جاء في موسوعة بحار الأنوار، للعلامة المجلسي "ره":
(...، ولما أنزل الله تعالى: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين"، قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الصفا، ونادى في أيام الموسم:
يا أيها الناس إني رسول الله رب العالمين، فرمقه الناس بأبصارهم، قالها ثلاثا، ثم انطلق حتى أتى المروة ثم وضع يده في أذنه ثم نادى ثلاثا بأعلى صوته:
يا أيها الناس إني رسول الله، ثلاثا فرمقه الناس بأبصارهم، ورماه أبو جهل قبحه الله بحجر فشج بين عينيه، وتبعه المشركون بالحجارة فهرب حتى أتى الجبل فاستند إلى موضع يقال له: المتكأ وجاء المشركون في طلبه، وجاء رجل إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) و قال: يا علي قد قتل محمد، فانطلق إلى منزل خديجة - رضي الله عنها - فدق الباب فقالت خديجة: من هذا؟
قال: أنا علي، قالت: يا علي ما فعل محمد؟ قال: لا أدري، إلا أن المشركين قد رموه بالحجارة، وما أدري أحي هو أم ميت!
فأعطيني شيئا فيه ماء وخذي معك شيئا من هيس، وانطلقي بنا نلتمس رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنا نجده جائعا عطشانا.
فمضى حتى جاز الجبل وخديجة معه فقال علي: يا خديجة استبطني الوادي حتى أستظهره، فجعل ينادي: يا محمداه، يا رسول الله، نفسي لك الفداء في أي واد أنت ملقى؟
وجعلت خديجة تنادي:
من أحس لي النبي المصطفى؟
من أحس لي الربيع المرتضى؟
من أحس لي المطرود في الله؟
من أحس لي أبا القاسم؟
وهبط عليه جبرئيل (عليه السلام)، فلما نظر إليه النبي (صلى الله عليه وآله) بكى وقال: ما ترى ما صنع بي قومي؟ كذبوني وطردوني وخرجوا عليّ!
فقال يا محمد ناولني يدك، فأخذ يده فأقعده على الجبل، ثم أخرج من تحت جناحه درنوكا من درانيك الجنة منسوجا بالدر والياقوت، وبسطه حتى جلل به جبال تهامة، ثم أخذ بيد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى أقعده عليه، ثم قال له جبرئيل:
يا محمد أتريد أن تعلم كرامتك على الله؟ قال نعم،
قال: فادع إليك تلك الشجرة تجبك، فدعاها فأقبلت حتى خرت بين يديه ساجدة،
فقال: يا محمد مرها ترجع، فأمرها فرجعت إلى مكانها، وهبط عليه إسماعيل حارس السماء الدنيا فقال:
السلام عليك يا رسول الله، قد أمرني ربي أن أطيعك، أفتأمرني أن أنثر عليهم النجوم فأحرقهم!
وأقبل ملك الشمس فقال:
السلام عليك يا رسول الله، أتأمرني أن آخذ عليهم الشمس فأجمعها على رؤوسهم فتحرقهم!
وأقبل ملك الأرض فقال:
السلام عليك يا رسول الله: إن الله عز وجل قد أمرني أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر الأرض فتجعلهم في بطنها كما هم على ظهرها؟
وأقبل ملك الجبال فقال: السلام عليك يا رسول الله إن الله قد أمرني أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر الجبال فتنقلب عليهم فتحطمهم؟
وأقبل ملك البحار فقال: السلام عليك يا رسول الله، قد أمرني ربى أن أطيعك، أفتأمرني أن آمر البحار فتغرقهم؟
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قد أمرتم بطاعتي؟ قالوا: نعم، فرفع رأسه إلى السماء ونادى:
إني لم ابعث عذابا، إنما بعثت رحمة للعالمين، دعوني وقومي فإنهم لا يعلمون، ونظر جبرئيل (عليه السلام) إلى خديجة تجول في الوادي فقال: يا رسول الله ألا ترى إلى خديجة قد أبكت لبكائها ملائكة السماء؟
ادعها إليك فاقرئها مني السلام، وقل لها: ان الله يقرئك السلام، وبشرها أن لها في الجنة بيتا من قصب لا نصب فيه ولا صخب، لؤلؤا مكللا بالذهب.
فدعاها النبي (صلى الله عليه وآله) والدماء تسيل من وجهه على الأرض، وهو يمسحها ويردها، قالت فداك أبي وأمي دع الدمع يقع على الأرض.
قال: أخشى أن يغضب رب الأرض على من عليها.
فلما جن عليهم الليل انصرفت خديجة رضي الله عنها، ورسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلي (عليه السلام)، ودخلت به منزلها، فأقعدته على الموضع الذي فيه الصخرة، وأظلته بصخرة من فوق رأسه، وقامت في وجهه تستره ببردها، وأقبل المشركون يرمونه بالحجارة، فإذا جاءت من فوق رأسه صخرة وقته الصخرة، وإذا رموه من تحته وقته الجدران الحيط، وإذا رمي من بين يديه وقته خديجة - رضي الله عنها - بنفسها، وجعلت تنادي يا معشر قريش ترمى الحرة في منزلها؟ فلما سمعوا ذلك انصرفوا عنه،...).
تلك صفحةٌ مشرقةٌ من صفحات سيرة السيّدة الطاهرة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد "ع"، وهذا شطرٌ من ألوان جهادها الصابر بين يدي رسول الله "ص"، إنّه الدّفاع المستميت عن الرّسول ورسالته الغرّاء، إنّها اللّبنة الأولى في بواكير الذّب عن حياض الشريعة، والتّفاني في سبيل إعلاء كلمة الحق، وتشييد شرعة السّماء.
أنّ الفكر ليذهل، وإن القلم ليعجز عن توصيف ما لهذه المرأة المؤمنة من عزيمة وإصرار، واستبسال وصمود مدهشَين لاحتضان الكيان المحمّدي بكلّ روائعه وخباياه وأسراره.
أعطت، وأنفقت، وبذلت، وقدّمت بلا كلل، ولا ملل، ولا نكوص ولا تراجع، لقد رسمت بمشاهدها العمليّة فنونا من الإيثار والنّصرة، ومع ذلك ما منّت ولم تبحث عن جزاء دنيوي أو عرض زائل، أو حُطام ساذج، فإذا كانت النفوس كبارا، تعبت في مرادها الإجسام.
لم تعبأ إلا بعطاء الآخرة، ورضوان الله تعالى، ولم ترم التّجارة إلا مع خالقها الكبير المتعال، أخلصت للنّبي "ص"، فأخلص لها، وقابل وفاءها بوفائه الشّكور الحاني، فكان يردّد مرارا وتكرارا، وعودا وبدئا: (ما أبدلي بخير منها، لقد آمنت بي حين كذبني النّاس، وآوتني حين طردني النّاس، وصدقتني حين كذبني النّاس، وأعطاني الله منها الولد وحرمنيه من غيرها).
وكان يقول: (إنّي أحبّ من كانت تحبّه خديجة)، ويرسل بالتّحف والهدايا لصويحباتها ومتعلقيها، وكان يبكي إذا لامس مسامعه الكريمة ذِكرها، ويستعر قلبه الشريف إن مرّت طيوفها به، وكان يتحرّق شوقا لها إذا استحضر وصيتها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة بين يديه، طالبة قميصه الذي يلبسه إذا طرق الوحي ساحة قدس نبوّته الخاتمة، لتلفّ به مع كفنها في ملحودتها التّي ضمّت جسدها الطاهر الذّي عصفت به رياحُ المعاناة والصبر والتّجلّد والإنفاق.
كان يراها في ابنتها البضعة، سيّدة نساء العالمين؛ فاطمة "ع"، ويخاطبها مسلّيا: (إنّ امّك في قصر في الجنّة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
لقد أُسكن محمّد "ص" بترانيم ودادها وشفقتها وهي تبحث عنه صارخة قد أنطقت الجماد من حولها حزنا وكآبة، وتعالت صيحاتها للملأ الأعلى، فرفعت الملائكة رؤوسها من صوامع عبادتها باكية لها وهي تشجو:
من أحس لي النبي المصطفى؟
من أحس لي الربيع المرتضى؟
من أحس لي المطرود في الله؟
ولم يزل يسرّح بفكره في خديجة التي كانت تستره بردائها، وتقيه مع الفتى النّاصر ابن عمّه حجارة الأعداء الكفرِة بمتونها وساعديها وكلّ جارحة منها.
بلى، إنّه الحبّ الرّسالي، إنّها العاطفة الرّشيدة، إنّها الزّيجة التّي أُسّست على تقوى من الله ورضوان، وإنّه بيت الوحي والنّبوة كما فصّلته السّماء، وكما صاغته يد القدرة الإلهيّة، وإنّها لخديجة التّي حبسها الله بلطفه ومشيئته عن الجميع ومطامعهم وطموحاتهم الجامحة -بكلّ ما لها من مميزات وخصائص؛ من حسب ونسب، وجمال فريد ورجاحة عقل، ومال وثراء عريض ومكانة، وعفّة وجلالة-، إلا عن ابن آمنة البشير النّذير، لتّكون له بعد ذلك نعمَ العون على حمل الرّسالة، وبلاغ القول الثّقيل، وإنجاز مهامّ الإنبياء من أولي العزم.
فهذا بعضٌ من حديث ضجيعة مُعلّاةِ جبل الحُجون السيّدة الطاهرة، أم الزّهراء والقاسم؛ خديجة بنت خويلد "صلوات الله وسلامه وتحياته عليها وعلى زوجها النّبي وابنتها الصديقة وذريتها الأئمة الكرام الهداة المهديين".
عمّار الشّهاب
23/ أبريل/2021