تقريرات موجزة: درس (الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة) - الشيخ الحرُّ العاملي (قدِّس سرُّه) {7}.
الأستاذ: السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي.
المقرِّر: محمود أحمد سهلان العكراوي.
فوائد رجالية ودرائية:
تمهيد:
للأسناد طُرقٌ في التعامل معها، وقد حُصِر الفكر الحوزوي في أنها كُتبت لغاية تصحيح أو تضعيف الحديث، وهذا مجانبٌ للصواب تماما. السند ليس هو الحديث، فإما أن نقول أنه علةٌ تامةٌ لصحة أو ضعف الحديث، أو نقول هو مقتضٍ، أو نقول هو قرينةٌ فلا هو علةٌ تامةٌ ولا هو مقتضٍ كما هو واضح، وهو المختار. فكم من كاذبٍ روى صحيحا؟
وبالتالي لا يمكن أن نعتبر أو لا نعتبر الخبر بسبب السند فقط، ولكن بطبيعة الحال إذا جاء ثقةٌ بخبرٍ وجاءك كاذبٌ بخبرٍ تميل للثقة بشكلٍ طبيعي، ولكنَّ مصادرة ما نقله الكاذب ليس أمرًا صحيحًا ولا علميًا، إلَّا في موارد الدوران بينهما، فنأخذ حينها بقول الثقة، ولا يعني ذلك أنَّ الآخر غير صحيح، لكنَّه للدوران في مقام العمل، لعدم انكشاف كلِّ الحقائق لنا.
كتب علماءٌ -في علم الرجال- من أوائلهم ابن الغضائري، وهو أستاذ الشيخ النجاشي، فالنجاشي أكثر توثيقاته مأخوذةٌ من ابن الغضائري، وإن كان هناك كلامٌ في كتاب ابن الغضائري.
الشيخ النجاشي يذكر حال الراوي ويذكر أحواله، وإن كان له كتبٌ أو لا، فهو مختصٌ في الرجال، ولا يوثِّق ولا يضعِّف إلا بخبرٍ صحيح، فهو لم يلتقِ كلَّ الرواة، ولذلك إذا تعارض قول الشيخ النجاشي مع الشيخ الطوسي أو غيره في التوثيق والتضعيف قال جمعٌ من العلماء بتقديم قول النجاشي لما تقدَّم، حيث إنه اختص بالرجال، بخلاف الشيخ الطوسي وغيره من الأعلام.
إذن كلام الشيخ النجاشي -بحسب أصحاب هذا القول- معتبرٌ ومقدم، أما الشيخ الطوسي فاهتمَّ بذكر الرجال ممَّن لهم كتبٌ وفهرسةِ كتبهم، ولم نقف على من ذكر في مقدمة كتابه -بحسب تتبعنا- أن الغاية من كتابه تصحيح أو تضعيف الرواية من خلال توثيق وتضعيف الرجال، إلا الشيخ الطوسي في الفهرست، فالحصر في هذه الغاية غير صحيح.
لحدِّ الآن اتضح أن لدينا منهجًا يعتمد السند في تصحيح وتضعيف الروايات.
لا يوجد أحدٌ من العلماء في الإسلام، ولا في غير الإسلام، أعطى السند الحاكمية على المتن على الإطلاق، لكن العلماء جاؤوا في الأحكام الشرعية فقالوا أن المسألة تتعلَّق بالله، وبالتالي نحن نتقوَّل على الله إذا حكمنا بحكمٍ شرعيٍّ ما، وقلنا بثبوت أمرٍ ما أو بعدم ثبوته، ففي المسألة كلامٌ بلسان ربِّ العالمين، فنحتاج لشيءٍ نعتذر به بين يدي الله يوم القيامة، ولذلك يتمُّ التدقيق في السند، فهذا قسمٌ من العلماء يمارس التدقيق فيما يتعلق بالفتاوى، أما إذا خرج منها لمقامٍ آخر فلا يعود لممارسة التدقيق في الأسناد، والقسم الآخر منهم يُدخل السند في كلِّ مورد، ولا دليل مطلقًا على حاكميته بالشكل الذي أرادوه.
طريقتنا:
نريد أن نرى هل هذه الرواية موافقةٌ لما عليه الدين أم لا؟ وبالتالي إذا درسنا أو تتبَّعنا ما قيل في الرواة، لا من أجل توثيقهم، وإنما من أجل توثيق الرواية، فقد نجد أن رجلًا ليس موثَّقًا في كتب الرجال، وتُنقل عنه روايةٌ أو أكثر في كتبنا الحديثية، فنسأل ما الذي أتى بهذه الرواية هنا، وبحثنا ووجدنا أن له رواياتٍ في الكتب المعتبرة، وهذا لا يدل على وثاقته، لكن الذي يرويه أصحُّ من المروي صحيح السند، وذلك لأن نقل روايته يدلُّ على تحقيق روايته والتدقيق فيها أكثر من غيرها قبل نقلها في الكتب، وشرط هذا الكلام أن يكون من نقل الرواية في كتابه ثقةً عندنا، بل قد نلاحظ أن الرواية مرَّت على الكثير من الرواة الثِقات عندنا، ومع ملاحظة الأسناد قد تكون الرواية مرَّت على المئات من الأصحاب، فوجود هذا الضعيف أو الكذَّاب حينها لا يضرُّ بصحَّة الرواية، أما القول بأنهم (ثقةٌ في نقلهم كذب هذا الكذاب)، فهو غير صحيح، فيمكن وصفهم بالأمانة أو النقلة حينئذٍ، لا بالثقات لأنهم لا يصحُّ أن ينقلوا أيَّ شيءٍ حتى لو كان عن كاذب.
فيما يأتي نبدأ بدراسة شخصيات وأحوال أصحاب الكتب من المتقدمين من أصحابنا، وعلى رأسهم المحمَّدون الثلاثة، ثم أصحاب الكتب الأصول الأخرى كالشيخ المفيد والصفَّار وغيرهم، ثم ننتقل مع الأسناد، ومن خلالها نجد المشيخة حيث إن الروايات منقولةٌ عن طريقهم وسنجدهم فيها.
الشيخ الصدوق (قدس سره):
نؤكِّد أن العاقل هو الذي يميِّز بين حفظ المقام والنقاش العلمي والنقد، بما لا يؤثر في المقام، فإن قلنا أن الشيخ الصدوق شيخ المحدِّثين، وأنه ممَّن أكثرَ عن علمٍ التصنيف والتحبير في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، فالفائدة من ذلك أن نعرف مقام الرجل أولا، ثم أننا عندما نرى شيئًا لسنا على وفاقٍ معه فيه نحذر في توجيه النقد، ونحاول ما استطعنا أن نُخرِّج كلامه بما يُخرِجُه عن حدِّ الإشكال ثانيا، لأن هذا ما يقتضيه مقام الشيخ الصدوق، وإن لم نجد ما نوجِّه به كلامه في أحد الموارد ننتقد الكلام ونُشكِل ولا يتجاوز الإشكال حدَّه، فإن تجاوزنا بمقدار شعرةٍ واحدةٍ دخلنا في حيِّز الفجور وهذا لا يجوز، فلا بد أن نحفظ مقامات أصحاب الجهود.
يُوجد لدينا كُتبٌ كثيرةٌ في أخبار أهل البيت (عليهم السلام) كتبها الشيخ الصدوق، وربما كان أكثرَ من كَتب في هذا المجال، ولذلك يُسمَّى بشيخ المُحدِّثين.
فمَنْ هو الشيخ الصدوق؟
ما قاله الشيخ النجاشي في الشيخ الصدوق (رضوان الله عليهما):
قال: "محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن موسى بن بابويه أبو جعفر، نزيل الرَّي، شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان، وكان وَرَدَ بغداد سنة خمسٍ وخمسين وثلاثمائة، وسَمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن، وله كتبٌ كثيرةٌ ..."، إلى أن قال: "أخبرني بجميع كُتبه وقرأت بعضها على والدي عليِّ بن أحمد بن العباس النجاشي (رحمه الله)، وقال لي: أجازني جميع كتبه لمَّا سمعنا منه ببغداد، ومات (رضي الله عنه) بالرَّيِّ سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة". ]رجال النجاشي - ص329 - ت: 1049[.
ويُعبَّر عنه بالصدوق الثاني، أمَّا الصدوق الأول فهو والده علي بن الحسين، وقد ذكر النجاشي أنه نزيل الري، ومثل هذه الأمور تُذكَر عادةً للتمييز، ثم وَصَفه بأوصافٍ عالية. وقد صار وجهًا من وجوه الطائفة بعد انتشار كتبه، وكان كثير السفر ومنها ما ذكره من سفره إلى بغداد، أما سماع شيوخ الطائفة منه مع كونه حدث السن، فدليلٌ على وثاقته في الرواية، فلا يُسمَع من حدث السِّنِّ عادة، والذين سمعوا منه هم شيوخ الرواية، وهو المراد من قوله شيوخ، وليس المراد هم العلماء مطلقا.
وتتميَّز إجازة الرواية عن غيرها من إجازات الكتب، والإجازة في الكُتب غير الروايات ليست طريقتنا، فإذا أجازه بجميع كُتبه فهي إجازةٌ في كتب رواية، وإن تضمَّنت آراء الشيخ الصدوق، فيجوز للمُجاز أن يروي آراء المُجيز فهو مُجازٌ ضمنًا في ضمن الإجازة في الرواية.
ما قاله الشيخ الطوسي فيه (رضوان الله عليهما) في الفهرست:
قال: "محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، جليل القدر، يُكنَّى أبا جعفر، كان جليلا، حافظًا للأحاديث، بصيرًا بالرجال، ناقدًا للأخبار، لم يُرَ في القُمِّيين مثله في حفظه وكثرة علمه.
له نحوٌ من ثلاثمائة مُصنَّف، وفِهرست كتبه معروف ... إلى أن قال: أخبرنا بجميع كتبه ورواياته جماعةٌ من أصحابنا، منهم الشيخ المفيد والحسين بن عبيد الله وأبو الحسين جعفر بن الحسن بن حسكة القمِّي وأبو زكريا محمَّد بن سليمان الحمراني كلُّهم، عنه". ]الفهرست - ص237 - ت: 710[.
الشيخ الطوسي والشيخ الصدوق والشيخ المفيد ووالد الشيخ النجاشي كانوا متعاصرين، وهذا الكتاب عبارةٌ عن جمعٍ لكتب العلماء وفهرستها، وكتبه لأنه لم يجد كتابًا يفي بغرض جمع وتدوين كتابٍ حاوٍ لمصنفات وكتب الشيعة، ومع ذكره لشطرٍ من حياة وسيرة المؤلِّف فإنه يريد أن يقول أنني لا أذكر كتب أيَّ رجل، والشيخ صاحب كتبٍ روائيةٍ فإذا ذَكر كلمةً فهو يعنيها، مع أخذ المعاصرة بعين الاعتبار.
أما قوله: "حافظًا للأحاديث" فهو يحتمل وجهين: الأول: الحِفظ عن ظهر قلب. والثاني: حفظ الأحاديث في الكتب، وهما وجهان صحيحان. وقوله: "بصيرًا بالرجال" يُفيدنا أنه إذا روى عن ضعيفٍ لا لغفلةٍ منه، أو لأنه يجهل أحوال الرجال. وقوله: "ناقدًا للأخبار" فيفيد أنه كان قادرًا على تمييز الجيِّد من الأخبار عن غيره ويعمل بذلك، بالإضافة لذلك فإن الشيخ يُثبِت المميِّزات المذكورة للشيخ الصدوق على اعتبار أنها من شرائط المُحدِّث، ويُثبِتها لنفسه بهذه الطريقة، فهو كذلك حائزٌ على هذه الصفات لأنه ينبغي أن يكون حائزًا عليها إذا أراد أن يصف أحدًا يعمل في نفس مجاله بها، وهي الأحاديث، وليس هو مجرد ادِّعاء.
إضافةً لما مرَّ عندما تقرأ مُصنَّفات الشيخ الصدوق تعرف قيمته ومقامه العلمي، وإن كانت أكثر كتبه لم تصل إلينا.
ولادته بدعاء الإمام المهدي (عليه السلام):
نقل السيِّد الخوئي (قدِّس سرُّه) في المعجم: "وروى الشيخ عن جماعة، عن أبي جعفرٍ محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن موسى بن بابويه، وأبي عبد الله الحسين بن عليٍّ أخيه، قالا: حدَّثنا أبو جعفرٍ محمَّد بن عليٍّ الأسود (رحمه الله)، قال: سألني علي بن الحسين بن موسى بن بابويه (رضي الله عنه) بعد موت محمَّد بن عثمان العمري (قدِّس سرُّه)، أن أسأل أبا القاسم الرَوحي (قدَّس الله روحه) أن يسأل مولانا صاحب الزمان (عليه السلام)، أن يدعو الله أن يرزقه ولدًا ذكرا، قال: فسألته، فأنهى ذلك، ثم أخبرني بعد ذلك بثلاثة أيام، أنه قد دعا لعلي بن الحسين (رحمه الله) فإنه سيُولد له ولدٌ مباركٌ ينفع الله به، وبعده أولاد". {المعجم - ج17 - ص345 - ت: 11319}.
ثم نَقلَ روايةً أخرى عن الشيخ، قال: "قال ابن نوح: وحدَّثني أبو عبد الله الحسين بن محمَّد بن سورة القمي (رحمه الله) حين قَدِم علينا حاجًّا، قال: حدَّثني علي بن الحسين بن يوسف الصايغ القمي، ومحمَّد بن أحمد بن محمَّد الصيرفي، المعروف بابن الدلال وغيرهما من مشايخ أهل قم، أن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه كانت تحته بنت عمِّه محمَّد بن موسى بن بابويه، فلم يُرزَق منها ولدا، فكتب إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه) أن يسأل الحضرة أن يدعو الله أن يرزقه أولادًا فقهاء، فجاء الجواب إنك لا ترزق عن هذه، وستملك جاريةً ديلميةً وترزق منها ولدين فقيهين"، ثم قال: "أقول: ويظهر من الرواية الأخيرة أن قصة ولادة محمَّد بن علي بن الحسين بدعاء الإمام (عليه السلام) أمرٌ مستفيضٌ معروفٌ مُتسالمٌ عليه، ويكفي هذا في جلالة شأنه، وعِظم مقامه، كيف لا يكون كذلك وقد أخبر الإمام (عليه السلام) أن والده يُرزق ولدين ذكرين خيِّرين ...". {المعجم - ج17 - ص345-346 - ت: 11319}.
فوائد:
الأولى: ظهور قوة الجانب العَقَدي في شخصية الشيخ الصدوق الأول.
الثانية: مثل هذه الأمور كأن يُرزق بولدٍ عالم، أو يُختم للولد بما خُتِم للشيخ الصدوق الثاني، ممَّا يحتاج للدعاء والتوسُّل، فالمسألة ليست مسألة علمٍ فقط، لكن النهاية والخاتمة كيف تكون.
الثالثة: قد نستفيد من كلام الإمام توثيق الشيخ الصدوق، بل هو كذلك.
تنبيه:
يجب أن ننتبه أن أكثر مَنْ هو معرَّض للخطر هو طالب العلوم الدينية، فإن من شأن العلم تعريضه للغرور، وهذا الاحتمال واردٌ مع كلِّ مسألةٍ يتعلَّمها، فهو في كلِّ يومٍ يُواجه هذا الخطر المُحدِق، ودونكم قصة بلعم بن باعورا والشلمغاني وأمثالهما. ومن مثل قصة ولادة الشيخ الصدوق نتعلَّم اللجوء للإمام (عليه السلام)، فهو باب الله من بعد النبي وآبائه (صلوات الله عليهم).
بعد كلِّ ما ذكرناه لا نتعجَّب ممَّا وصل إليه الشيخ الصدوق من مرتبةٍ علمية.
مشايخه:
الشيخ الثقة الثَبت محمَّد بن الحسن بن الوليد - والده علي بن الحسين فقيهٌ جليل القدر - الشيخ محمَّد بن علي ماجيلويه - الشيخ الأجلُّ محمَّد بن موسى بن المتوكِّل - الشيخ أحمد بن علي بن أحمد بن محمَّد بن عمران الدقَّاق - الشيخ محمَّد بن يحيى العطار.
وقد قيل أن مشايخه يتجاوز عددهم المائتين، وقد ذَكرَ الميرزا النوري مائةً وثمانيةً وتسعين شيخًا له في المستدرك، وقد كان اتصاله بمشايخ الإجازة محلَّا لاهتمامه كما هو واضح.
وأهمية معرفة مشايخه تكمُن في أن طبيعة الإنسان التأثُّر، والمطلوب أن يتجنَّب الفرد التأثُّر السلبي فقط، ومعرفة مشايخ الصدوق تساعدنا على معرفة مصادر بعض آراء الصدوق، وبعض حيثيات شخصيته، كتأثُّرِه بشيخه محمَّد بن الحسن بن الوليد.
تنبيهٌ مهم:
في التعامل مع أقوال الأعلام فيما بينهم، كقول الشيخ المفيد (قدِّس سرُّه) في الشيخ الصدوق، نكون بين خيارين على نحو التعيين: الأول: أن نوجِّه كلام الشيخ المفيد بما لا يسيء له ولا للشيخ الصدوق، كما فعل السيد جعفر مرتضى العاملي (رحمه الله)، وقد نلجأ إليه أحيانا. لكنَّ ما أقوله أننا في تعاملنا مع أصحاب الأئمة -العلماء والرجال ولا سيما الرواة- أشدُّ ممَّا يتعامل به المخالفين مع الصحابة، وكأنهم معصومون، وهذا غير صحيح، فهو يؤدي إلى إسقاط الرجل عندما يصدر منه أيّ خطأ، بينما المراد أن نرى هل هذا الرجل سيءٌ أم لا، ولا يثبت ذلك ببعض التصرفات بل بسلوك الرجل العام، لذلك عندما ندرس شخصية غير المعصوم لا بدَّ أن نعلم أننا نتعامل مع إنسانٍ هذا شأنه، وهذا هو الخيار الثاني. وبالتالي لا نجد مشكلةً في القول أن الشيخ المفيد كان صاحب شخصيَّةٍ حادة، ولن يمسَّ ذلك تقواه وورعه، والواقع أنه من حَفظة الدين.
نقطةُ أخرى في الموضوع:
إذا أردنا إقامة استصحابًا قهقرائيا، وأخذنا سيرتنا اليوم إلى زمن المتقدمين من العلماء، فيما نراه من سجالاتٍ بين العلماء وتسقيطاتٍ فنجدها موجودة هناك أيضا، والشواهد عليها كثيرة، لكننا نبقى ننظر لهم على أنهم عظماء وأنهم حَفظة الدين، والذي يكتشف مثل هذه الأمور عادةً هو الذي يبحث ويتتبَّع العثرات، أما غيره فيستفيدون من العلوم والنتاجات العلمية، ولذلك الفجور في الخصومة جريمةٌ لا تغتفر، خصوصًا وأن مثل هذه الزلَّات مع مرور السنوات لن يُلتفت إليها، وما يبقى هي الكتب والنتاج العلمي للرجل.
الإشكالات على الشيخ الصدوق وكتاب من لا يحضره الفقيه:
كي نفهم وثاقة الشيخ الصدوق، وإمكان اعتماد كتبه، لا بدَّ أن ننظر في الإشكالات التي يُشكَل بها عليه، فنجد أنها غالبًا على طريقته في كتاب من لا يحضره الفقيه، فالفقه هو محلُّ نظر العلماء والناس دائما، وهو محلُّ بروز العلماء عندنا على مر التاريخ، وكتاب من لا يحضره الفقيه كتابٌ في الفقه، وبمنهجيةٍ خاصة، وفيه تصريحاتٌ واضحةٌ للشيخ الصدوق في مقدمته، قال: "بل قصدتُ إلى إيراد ما أُفتي به وأحكم بصحَّته وأعتقد أنه حجةٌ بيني وبين ربي جلَّ ذكره، وجميع ما فيه مُستخرجٌ من كتبٍ مشهورةٍ عليها المعوَّل وإليها المرجع".
وفي كلامه ثلاث دعاوى:
الأولى: أن هذا الكتاب بمثابة نسبة الرسالة العملية إلى كاتبها.
الثانية: جميع ما في الكتاب مُستخرجٌ من كتبٍ مشهورة.
الثالثة: أن الكتب المشهورة عليها المعوَّل وإليها المرجع.
أما الإشكالات المطروحة على الكتاب فالرئيسية منها ثلاثة:
الأول: رواية الشيخ الصدوق عن الضِّعاف.
الثاني: نقله رواياتٍ متناقضة.
الثالث: أن توثيقاته حدسيةٌ وليست حسِّية.
وإذا أثبتنا أن مُراده من الصحة صحة السند تثبت الإشكالات عليه.
تنبيه:
الفتوى عند المتقدِّمين هي لسان الرواية، لذلك كان اجتهادهم في حلِّ التعارض بين الروايات.
مناقشة الإشكالات على كتاب من لا يحضره الفقيه:
كتاب من لا يحضره الفقيه مُقاسٌ على من لا يحضره الطبيب، وصفته أنه يُغْنِي عن غيره، وكذا الاستبصار والتهذيب والكافي، فهذه الكتب بما أنها حاويةٌ لروايات أهل البيت (عليهم السلام) يُفترض أنها استوعبت أبواب الفقه.
ولكن الذي كتب هذا الكتاب هو الشيخ الصدوق في القرن الرابع الهجري، فمَن يريد قراءة من لا يحضره الفقيه لا يصح أن يقرأه بعقلية اليوم، بل ينبغي له أن يقرأه بعقلية زمان الكتاب.
في الواقع، النقوض التي نُوردها على كتب المتقدمين أغلبها لا تكون صحيحةً لأننا نقرأ كتبهم بعقلية اليوم لا بعقلية زمن كتابة تلك الكتب، فنجد مواضيع مهمةً كالاجتهاد والتقليد لم يتحدث عنها المتقدمون، وذلك لأنه لم تكن لديهم حاجةٌ لذلك، ولكن هذا الموضوع له أصلٌ عندنا، أيْ عنوانٌ بتمام حيثياته يصدق على الاجتهاد والتقليد بلا تكلف.
أما الإشكالات التي أوردوها على من لا يحضره الفقيه فغير صحيحة، والجواب عليها أنك تقرأ الكتاب بموازينك اليوم -كما قلنا- لذلك أشكلتَ بهذه الإشكالات، ولو جئنا بالشيخ الصدوق اليوم وبعقلية الأمس كذلك لن يستطيع التعامل مع عقلية اليوم ما لم يتعامل بهذه العقلية، لا لأفضلية أحدٍ على الآخر، بل لأنه مقتضى الحال.
استطراد في إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام):
عندما نرجع لمسألة إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) بالأساليب الحالية، فظهورها بشكلٍ واضحٍ بهذا الشكل بدأ في الدولة الصفوية، بسبب صراعهم السياسي مع الدولة العثمانية، وحيث إن الدولة العثمانية اتخذت واجهةً دينيةً من المخالفين، احتاجت الدولة الصفوية لاتخاذ واجهةً دينيةً مقابلة، ومنحوا الفرصة للعلماء للعمل، وكذلك بدأت فكرة المواكب لترسيخ العقيدة في نفوس الناس، فبداية الظهور الواسع لهذه الإحياءات كان في تلك الفترة، وللأسباب المذكورة، وجاءت بعد ذلك الدولة القاجارية بنفس الطريقة، لكن أهل البيت (عليهم السلام) قد أسَّسوا لذلك سابقا، ويكفينا في ذلك كتاب كامل الزيارات، خصوصًا في مسألة الزيارة.
تنبيه في الإرجاع إلى العمومات:
الإرجاع إلى العموم اعتباطًا غير صحيح، فلا بد أن يكون الإرجاع صحيحا، فإنك لا بدَّ أن تحدِّد المُستوعَب، وتحدِّد المشمول، وهذا متوقفٌ على معرفة كل جهات مدخول أداة العموم، وبعد تحديده تتمكن من الإرجاع للعام، وبعد التحديد للعام يكون مجال التوسع في الفقه من فهم العموم، وفهم العموم ليس من روايةٍ واحدة، بل من كل الروايات، والتي لا تكون قريبةً من المورد محل البحث أحيانا، فصيانة الدين وحفظه في نفوس المؤمنين -مثلًا- دليلٌ على الإحياء الذي نقوم به اليوم ومشروعيته ومطلوبيته.
نعتقد أن هناك نوعٌ من التساهل في الإرجاع إلى العمومات، مع كون الإرجاع إلى العموم من أخطر المسائل وأعقدها، حتى أن أمير المؤمنين (عليه السلام) تحدث فيه في روايته المشهورة، حيث ينبغي أن تكون عارفًا به، فالوقوف على حدود العام ليس أمرًا بسيطا، لذلك فالصحيح الإرجاع إلى العموم وفق الضوابط الصحيحة التي قررها أهل البيت (عليهم السلام) والتي قررها العلماء في محله، نعم يقرِّر الإمام بعض العمومات لكنه لا يمكن أن يعطي ويبيِّن كل العمومات، لذلك جَعَلَ الضوابط التي تمكننا من معرفة العام وحدوده، وإلا فالكثير من أعمالنا التي نقوم بها اليوم لن نجد عليها دليلا، وإن قيل الأصل الإباحة، قلنا هناك من قال بأن الأصل الحظر، وهناك نقاشٌ بينهم في ذلك، والخلاصة أن استسهال هذه المصطلحات أمرٌ غير جيدٍ على الإطلاق.
س: ما هو المراد من الرواية المشهورة عن الصادق (عليه السلام): "إنَّما علينا أنْ نُلقي إليكم الأصول، وعليكم أنْ تفرِّعوا"؟
هناك فرقٌ بين الأصول في هذه الرواية وأصول الفقه في المعنى، فالأصول التي يلقيها أهل البيت (عليهم السلام) فيها مجالٌ للتفريع، أما أصول الفقه فليست لها نفس القابلية، فالأصول في أصول الفقه نطلب منها الاستنباط واكتشاف الحكم الواقعي، وطبيعتها تحصيل الكيفية التي نشأ عليها الحُكم، أي كيف حصل الجعل للحكم، وبالتالي إذا قال الإمام أننا نلقي عليكم الأصول، فتكون وظيفتك البحث عنها، وهذا هو درس الفصول.
قال الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) في مقدَّمة من لا يحضره الفقيه: "بل قصدت إيراد ما أفتي به، وأحكم بصحته، وأعتقد أنه حجةٌ بيني وبين ربِّي جلَّ ذكره، وجميع ما فيه مستخرجٌ من كتبٍ مشهورةٍ عليها المعول وإليها المرجع، مثل كتاب حريز".
قالوا أن الشيخ الصدوق يروي عن الضِّعاف، مع أنه قال أن ما في الكتاب مستخرجٌ من كتبٍ معتبرةٍ عليها المعول وإليها المرجع، فهو حينها لا يقوِّي ويصحِّح كتابه فقط، بل يصحِّح ويقوِّي تلك المصادر كذلك، فهناك دعاوى متعددة مِنه، ولكن عندما نرجع للكتاب نجد فيه الكثير من الروايات عن الضعفاء.
والجواب عليه نقضا: أن الرسائل العملية اليوم فيها ما يُفتي به الفقيه ويراه حجةً بينه وبين ربه، ولو أخذنا هذه الفتاوى وجئنا بالروايات التي استند إليها دون ذكر الاستدلال، سنجد أن الكثير منها عن الضِّعاف، والنتيجة أنها تكون أشبه بكتاب مَن لا يحضره الفقيه، فالزائد فقط في كتب الاستدلال هو معالجة هذه الروايات من حيث الضعف أو الإرسال أو الإعراض عنها أو غير ذلك، ولو جئنا بالكتب القديمة ككتاب الفقيه وأضفنا له الاستدلال سيكون حاله كحال كتاب مباني المنهاج على سبيل المثال، وفي الواقع لو أعرضنا عن الروايات الضعيفة لما كانت عندنا رسالةٌ عملية، فهي كثيرةٌ جدا.
قال: "وأحكم بصحته"، والكتاب كتاب فتوى، فالصحة هنا في مقام الإفتاء، فإذا جاء بروايةٍ وأتبعها بأخرى في نفس الموضوع، فإنه عادةً يكون عَنون الباب بالحكم، فلو حذفنا هذه الروايات تحول الكتاب لرسالةٍ عملية، وقد استخرج هذه الأحكام بإعمالاتٍ معينة، وبالرجوع إلى الظواهر وما إلى ذلك.
قال: "وجميع ما فيه مستخرجٌ من كتبٍ مشهورةٍ عليها المعول وإليها المرجع". نأتي اليوم ونرجع للأصول الحديثية، ونشكُّ في بعضها، وقيل في بعضها أنها مدخولة، ولكن متى صار هذا الدخل فيها؟ لا يمكن التعيين، فنسأل: ما هو حجم التزييف؟ لا نعلم متى وكيف، فلا نستطيع تحديد حجم التزييف، ولكن عندنا أمرٌ آخر نلاحظه، وهو تناول الكتب والكيفية التي يتم بها، فعلى فرض دخول يد التحريف والتزييف فيها فأين يكون؟ يحتمل أن يكون عند النسَّاخ، أو أن يَسرق أحدٌ الكتاب ويضع فيه ويحرفه، ولازمه أن يكون من بعد القراءة والمناولة، فيفترض أن الكتاب يسلم بعد أن يقرأه المُجاز على المُجيز، وبعدها يُجيزه، فيتضح أن نسبة التزييف إن كانت فهي نادرةٌ جدا. أما كلامهم عن وجود التزييف فهو راجعٌ لكلام العلماء لا لحقائق وأدلةٍ قائمة، وبالتالي كما قال العلماء أن كلامه في الجملة صحيحٌ أي في الغالب، فما يقال أنه محرَّف أو مدخول هو الذي يحتاج إلى دليل.
أمَّا روايته الروايات المتعارضة، فهو لوجود التعارض في روايات أهل البيت (عليه السلام)، لا لضعفٍ ولكن لطبيعة الوضع الذي عاشه أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم، واضطرارهم للتقية، والتفريق بين أصحابهم حمايةً لهم، والأحوال التي ذُكِرت عنهم كافيةٌ في بيان الحال، حتى أراد الأئمة للأصحاب أن الناس إذا سمعوا أصحابهم يتحدثون اتهموا قادتهم بعدم الفهم، ومن الطبيعي جدًّا أن تأتي الروايات وُفق هذه الرواية.
إذن، كيف نحفظ الدين؟ هنا احتمالان:
الأول: أن لا يُناقض الإمام بين حديثٍ وآخر إلا كانا معًا في شرع الله ويجوز العمل بهما، فثبَّت بعض العلماء على إثر هذا التخيير مطلقا.
الثاني: الاعتماد على الفقهاء لتخليص المؤمنين من خلال الرجوع للقواعد والأصول، وإن لم يرجعوا لهم مع كونهم معذورين، فعملهم حينها صحيح.
تنبيه:
الروايات المُعرَض عنها، وإن قالها الإمام، فهو قالها وأراد أن نُعرِض عنها في زمن الإفتاء.