطبيب وأقول أنَّه طبيبٌ فاشلٌ لا يفهم؟ لا، بل عليَّ أنْ ألومَ نفسي أنا.
وهكذا مع الله تعالى، روي عن النبيِّ الأكرم (ص) أنَّه قال: (آیُّها الناس أنتم كالمرضى وربُّ العالمين كالطبيب، فصلاح المرضى بما يراه الطبيب لا بما يشتهيه المريض).
يا لها من نعمة عظمى وخير كبير كما تعبِّر الآية نتقلب فيه في هذا ا الشهر الكريم، يقول الرسول الأكرم : (للصائم فرحتان فرحة عن صومه فرحة عند إفطاره).