أهميّة البحث
بسم الله الرحمن الرحيم، إنَّ التَّعدُّدية في ذات الدِّين أو في فهم الدِّين مقولةٌ يراد من خلالها تمييع العقائد والأحكام والأخلاق للدِّين الإسلامي الحقِّ، وإضعاف الارتباط الرَّاسخ به كدينٍ يمتلك منظومة متكاملة على المستوى العقدي والقيمي والعلمي، قادرة على تلبية حاجات الفرد والمجتمع من المهد إلى اللَّحد.
فالدِّين الإسلامي بقرآنه {لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت:٤٢) المنزّل على نبيّه خاتم الأنبياء الأكمل الذي لا ينطق عن الهوى، وشريعته السَّماوية السمحاء، هو الدِّين الخاتم الذي تكفلت عناية اللهa بحفظه فحريٌ أن يتبَّع ليصنع الإنسانَ في كلِّ أبعاده، ويتسامى به نحو الهدف الذي خلق من أجلِه، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران/85).
من هنا تكمن أهمية التعرُّف على هذه الأطروحات حتى يترسَّخ ويتأصَّل الارتباطُ بالدِّين الإسلاميّ الحقِّ في العُقول والقُلوب فينعكس على السُلوك، وأيضاً حتَّى ترتفع هذه الشُّبهات عن بعض العقول المتزلزلة والقلوب المترددة. نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق لذلك.
تعريف التَّعدُّدية
تعني التَّعدُّدية (Pluralism) لغويّاً الكثرة والتَّنوع، وقد أُطلقت لأوَّل مرَّةٍ في الكنيسة على من كانوا يشغلون مناصب عديدة.
أوَّل من أدخل مصطلح (البلورالية) في حقل الفلسفة هو (لوتسهLhotse-) في كتابه (ما بعد الطبيعة) وذلك عام 1841م.
المسار التاريخي للتعددية الدِّينية
التَّعدُّدية الدِّينية (Religious Pluralism) من المسائل الكلامية حديثة الظُّهور، وقد جرت مؤخَّراً على الألسن وصدرت حولها كُتب ومقالات مختلفة في بيانها ونقدها.
يتكوَّن عنوان (البيلوراليزم الدِّينيّ) من كلمتين (بيلوراليزم) و(دينيّ) والمراد به "كثرة الأديان وتعددها"؛ فالمقصود من (التَّعدُّدية الدِّينيّة) ما يقابل الوحدانيّة والتَّفرد، أو ما يصطلح عليه (الانحصاريّة في الدِّين) في مقابل (الشُّموليّة).
وعلينا أن نحدِّد أوّلاً مكان ولادة التَّعدُّديّة، وهل المتكلِّمون الغربيون هم أوَّل من أثاروا الموضوع ثمَّ دخل دائرة علم الكلام، أو أنَّ للمسألة جذوراً في الفلسفة الإسلامية والكلام الإسلامي أيضاً، أو كلاهما أثار المسألة دون أن يقتبس أحدهما من الآخر.
وقد نُسب أصلُ الموضوع إلى عدِّة أسماء:
يوحنَّا الدِّمشقيّ: وأنَّه هو مبتكر هذه المسألة، وقد كتب فيها رسالة.
ويوحنَّا الدِّمشقيّ كان من المسيحيين المقربين للخُلفاء العبَّاسيّين كالمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل (مستشار ثقافيّ)، وقد استرعت اهتمامَ الخلفاء به معلوماتُه الباهرة في الطَّب، وهو الذَّي أثار فتنة "قدم القرآن"، و"عدم حدوث كلام الله"، لكي يثبت بـ(قدم كلام الله) قدم المسيح "كلمة الله"، وقد توفي يوحنَّا الدمشقيّ في سامراء عام 248هـ.
ولما كانت رسالته مفقودة فلا يمكن محاكمتها، ومع فرض صحَّة نسبتها له، فربما كان يهدف منها (التَّعايش بين المسلمين والمسيحيّين) في ظلِّ الدَّولة العباسية، ومن الممكن أن يكون هدفه مشابهاً لهدفه في مسألة (خلق القرآن) إذ أراد من خلال قوله: "إنَّ اتِّباع جميع الأديان موجب السعادة" أن يخفِّف من حدَّة تعصُّب المسلمين، وأن يجعل أتباع الأديان الأخرى في مستوى المسلمين. هكذا قيل، وكلُّه مجرد حدس.
إخوان الصفا وخلان الوفا: وهم جماعة من فلاسفة المسلمين من أهل القرن الثَّالث الهجريّ والعاشر الميلاديّ بالبصرة، اتَّحدوا على أن يوفِّقوا بين العقائد الإسلاميّة والحقائق الفلسفيّة المعروفة في ذلك العهد، فكتبوا في ذلك خمسين مقالة سموها (تحف إخوان الصفا).
وقد تعرَّض إخوانُ الصَّفا في رسائلهم إلى مسألة التَّعدُّديّة الدِّينيّة، إذ قالوا: "الحقُّ موجودٌ في كلِّ دين، والحقُّ يجري على كلِّ إنسان، ومن الممكن تعرض الشبهة على كلِّ إنسان.. إذا احتملتَ وجود دين أفضل ممَّا أنت عليه فلا تقتنع، والأفضل لك أن تبحث، فمتى وجدتَه فلا تصرُّ على الدِّين المفضول، وعليك أن تدين بالدِّين الأفضل وتحبَّه".
إنَّ العبارة الأساسية التي تفيد وجود نوع من الحقِّ لجميع الأديان هي قولهم: "ليس الحقُّ منحصراً بدين واحد من بين جميع الأديان، وليست الأديان الأخرى لا تمتلك نصيباً من الحقِّ، وإنَّما هناك قيد مشترك بين جميع الأديان السَّماوية".
وهذا الكلام ليس جديداً وإنَّما نادى به الإسلام؛ إذ دعا القرآن الكريم أهلَ الكتاب إلى القدر المشترك، وهو (التوحيد في العبادة): {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آلعمران/64).
ثمَّ إنَّ كلامَهم السابق يفرض على كلِّ إنسان اتَّباع القانون الأفضل، والسَّعي للتعرُّف عليه، وهذا الكلام يؤكد أنَّ هؤلاء من دعاة الانحصارية في الدِّين، وليس التَّعدُّدية الدِّينية.
وقد قيل إنَّ في عام 1950م لم تكن هناك أي إشارة إلى هذه المسألة في السَّاحة الفكرية الإسلامية، ممَّا يؤكد أنَّ (البيلوراليزم) فكرة غربيّة بشكلٍّ كامل، ثمَّ تسلَّلت إلى الفِكر الشَّرقيّ.
التعددية الدينيّة في إيران
إنَّ أوَّل من تناول التَّعدُّدية الدِّينية في إيران هو الدكتور «ميمندي نجاد» في النَّصف الثَّاني من القرن العشرين، واستدلَّ بالآية الكريمة الآتية على نجاة جميع أتباع الدِّيانات السماوية وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة/62)، وبمضمونها في سور أخرى (المائدة 169- الحج 17).
وقد تناول المفسِّرون هذه الآيات وأشاروا تصريحاً أو تلميحاً أنَّ هذا الفهمَ خاطئ، وقد اعتبره أبو الأعلى المودودي كما في كتاب (الإسلام في مواجهة التَّحديات المعاصرة) بأنَّه أكبر افتراءٍ على القرآن الكريم.
ويمكن مراجعة جواب هذه الشُّبهة بشكلٍ تفصيلي في كتاب «مفاهيم القرآن» للشيخ السبحانيّ.
وهناك كتابان سادا الوسط الفكريّ، وهما:
فلسفة الدِّين لـ «جون هيك» وهو مسيحيّ من مواليد 1922م، فيلسوف وأستاذ في فلسفة الدِّين والتَّعدُّدية الدِّينيّة، وهو من انجلترا، تُوفي عام 2012م.
وقد طرح في كتابه مسألة التَّعدُّديّة الدِّينيّة كفهم جديد للكتب السَّماويّة ودافع عنها بقوَّة.
صراطهاي مستقيم (السُرط-جمع صراط-المستقيمة) تأليف عبد الكريم سروش، الذَّي تبنَّي رأي جون هيك وأعاد صياغة أفكاره.
وهذا الكتاب لو تجاوزنا محتواه، فإنَّ عنوانه يتعارض مع القرآن الكريم الذي حصر النَّجاة والسعادة بطريق واحد، يقول تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام/153).
عبدالكريم سروش-هو الاسم المستعار لحسين حاجي فرج دبّاغ- من كبار المثقَّفين الإيرانيين المعاصرين من مواليد طهران سنة 1945م، حصل على الدكتوراه في فرع الكيمياء في جامعة لندن، تأثَّر (بجون هيك)، وكان من الأفضل للمؤلف أن لا يسمي كتابَه بهذا الاسم لكي لا يقع في تعارض صريح مع القرآن الكريم.
هذانِ الكتابان، -إضافة إلى الكتب الكلاميّة المترجمة-، وصيرورة الثَّقافة ثقافة إعلاميّة، كلُّ ذلك كان وراء انتشار هذه القضية، وكان السَّبب أيضاً وراء كتابِه (رسائل ومقالات مختلفة) حول الموضوع نفسه.
ويندرج تحت هذا العنوان بحثان رئيسيّان هما:
التَّعدُّديّة في فهم الدِّين.
التَّعدُّديّة في ذات الدِّين.
والمقصود من التَّعدُّدية في فهم الدِّين، هو الاعتقاد بالاستنتاجات والانطباعات المختلفة عن الدِّين، وبالتعبير المتداول اليوم، «القراءات المتعدّدة للدين» «الهرمونوطيقيا» نظرية تعدد القراءات.
والمقصود من التَّعدُّديّة في ذات الدِّين، هو أنَّ الأديان نفسها تمثل طرقاً مختلفة تفضي إلى الحقيقة الواحدة، أي أنّها في مقام السعادة والصدق والحقّانيّة تقوم بقيادة أتباعها وهدايتهم إلى أمر واحد.
الحديث في المقام عن التَّعدُّدية في ذات الدِّين، ومرجع التَّعدُّدية في الدِّين انما هو تلك الرؤية التي تحاول أن تبين التعدد الموجود في الديانات، فهذه الأديان التي ظهرت في الماضي والحاضر ما هي نسبتها إلى بعضها البعض؟
وما هي نسبتها إلى الواقع والحقيقة؟
وما هي علاقتها بأتباعها؟
وهذا ما سوف نتناوله ضمن هذا البحث بإذن الله تعالى.
الدِّين والشَّريعة:
من المصطلحات التي ينبغي تحديد معانيها أوّلاً (الدِّين) و(الشَّريعة) وما لم يتَّضح مفهومهما الواقعيّ لا نستطيع أن نقرِّر شيئا بشأن «وحدانيّة الدِّين» أو تعدده.
فمن تحدَّث عن «التَّعدُّديّة الدِّينيّة» لم يفرِّق بين الشَّريعة والدِّين، ولم يوضِّح بأيهما يختص الحديث حول الوحدة والكثرة.
لقد اعتبر القرآن الكريم -وهو أوثق وثيقة لتفسير هذين المصطلحين، وهو الكتاب السماويّ الوحيد الذي لم تنله أيدي التحريف في ألفاظه- اعتبر الدِّين واحداً والشَّريعة متعدِّدة، وأكد القرآن الكريم أنَّ جوهر الدِّين واحد في جميع العصور، وقد أمر جميع الأنبياء بتبليغه، ولم يُحدِث الأنبياءُ واحداً بعد الآخر أيَّ تغيير أو اختلاف فيه، وظلَّ شامخاً وثابتاً ومحكماً على مدى العصور ولا يطاله النَّسخ، لهذا لم يرد لفظ الدِّين في القرآن الكريم إلا بصيغة المفرد ولم يرد قط بصيغة الجمع.
فالدِّين واحدٌ ولا يقبل الكثرة، وحقيقته «التَّسليم لله تعالى» صاحب السلطة والحاكمية والخلق والربوبية، وكلُّ أمَّة قد دعيت لهذه الحقيقة، كلٌّ حسب قدرتها واستعدادها.
ويمكننا أن نؤكد ذلك من خلال الإمعان في الآيات القرآنية: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه} (سورة يوسف/40).
ووصفت بعض الآيات التوحيد بالدِّين القيم {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (التوبة:35، يوسف:40، الروم:30)، فإذا كان التسليم للحق تعالى ونفي التَّسليم لغيره هو الدِّين القيم، إذاً فيجب أن يبقى بالقوة نفسها في جميع العصور {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَٰلِكَ الدِّين الْقَيِّمُ} (سورة الروم/30) ويتلخَّص الدِّين القيم الثابت بالتوحيد في العبادة.
ما هي الشَّريعة؟
«الشَّريعة» و«الشِّرعة» يقال للطريق الموصل إلى الماء، والقرآن الكريم بعد ما يؤكد وحدة الدِّين يشير إلى تعدُّد الشَّرائع ووجود الشَّرائع والمناهج.
والمراد بالشرائع:
التعاليم العلميّة والأخلاقيّة التي تنظِّم علاقات الإنسان الفرديّة والاجتماعيّة، وتحدِّد مسؤوليّة الإنسان أمام الله والنَّاس.
والسَّبب في اختلاف الشرائع هو الاختلاف في الاستعدادات والقدرات والظروف المختلفة الحاكمة في الناس، لهذا نجد الشيء حلالاً في هذه الشَّريعة وحراماً في شريعة أخرى.
وعلى هذا تنسخ الشرائع، لكن النَّسخ لا ينال جميع التعاليم العلمية والأخلاقية للشَّريعة، وإنما ينسخ القسم الملازم لتطور الزَّمان والإمكانات واختلاف الظٌّروف.
وقد صرَّح القرآن الكريم باختلاف الشرائع {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة:47).
الدِّين دين الإسلام فقط:
حصرت بعض الآيات الدِّين في الإسلام قال تعالى: {إِنَّ الدِّين عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران/19)، والآية ليست ناظرة إلى عصر الرسولe فقط، بل هي حقيقة مستمرّة في جميع العصور؛ فلذا نرى الأنبياء السابقين يبشِّرون بقدوم النبي محمَّدٍe قبل ولادته وبعثته.
فإذا كان الدِّين واحد والشرائع متعددة، فيكون معنى الدِّين هو العقائد التوحيديّة والمعارف الإلهيّة التي دُعي جميع الأنبياء إلى تبليغها، وسيكون محورها التَّسليم لله تعالى وعدم عبادة أو إطاعة غيره.
آية أخرى تقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آلعمران/85).
وهذا الحكم لا يختص أيضاً بعصر الرسولe، وإنّما يسري إلى جميع العصور، فلذا أكد القرآن الكريم أنَّ إبراهيمg كان مسلماً {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آلعمران/67).
القراءات الثلاث للتعدّديّة الدِّينيّة
التَّعدُّديّة الدِّينيّة تحمل تفسيرات وقراءات متعدّدة، وما لم نتناولها واحدة واحدة لا يمكننا أن نحكم لها أو ضدها.
1ـ التَّعدُّديّة الدِّينيّة السلوكيّة:
وتعني أنَّ جميع أتباع الأديان (حسب تعبير المنظّرين) أو الشرائع (في ضوء تعبيرنا)، قادرون على العيش بعضهم إلى البعض الآخر على أساس المشتركات، وأن يتحمَّل أحدهم الآخر.
ونحن لا ننكر وجود المشتركات بين الشرائع الكبرى (اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام) كما أنَّ هناك اختلافاً بينها.
إنَّ التَّعدُّدية بهذه القراءة يقبلها العقل والدِّين والشَّريعة، وقد دعا القرآن الكريم أهل الكتاب إلى حياة مسالمة تحت خيمة التَّوحيد، لأنَّه أصلٌ مشترك بين جميع الشرائع السماوية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آلعمران/64).
والاعتراف بحقوق أهل الكتاب لا يعني الجزم بفوزهم ونجاتهم؛ لأنَّ القضيّة مرتبطة بسلوك اجتماعيّ في الحياة الدِّينيّة حفاظاً على الكرامة الإنسانيّة، وقد اعترف الفقه الإسلاميّ (الذي يرتكز على الكتاب والسنّة) بأهل الكتاب ودعا إلى احترام حقوقهم بما لا مزيد عليه، ففي كتب الفقه فصل خاص عن أهل الذمّة وشروطها، وهو يعكس مدى تعاطف الإسلام مع هذه الشرائع الاجتماعيّة.
وهنا نذكر مثالاً: عندما كان الإمام عليg يتجوَّل في شوارع المدينة رأى رجلاً أعمى يستعطي النَّاس، فسأل ما هذا؟ فقيل: رجل نصرانيّ، فأجاب الإمامe: «استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! انفقوا عليه من بيت المال».
وهو الذي قال بأنَّ النَّاس «صنفان إما أخ لك في الدِّين أو نظير لك في الخلق»، لكنّ بعض دعاة التَّعدُّدية الدِّينية يرفضون هذه القراءة، ويعتبرونها خارجة عن الموضوع.
2ـ التَّعدُّديّة الدِّينيّة المخلِّصة:
ومعناها، أنَّ الخلاص والسَّعادة توفرُّها جميع الشرائع في جميع العصور، فيقولون يكفي في سعادة الإنسان أن يؤمن بالله، وأن يلتزم في حياته واحدة من الشرائع وتعاليمها.
فيكفي للإنسان أن يعبد الله، وأن ينتسب لأحد الأديان السماويّة النَّازلة منه تعالى، وأن يعمل بأوامرها، أما شكل هذه الأوامر فلا أهمية له.
ويتبنّى هذه الفكرة كلٌ من جورج جرداق (لبنانيّ) -لديه سلسلة كتب عن الإمام عليg توفي عام 2014م- وجبران خليل جبران الكاتب اللبنانيّ المسيحيّ المعروف وآخرون.
في ضوء هذا التَّفسير، ومن خلال المسار التَّاريخيّ للنبوّات، نستطيع أن نناقش هذا التَّفسير الثَّاني للتعدّديّة الدِّينيّة بالتالي:
إنَّ القول بخلود واستمرارية كلِّ شريعة يفضي إلى إلغاء فائدة تشريع الشرائع المتعدّدة، وإرسال الرسل المحوريّين، وسوف لا نجني من ذلك شيئاً سوى التشويش وبثّ الفرقة.
إذا قلنا يكفي في تحقيق السَّعادة اتّباع أيَّة شريعة، فلماذا تحدّد مسؤوليّة كلِّ نبيّ بمجيء النبيّ الآخر.
إذا كانت كلُّ الشرائع خالدة فلا موجب لنسخ الأحكام، ولو بشكل إجماليّ، ولما قال المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} (آل عمران/50).
تتوقّف حياة الإنسان في الآخرة على عقيدة صحيحة وعمل صالح، وتحقّقهما موجب للثواب. وهنا نسأل: كيف يمكن للتضادّ في العقيدة أو العمل بحكمين متضادّين أن يضمن الحياة المعنويّة للإنسان؟! وكيف يسعد الإنسان في الدارين بتبنّي التوحيد على جميع الأصعدة مع الإيمان بتثليث الربّ أو تجنّب الخمر والربا مع الإدمان وأكل الربا؟!
لو أعرضنا عن كلِّ ما سبق، فإنَّ واقعيّة السَّعادة التي توفّرها هذه الأديان ستكون مشروطة بعدم تحريفها، فهل هذا الشرط صادق في الشرائع السابقة؟
مع أنَّ الإنجيل سجل لتاريخ حياة المسيح، -وليس الإنجيل الحاليّ كتاب المسيح أو خطاباته- وقد كتبه بعض تلامذته، فكلّ واحد من الأناجيل الأربعة:
انجيل متّى: وجه خطابه لليهود -استشهد بالتوراة.
انجيل مرقس: الرومانيّ.
انجيل لوقا: طبيب يونانيّ -خاطب اليونانيّين.
انجيل يوحنّا: يوحنّا بن زبديّ أحد تلامذة (المسيح اليسوع) الذي لازموه -خاطب المسيحية لتقوية إيمانهم.
ضبط حياة المسيح بشكل خاصّ وذكر صلبه ودفنه وعروجه للسماء.
وكذلك التوراة الحاليّة قُرئت وكتبت على يد أحد حفّاظ التوراة في زمان نوبخت نصر بعد اختفاء النسخة الأصليّة.
وهذه النسخة الحاليّة تعرّضت بعد مرور سبع مائة سنة للتحريف، واشتملت على أحكام ونصوص تخالف العقل.
3ـ التَّعدُّديّة الدِّينيّة المعرفيّة:
ومعناها أنّ الدِّين واحد واقعاً، ويعود السَّبب في تعدّده إلى الفهم المختلف للأنبياء الإلهيّين.
وخلاصة هذا التَّفسير: إنَّ هناك حقيقة اسمها الإشراق تمكّن الأنبياء من الاتصال بالوجود وشهود وإدراك الله بدون واسطة.
ويعبِّرون عن هذه العملية بالتجربة الدِّينية غير أنَّ التَّعدُّدية الدِّينية لها علاقة بفهم الأنبياء، وهناك عوامل متعددة لوجود الاختلاف في الفهم بينهم (الثقافة، اللغة، التاريخ، الوضع الجسميّ..).
وبعبارة أخرى: إنَّ اتصال الأنبياء بهذا الموجود المجهول، أو الشعور بالارتكاز مطلقاً إلى موجود متعال حقيقة واحدة ولا تستبطن الكثرة، لكن يحصل الاختلاف عندما يراد التعبير عن هذه الحقيقة وصبّها في قالب لغويّ!
وهذا التَّفسير -ظاهراً- هو المقصود من قبل مؤسسيّ هذه النظريّة من قبيل (جون هيك)، والمنظرّين لها (الفلسفة الدِّينيّة)، والمدافعين عنها من قبيل (عبد الكريم سروش) في كتابه (صراط هاي مستقيم).
نقد هذا التفسير (التَّعدُّديّة الدِّينيّة المعرفيّة):
إذا لم يتمكن أحد من الوصول إلى الحقيقة، وكلّ شخص ينظر إليها بمنظاره الخاصّ، فيجب أن نقول:
إنَّ جميع الشرائع أو الأديان ستكون "طرقاً" غير مستقيمة، ومعارف غير ثابتة، وتفاسير قلقة من شهود الحقيقة، وهو يؤدي إلى التخبط دائماً في بحر الجهل، والتيه في ضلاله إلى يوم يبعثون.
فحينئذ نقول: لا فرق بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام والأديان الأخرى مثل البوذيّة والهندوسيّة، بل حتى المذاهب الإلحاديّة مثل الماديّة والواقعيّة الحديثة؛ لأنَّ الجميع يشتركون في رسم صورة خاطئة للوجود، وعليه سيكون الإنسان مخيّراً في اختيار تثليث المسيحيّة أو توحيد الإسلام أو ألوهيّة براهما وبوذا.
وهذا التَّفسير يعكس وجود أزمة فكريّة لدى صاحب هذه النظرية.
لو فرضنا صحة هذه النَّظريّة، فإنَّ التَّعدُّديّة ستختصّ بالتعاليم والمعارف العقائديّة كالتوحيد والتثليث، والجبر والاختيار، والتنزيه والتجسيم، ولا تشمل الأحكام العمليّة والأخلاقيّة.
وبعبارة أخرى: إنَّ النصوص العقائديّة تشتمل على جنبة خبريّة، وتقول الله واحد أو الله ثلاثة... وهكذا بقيّة المسائل العقائديّة الأخرى، بينما النُّصوص في التعاليم العملية والأخلاقية إنشائية من قبيل: افعل ولا تفعل مثلاً -صلّ، صُم، لا تشرب الخمر...
فكيف لهذه النُّصوص الإنشائية أن ترتبط بالتجربة الدِّينية للأنبياء فيختلفون في التَّعبير عنها من خلال القوالب اللفظية.
لو افترضنا أنَّ القضايا العقائدية انعكاس لما يفهمه الأنبياء من التجربة الدِّينيّة، فكيف يكون للإشراق والعلاقة بالوجود المطلقة نتائج متناقضة، أحد الأنبياء يدعو للتوحيد والآخر للتثليث؟
يقول أحد دعاة التَّعدُّدية الدِّينية المعرفية وهو عبد الكريم سروش في كتابه صراط هاي مستقيم:
"إنَّ أوَّل من بذر بذور التَّعدُّدية في العالم هو الله، والله هو الذي أرسل أنبياء مختلفين، فتجلَّى لكلِّ واحد بشكل، وأرسل كلَّ واحدٍ إلى مجتمع، وجعل على كلِّ لسان وذهن تفسيراً خاصاً، وبهذا الشكل أجَّج بوتقة التَّعدُّدية".
إنَّ إحدى مشكلات التَّعدُّديّة الدِّينيّة المعرفيّة هو وجود التناقض في دعوات الأنبياء (لأنهم يعتقدون أنَّ المسيح دعا إلى التثليث)، وطالما اخفقوا في حلِّ هذه الأزمة.
إضافة إلى أنَّ هذا التَّفسير يتنافى مع قولنا بعصمة الأنبياء في تلقّي الوحي وفي تبليغه.
وأيضاً، إنَّ التَّسليم به يلزم منه نقض الغرض في بعثة الأنبياء لهداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النُّور.
الخاتمة:
إنْ كان المراد من التعدديّة الدينيّة هو التعدديّة الدينيّة السلوكية فلا محذور في ذلك ويمكن قبوله، إلا أنَّ هذا المعنى لا يقول به من يروّج لفكرة التعدديّة الدينيّة، بل يقول بالتعدّديّة الدينيّة المخلِّصة أو التعدّديّة الدينيّة المعرفيّة، وهذا لا يمكن قبوله -بهذين التفسيرين للتعدّديّة الدينيّة- لتعارضه مع المسلّمات الدينيّة التي أشرنا إليها ضمن البحث.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.