أخبرني الحسن بن علي بن عبد الله المقرئ، حدثنا محمد بن بكران بن عمران البزاز، أخبرنا محمد بن مخلد، حدثنا محمد بن إدريس أبو حاتم الرازي، حدثنا محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي قال: حدثني جدي سنان قال:
خرجنا مع علي بن أبي طالب حين توجه إلى الشام، قال: وجرير بن سهم التميمي أمامه يقول:
يا فرسي سيرى وإمّي الشّاما
وقطعي الأجفار والأعـلاما
وقاتلي من خالف الإماما
إنّي لأرجو إن لقينا العاما
أن نقتل العاصي والهماما
وأن نزيل من رجال هاما
قال: ولما وصلت إلى المدائن قال جرير:
عفتْ الرياحُ على رسومِ ديارهمْ
فكأنما كانـوا عـلى مـيـعادِ
فقال له علي بن أبي طالب: "كيف قلت يا أخا بني تميم"؟
قال: فردد عليه البيت!
قال: "أفلا قلت: (كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين، كذلك وأورثناها قوما آخرين) الدخان 25: 28
أي: أخي هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا موروثين، إن هؤلاء كفروا النعم، فحلت بهم النقم"
ثم قال:
"إياكم وكفر النعم، - قالها ثلاثا - فتحل بكم النقم"، فنزل وقال: "هيئوا إليّ ماء أصب عليّ"!
قال: فهيئوا له ماء، فدخل فإذا صور في الحائط، قال: "كأنّ هذه كانت كنيسة"؟
قالوا: نعم! كان يشرك فيها الله كثيرا!!
قال: "وكان يذكر فيها الله كثيرا"،
قال: فأبى أن يغتسل فحولوا له إلى موضع آخر فاغتسل.
قال أبو حاتم: قلت لمحمد بن يزيد كان جدك كبير السن أدرك عليا، ما كانت كنيته، وكم أتت عليه من سنة؟ قال: كان جدي يكنى أبا حكيم، أتت عليه ست وعشرون ومائة سنة يوم مات، وأخبرني أنه غزا ثمانين غزاة.
المصدر:
تاريخ بغداد - الخطيب البغدادي - ج ٩ - الصفحة 212
دروسٌ مستفادة:
1- إنّ الإمام عليّ "ع" يتعامل مع التّاريخ ، لا كمؤرخ وإنّما باعتباره رجل عقيدة ورسالة ومبادئ، ورجل دولة وحاكما، ولم يوظفه كمادة وعظيّة فحسب، بل لامس مع ذلك النّقد السّياسي والتّربية السّياسية والتوجيه الحضاري لذلك المجتمع الذّي عاصره، وأراد له أن ينفعل معه.
2- من المصادر التي اعتمدها "ع" في معرفته وثقافته التّاريخيّة -بحسب الطبع البشري الاعتيادي- مضافا لـ القرآن الكريم، التّعليم النّبوي الخاص، السّنة النبويّة، القراءة والوقوف على المدوّنات الواقعة بين يديه باللغة العربيّة وبغيرها من اللّغات الأدبيّة السائدة في منطقته والتّي نشطَ معها:
من ذلك: الآثار العمرانيّة القديمة السالفة، وهو القائل "ع" في بعض نصوص نهجه البديع: "وسرت في آثارهم".
فقد ساح وخبر في حياته من الأقطار: شبه الجزيرة العربيّة، واليمن، والعراق، والمدائن، والشّام.
(ونقدّر أنّه قد زار الآثار الباقية من الحضارات القديمة في هذه البلاد، وإذا كان هذا قد حدث -ونحن نرجح حدوثه- فمن المؤكد أن الإمام لم يزر هذه الآثار زيارة سائح ينشد التسلية إلى جانب الثقافة، أو زيارة عالم آثار يتوقف عند الجزئيّات، وإنّما زارها زيارة معتبر، مفكر، يكمل معرفته النّظرية بمصائر الشعوب والجماعات بمشاهدة بقايا أطلال مدنها ومؤسساتها التي حلّ بها الخراب بعد أن انحطّ بناتها وفقدوا قدرتهم على الاستمرار فاندثروا). شمس الدين- حركة التاريخ عند الإمام علي "ع"، ص: 37
3- لم يفارق القرإن الكريم علي بن أبي طالب "ع" طرفة عين أبدا، فإن سور وآيات كتاب الله "عزّ وجلّ" قد خالطت لحم علي ودمه، فنراه دائم الاستحضار لها، تتدفّق على لسانه كأنّها عنق جزور، وتفعم بها كلّ جوارحه الكريمة، ولعمري فهو القرآن النّاطق!
4- واجتهد "ع" أن يجعل القرآن حاضرا في وعي المسلمين وعلى ألسنتهم وبين جوانحهم في كلّ موقف، وعلى غير صعيد، ليعيشوا ثقافة كتاب الله وعيا وسلوكا وعظة واعتبارا، وعملا واقتداء، فآيات الله وسوره منهج وحياة وليست خدعة ماكرة تستوطن رؤوس الرّماح، وتستعرض في سوح سماسرة الحروب.
5- إن الاعتبار بمن سبقونا والتأمل في ماضيهم، والنّظر في جوانب السّلب والإيجاب لديهم، والاستضاءة بتجاربهم هو لبنةٌ بناء الحاضر والمستقبل، والنّتاج البشري بكلّ أبعاده ما هو إلا ركامٌ من الآلام والآمال، والطموحات والأحلام، والنّجاحات والإخفاقات، والدّموع والبسمات، والعرق والتّعب والآهات، إذا ما أُحسنت عمليّة إعادة تموضعها، فستنتجُ الكثير الكثير على المستويين الفردي والأممي في بناء الذات وترميمها، وتقويم المجتمعات وعمارتها.
6- لا بد ان نحسنَ جوار نعمة ربّنا، فإنها ما أوشكت أن تخرج من قوم فتعود لهم مرّة أخرى!
إنّ العبثَ بأنعم الله مهلكة وأيّ مهلكة، وجولةٌ فاحصةٌ في تاريخ الأمم والحضارات التّي كفرت بأنعُم الله، كفيلة بالحذر والخوف والاعتبار لذي مسكة أو عقل.
"إنّ هؤلاء كفروا، فحلّت بهم النّقم"!!!
7- نقرأ في النّص التّاريخي المتقدّم عليّا الإنسان، تلك الرّوح الشّفافة التّي تستقطب الإنسان بما هو إنسان فحسب، وتستدعي الآخر دوما لتحتويه، وتسعى جاهدة لتذويب كلّ جليد مصطنع بغيض يحول بين الإنسان وأخيه الإنسان، وتميط غبار العصبيّة وتهزأ بتورمات سرطان الغرور الديني الفج، لتثبت أن العلائق الإنسانيّة الفطريّة هي الطريق الأقصر والآمن لتلاقي الشّعوب، وحوار الحضارات، وتآلف فسيفساء الإرث الحضاري والأُممي.
8- إن تجريح مقدّسات الآخر ليست من الأدب والآدميّة في شيء، فإن كان ولا بد، فبالنّقد العلمي، والنّقاش الموضوعي، والخلق الإسلامي الجم.
9- لا تكن ظلاميّا، ابحث عن النّور، وتطلّب بُقَعَ الضوء وإن كانت قليلة، ولا تستوقفك النكتة السّوداء في الورقة البيضاء، فإنّ في نصاعتها شغلا عن ذلك، فكذا نتعلّم ثقافة الإيجابيّة، ونقرّب وجهات النّظر.
تأمل هذا المقطع من الخبر:
(قال: فهيئوا له ماء، فدخل فإذا صور في الحائط، قال: "كأنّ هذه كانت كنيسة"؟
قالوا: نعم! كان يشرك فيها الله كثيرا!!
قال: "وكان يذكر فيها الله كثيرا").
شتّان بين الكلمتين، وفرقٌ شاسعٌ يمتدّ لما بين لابتيها من الفكرين!!
"وكان يذكرُ فيها الله كثيرا"! ايّ روح سامية هذا التي تحملها يا بن أبي طالب؟!
10- إن المرء ابن بيئته، ونتاج محيطه، فلا تكلّفه فوق طاقته، ولا تحمله ما لا قِبل له به، و(ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِیلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَـٰدِلۡهُم بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِیلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِینَ). (سورة النحل 125)
11- الاتزان وحفظ الهويّة، والحفاظ على المبدأ، مع إنصاف الآخر الديني، وعدم جرحه أو انتقاصه.
اقرا العبارة جيّدا: (فأبى أن يغتسل؛ فحولوا له إلى موضع آخر؛ فاغتسل).
إنّه التّوازن، والحكمة، والرّساليّة، ومجانبة التّميّع، وضبط المجاملات، وتقنين الانفتاح، فإن التّوحيد، ومعالم الدين أعظم من كلّ شيء، وإن كان للآخر احترامه، والجلوس معه على منضدة الإنسانيّة المستديرة، فالدين له حقّه، والإمام أمير المؤمنين "ع" خير من يقتدى به بعد ابن عمّه النّبي الأعظم "ص".
وتلكَ بعض استفادات من هذا المنهل العلوي العذب، والحمد لله ربّ العالمين.. .
عمّار الشّهاب
12/4/2021