تقريرات موجزة: درس (الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة) - الشيخ الحرُّ العاملي (قدِّس سرُّه) {10}
الأستاذ: السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي.
المقرِّر: محمود أحمد سهلان العكراوي.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب15 - أنَّ أسماء الله غير الله، وأنه لا يجوز عبادة شيءٍ من أسمائه دونه ولا معه، بل الواجب عبادة المسمى بها:
سؤال: أسماء الله تعالى، هل هي توقيفيةٌ أم لا؟ ولماذا؟
جوابنا: نعم هي توقيفية، والقطع بها قطعٌ موضوعي، وما دام القطع موضوعيًا فأنا مطالبٌ بها هي ولا أخترع من نفسي، والوصول بها إلى الله تعالى طريقي، والله سبحانه والذين ينطقون عنه هم الذين يحدِّدون الطريق إليه تعالى.
وبالتالي لا يصح أن أضع اسمًا من عندي، فنجد بعضهم يُشكِل على تسمية (رئيس العقلاء)، بغض النظر الآن عن صحة الإشكال من عدمها.
تنبيه:
نتعلَّم القواعد المنطقية والأصولية وغيرها كي نتحرَّك في طريق الاستدلال الصحيح، لا لنتقيَّد بها، فيمكن أن نتحرَّك بين الأدلة اللِّمية والإنية صعودًا ونزولا، بما ينتج لدينا نتائج أكثر، وعند القيام بعملية الاستدلال نبين اتجاهنا كي لا يشتبه على القارئ الأمر.
{91} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن محمَّد بن عيسى بن عبيد، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رِئاب، وعن غير واحد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: من عَبَدَ الله بالتوهُّم فقد كفر، ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك، ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليها قلبه ونطق بها لسانه في سرائره وعلانيته فأولئك أصحاب أمير المؤمنين حقا.
{92} الرواية الثانية: قال: وفي حديثٍ آخر: هم المؤمنون حقا.
فائدةٌ درائية:
قال: "عن غير واحد": قد يصح أن نقول أننا يمكن أن نستفيد الاستفاضة أو التواتر عند الحسن بن محبوب، ولتحقيق الحال نحتاج للنظر في طُرقه إلى الإمام الصادق (عليه السلام). والاستفاضة هي وصفٌ للخبر الذي يكون فوق الخبر الواحد ودون التواتر، وفي هذه الرواية فيما لو أثبتناها تكون قد انقطعت عند ابن محبوب.
الروايات تنهى عن عبادة الأسماء، وتدعوا لعبادة المسمَّى، فكيف نتصور عبادة الأسماء؟
تفكير الإنسان له أمورٌ معدودة، وهي قوامه، ينبغي أن نعرفها ونحفظها، فهي تحمي الفكر من التهافت، ومنها قيام فكر الإنسان على المقارنة والمقايسة، ومنها استعمال القيود البيانية والاحترازية في الكلام، وسيتضح دوره في المقام.
في بعض الأحيان عندما نذكر الله تعالى بأحد أسمائه قد نظن أن هذا اللفظ هو المؤثِّر، وفي الواقع ليس هو المؤثِّر بذاته، ولا يكون مؤثرًا إلا إذا جعل الله له المؤثرية. انظر على سبيل المثال فيما لو أخذت الحروف الهجائية وتركيباتها خارج القرآن حتى لو كانت نفس الألفاظ لا يكون لها خصوصية، فيجوز أن تلمسها مثلا، ولكن يكون لها خصوصيةٌ عندما نعتبرها قرآنا، فلا يصح أن تلمسها إلا عن طهارةٍ حينها.
هذه الخصوصية مجعولةٌ من الله تعالى، فعندما تأتي روايةٌ وتقول اقرأ الذكر الفلاني كذا مرة، فهذه الخصوصية لا يمكن أن تتعدَّى إلى غيرها، فتكرار هذا اللفظ المعيَّن بعدد مراتٍ محددةٍ له مِلاكه الخاص، ولا تصح تعديته بلا جعلٍ من الله تعالى.
وبالتالي إذا قلنا (يا قادر) مثلًا فما لم نقصد ذات الله عزَّ وجلَّ بالطريق الذي وضعه فهو غير صحيح، حتى لو وجدت له أثرًا إذا كان من الأمور التوقيفية، فالاختراع غير جائزٍ لأنه لا قيمة للألفاظ في المقام إلا بالجعل الإلهي، والدعاء بأحد الأسماء كالقادر أو الرزاق أو العاصم أو غيرها، إنما اخترته لأنها الجهة التي تعنيني في المقام، لا أنني أدعو الاسم نفسه دون المسمى وهو الله تعالى.
في كلامنا نذكر قيودًا احترازيةً أو بيانية، فإذا كان الأمر لا يحتاج لبيانٍ زائدٍ يتضح من السياق أنها احترازية، وهو أسلوبٌ استعمله أئمتنا (عليهم السلام) كما في هذه الرواية، حيث أن الفرض المذكور لا نتعقَّلُه عادة، ولا نقصد امتناعه عقلا، والقيد هنا للاحتراز من الوقوع مما وقع فيه الغير، لأن مثل هذه الحالة ظهرت في الصوفية.
قال (عليه السلام): "من عَبَدَ الله بالتوهُّم فقد كفر"، وهذا منزلق، لأن فكر الإنسان قائمٌ على المقارنة والمقايسة والممايزة كما ذكرنا، والتوهُّم يؤدي إلى هذه المنزلقات، وهو كفر، ومعرفة الله قائمةٌ على نفي الأضداد.
والإيمان ليس بالعقل بل هو بالقلب، وما يؤدي إليه العقل مساعدٌ ومُقَوٍّ، فقد يكون العالم عالمًا بالتوحيد وغيره من العقائد، لكنه لا يكون مؤمنا، فنقول أن العالِمَ ينبغي أن يكون مؤمنا، لكن المؤمن المتدين لا نطالبه أن يكون عالِما، وإن كان لطلب العلم فضله، فليس المطلوب من الجميع أن يكونوا علماء.
في قوله (عليه السلام): "من عبد الله بالتوهُّم فقد كفر" نقول: هناك أمورٌ ينبغي أن يُسدَّ بابها، منها مسألة التوهُّم كما يحصل للبعض أثناء الصلاة، من توهُّم الوقوف أمام ملك، أو غيرها من التوهُّمات.
تنبيه:
من مساوئ الاقتطاع من الروايات إيهام بعض المفاهيم الخاطئة، فلو اقتطعنا: (ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر)، وثبَّتنا لها المفهوم، لقلنا: ينبغي أن نعبد الاسم مع المعنى، لكن هذه الجملة لا مفهوم لها، لعدم الانحصار فيها، كما قُرِّر في الأصول. فالاقتطاع إما أن يكون اقتطاعًا صحيحًا وإلا فهو يؤدي لمفاهيم باطلة.
قال (عليه السلام): "ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء على المعنى"، ومعنى إيقاع الأسماء مطابقتها بالمعنى، بما لا اثنينية فيه، فالتطابق يُصيِّر الشيئين شيئًا واحدا، فيتطابق (أ) مع (ب) ولا يكون له وجودٌ مختلفٌ عمَّا تطابق معه، وهذا المراد في الرواية، فعندما قال أوقع الاسم على المعنى لا وجودَ لأمرين بل يحملك الاسم للمعنى.
قال (عليه السلام): "فأولئك أصحاب أمير المؤمنين حقا"، وهي إشارةٌ منه (عليه السلام) لسلامة التوحيد، لأنها شرط صحبته.
{93} الرواية الثالثة: وعنه، عن أبيه، عن النَّضر بن سُويد، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث أسماء الله واشتقاقها، قال: الاسم غير المسمى، فمَن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا، ومَن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين، ومَن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد، إلى أن قال: يا هشام، الخبز اسمٌ للمأكول، والماء اسمٌ للمشروب، والثوب اسمٌ للملبوس، والنار اسمٌ للمُحرِق، أَفَهِمتَ يا هشام؟ قلت: نعم، قال: نفعك الله وثبَّتك.
من عبد الاسم دون المعنى لم يعبد شيئًا لأن الدالَّ في نفسه لا معنى له، وإنما جُعِل للدلالة على معنًى ما، وليس هو إلا للوصول. أما حال الثاني؛ أي الذي عبد الاسم والمعنى معًا فهو الكفر أيضا، لأن الاسم اكتسب اعتباره من قَرنِه بالمعنى فتثبت الاثنينة وعبادة الاثنين، وهذا كفر.
أما قوله (عليه السلام): "ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد"، فهو يفسِّر ما قلناه من انطباق الاسم على المعنى، وصيرورتهما واحدا، فالاسم أوصلني للمعنى وبعد ذلك لا اعتبار به.
قال (عليه السلام): "الخبز اسمٌ للمأكول ... نفعك الله وثبتك". فماذا فهم هشام؟
الاسم لا يغنيك عن الموجود حقيقة، فلو قلت (خبز) ولم تأكل فلا تشبع، ولو قلت يا رحمن يا رحمن وأنت لا تعتقد به، فلا ينفعك ذلك شيئا.
{94} الرواية الرابعة: وعنه، عن العباس بن معروف، عن عبد الرحمن ابن أبي نجران، قال: كتبت إلى أبي جعفرٍ (عليه السلام)، أو قلتُ له: جعلني الله فداك، نعبد الله الرحمن الرحيم الواحد الأحد الصمد، قال: فقال: إنَّ مَنْ عَبَدَ الاسم دون المُسمى بالأسماء فقد أشركَ وكفرَ وجحدَ ولم يعبد شيئا، بل اعبدِ الله الواحد الأحد الصمد المسمى بهذه الأسماء، إنَّ الأسماء صفاتٌ وَصَفَ بها نفسه.
ملاحظة:
المتردِّد في أنها كانت مكاتبةً أو مشافهةً هو ابن معروف وليس ابن أبي نجران.
وكأن الإمام أجاب ابن أبي نجران: أن كل ما قلت لا يعنيني، وهنا أعطيك القاعدة، وامضِ على وُفقِها.
{95} الرواية الخامسة: وعنه، عن أبيه، عن الفُقيمي، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث الزنديق، حيث سأله عن الله ما هو؟ فقال (عليه السلام): هو الربُّ وهو المعبود وهو الله، وليس قولي: الله، إثبات هذه الحروف، ألفٌ ولامٌ وهاءٌ وراءٌ وباء، ولكن ارجع إلى معنًى وشيءٍ خالقِ الأشياءِ وصانعها، ونعتِ هذه الحروف وهي المعنى سُمِّيَ به الله والرحمن الرحيم والعزيز وأشباه ذلك من أسمائه، وهو المعبود جلَّ وعز.
هذا الجواب إلى الزنديق فتنبَّه، حيث تختلف الإجابات بحسب حال السائل أو المُحاور.
قال (عليه السلام): "وليس قولي..."، إنما هو لضيق العبارة، وركَّز الإمام عليه لرفع الشبهة.
فائدةٌ مهمة:
في الغالب يُقاس الحقُّ على ما نرجوه من مظهرٍ خارجي، كأن يضحِّي شخصٌ من أجل قضيةٍ يؤمن بها، فنبجِّله ونجعله قدوة، فنقيس هؤلاء بالمعصومين مثلا، إذ أنه بحسب الظاهر لا فرق بينهم وقد يتفوَّق غير المعصوم عليه بنظرنا، فنقارن بعض الوقائع مثلًا بواقعة كربلاء، ونتساءل: كيف يصحُّ القول: لا يوم كيومك يا أبا عبد الله. إلا أن المسألة ليست في هذا الظاهر، فعندما يكون المقتول أحد أصحاب الحسين (عليه السلام) كمسلم بن عوسجة وحبيب وغيرهما، فالأمر مختلفٌ لجهة اختلاف اليقين، وليست المسألة مجرَّد الإيمان بقضيةٍ مَّا. وهذه هي مصيبتنا، وهي قياس الأمور بحسب ظاهرها، أما المطلوب فهو الإيمان بقضيةٍ واحدة، وهي قضية الولاية لا غير، وكل ما عدا ذلك مهما كان ظاهره فليس هو المطلوب، فلا تُقاس الأمور بظواهرها وآثارها فقط، وحلُّ الإشكال يكون في بيان أن هذا الفعل الظاهري إذا لم يكن لقيمةٍ أرادها الله تعالى وبنصٍّ واضحٍ لا بتأويل، فهو ظُلماتٌ ولا نور فيه.
مسألةٌ تأسيسيةٌ:
الأصل أننا لا نحتاج للتخاطب، ويمكن فهم هذا الأمر من خلال الوجودات الأربعة، فالوجود الأول هو الوجود الحقيقي، كالوجودات الخارجية والأفكار في الذهن، فلو استطعنا نقل الحقائق كما هي فلن نحتاج لأن نتكلم، بل لن نحتاج لأن نتخاطر بالأذهان، فلا نحتاج إلى دوال، لأن المعاني كلها حاضرة، ثم إن المعاني موجودةٌ في الذهن، وهو الوجود الثاني، فلو استطعت إيصال المعاني بلا كلامٍ فلا حاجة للكلام، لكننا لا نتمكن من إيصال كل ما نريد للآخر عن طريق إحضاره أو إيصال الفكرة، فانتقلنا لوجودٍ أنزل، لكنه يأخذ اعتباره من الأعيان الخارجية والصور الذهنية، وهذا هو الوجود اللفظي، واعتبار اللفظ وقيمته إنما لكونه طريقًا يقع على المعنى المراد، ونتنزل أيضًا لوجودٍ رابعٍ لأننا لا نتمكن من التخاطب باللسان دائما، وهو الوجود الكتبي، فصار اعتبار الوجود الكتبي من اللفظ، واعتبار الوجود اللفظي من المعنى، فيكون هذا حاكيًا عن ذاك، واعتبار الوجود الكتبي بالتالي راجعٌ للحقائق، ولكننا نستغني عنه إذا تمكَّنا من نقل المعاني دونه، فهو ليس إلا طريقٌ للوصول للمعاني.
وبالتالي كل أداةٍ تكتسب اعتبارها من الوجود الحقيقي يكون لها قيمتها، فتكون لها أحكامٌ تابعةٌ لذاك الوجود الحقيقي، وفي الأمر تفصيلٍ له محله.
الآن نسأل: ما العلاقة بين اللفظ وما يدلُّ عليه اللفظ؟
إذا نَقَلَني اللفظ إلى المعنى بلا تكلُّفٍ ولا سؤالٍ زائدٍ انتهى الأمر، ولا شأن لي باللفظ، لكن الاضطرار للوجودين اللفظي والكتبي إنما هو لتعذر التخاطب بالأعيان الخارجية والمعاني الحقيقية دون وجود طريقٍ يؤدي إليها، فعندما أراد الله تعالى أن يخاطب الإنسان، يُفترض أن مجرد إرادة رب العالمين تُخطر المعنى في أذهاننا، لكننا لا نحتمل ذلك ولا قابلية لنا، ولا يملك القابلية لها إلا من اصطفى كالأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، أما نحن فنحتاج لما يناسبنا، إذ الله تعالى لا جهات له، وهذا النفي جلاليٌّ لتنزيهه عن كل نقص، بخلافي أنا الإنسان، فلا أستطيع التفكير إلا بالمقارنة والقياس والتمييز، وعندما أتوجه للذات الإلهية، فأقول صفاته عين ذاته وأنفي عنها الجهات، فيأتي الإمام (عليه السلام) فيقول هذه الصفات مخلوقة، فهي غير الذات، والأمر الثاني أنها لحاجة الخلق إليها وإلا فمقام الذات الإلهية لا يحتاج إلى خلق. ولكن لو افترضنا محالًا وذهبنا للأعلى ولا وجود إلا الله تعالى بلا خلق، فلا يأتي الكلام مطلقًا عن العلم أو غيره من الصفات، لعدم وجود موضوعٍ أصلا، ولما صار الخلق جاء الدور على التعرُّف على صفات الخالق، فنقول هو خالقٌ قادرٌ عالمٌ وهكذا، فإذا جئت للمخلوق، وأردت أن أعبد الذي أوجد المخلوقات، فأتمسَّك بالاسم لأنني لا أتمكن إلا بالممايزة، ومرَّ الكلام فيما يترتب على ذلك، وكيفية الخروج من هذه الإشكالات كما أفاد أهل البيت (عليهم السلام).
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب16 - أنَّ الله سبحانه أزليٌّ أبديٌّ سرمديٌّ لا أول لوجوده ولا آخر له:
الأول والآخر يكون بين المعدود، ومع الله تعالى لا معدودَ فنقول الأزل والسَّرمد إذ لا زمان، فالسؤال عمَّا قبل الله سؤالٌ غير صحيحٍ لا قيمة له، حتى قوله أزليٌّ وسرمديٌّ هي مخلوقةٌ والتعبير بها لضيق العبارة.
{96} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمَّد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة، قال: سأل نافع بن الأزرق أبا عبد الله (عليه السلام)، فقال: أخبرني عن الله، متى كان؟ فقال: متى لم يكنْ حتى أُخبِرك متى كان، سبحان مَن لم يزلْ ولا يزال فردًا صمدًا لم يتَّخذ صاحبةً ولا ولدا.
الكلمات الأولى من الجواب كانت كافية، ولكن الإضافة في ختام الرواية وهي قوله (عليه السلام): "فردًا صمدًا لم يتخذ صاحبةً ولا ولدا"، كانت لأن السائل نظر للمخلوق ونشأ عنده هذا السؤال، فأراد الإمام (عليه السلام) رَفعَ هذه الشُبهة من ذهنه، وقد اختار (عليه السلام) خصوص صفات (فردا صمدا...) لأنها بخلاف الواقع الخارجي الذي نراه، حتى الشجرة والحيوان والجماد لا تراها منفردة، دائمًا ما تكون في حالِ مُحتاجٍ ومتوالد، وهو منشأ سؤاله، والمراد فصله عن هذا الواقع عن طريق النفي عن الله وتنزيهه.
{97} الرواية الثانية: وعنه، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمَّد، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، قال: جاء رجلٌ إلى أبي جعفرٍ (عليه السلام) فقال له: أخبرني عن ربِّك متى كان؟ فقال: وَيلَك إنَّما يُقال لشيءٍ لم يكن، متى كان، إنَّ ربي تبارك وتعالى كان ولم يزلْ حيًّا بلا كيف، إلى أنْ قال: لا يُحدُّ ولا يُبعَّضُ ولا يَفنى، كان أولًا بلا كيفٍ ويكون آخرًا بلا أين ...، الحديث.
الذي لم يكن مظروفًا للزمان فهو ليس بمخلوق، والاستدلال هنا قائمٌ على نفي الكيفية، وهي من المقولات، وبنفي حدِّه ورسمه، فكل ما وقع عليه وهمك فهو على خلافه.
{98} الرواية الثالثة: وعن عدَّةٍ من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن أبيه، رفعه في حديث، أنَّ رجلًا قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): أسألك عن ربِّك متى كان؟ فقال: كان بلا كينونية، كان بلا كيف، كان لم يزلْ بلا كمٍّ ولا كيف، كان ليس له قبل، هو قبل القبل بلا قبلٍ ولا غايةٍ ولا منتهى، انقطعت عنه الغاية وهو غاية كل غاية.
المنفيات في الرواية راجعةٌ للمقولات العشر فهنا نفيٌ للعوارض عنه.
لا تدركه الغايات بالرغم من أنه غاية كل غاية، وأنت في تعليمك وتحصيلك مُغيًّا إلى الله تعالى، فهو غايتك، لكنها غايةٌ لا تُدرَك، لكنك تصل إلى الغاية لا إلى غاية الغايات.
هذا النوع من الأسئلة عادةً تكون من الزنادقة، في سعيٍ منهم لإعجاز الإمام (عليه السلام)، أما المؤمنون لم يكونوا يسألون مثل هذه الأسئلة. وأما نحن فنستفيد منها اليوم، لأن أمثال هؤلاء موجودون، ونعايش اليوم مثل هذه الأفكار والأسئلة.
{99} الرواية الرابعة: وعنهم، عن أحمد بن محمَّد، عن أحمد بن محمَّد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث، أنَّ رجلًا قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): متى كان ربُّك؟ فقال: ثكلتك أمك، ومتى لم يكن؟ حتى يُقال متى كان، كان ربي قبل القَبل بلا قبل، وبعد البَعد بلا بعد ولا منتهى لغايته، انقطعت الغايات عنده فهو منتهى كلِّ غاية.
{100} الرواية الخامسة: وعن علي بن محمَّد، عن سهل بن زياد، عن عمرو بن عثمان، عن محمَّد بن يحيى، عن محمَّد بن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث، أنَّ رجلًا قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): متى كان ربُّنا؟ فقال: إنما يُقال متى كان لمن لم يكنْ ثمَّ كان، إلى أنْ قال: كيف يكون له قبل؟ هو قبل القَبل بلا غايةٍ ولا منتهى غايةٍ ولا غاية إليها، انقطعت الغايات عنده وهو غاية كلِّ غاية.
الروايتان الرابعة والخامسة حالهما كما مرَّ في الروايات الثلاث السابقة.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب17 - أنَّ الله سبحانه لا مكانَ له ولا يحلُّ في مكان:
{101} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن عليِّ بن محمَّد رفعه، عن زرارة، قال: قلتُ لأبي جعفرٍ (عليه السلام): أَكانَ الله ولا شيء؟ قال: نعم، كان الله ولا شيء، قلت: فأين كان يكون؟ قال: وكان متَّكِئًا فاستوى جالسا، وقال: أَحَلْتَ يا زرارة وسألتَ عن المكان إذ لا مكان.
انظر لطريقة سؤال زرارة، حيث لم يسأل مباشرةً عن مراده بل أشار لأنكم تُعطونا بعض المقدمات، وأنا أسير معك عليها، وبعد اتفاقنا في المقدمات يجب أن نتَّفق في النتيجة، فسأل: "أكان الله ولا شيء؟"، فأجابه الإمام (عليه السلام) بالإيجاب، ثم سأله: "فأين كان يكون؟"، فقال (عليه السلام): "أَحَلْتَ يا زرارة وسألتَ عن المكان إذ لا مكان".
أَحَلْت: أي أتيت بالمُحال، أي أفسدت، ويُحتمل أنه أراد القول أنك قلت بالحلول؛ أي حلول الذات الإلهية المقدسة في مكان.
اكتفى زرارة بالجواب لأن نفي المكان يعني انتفاء موضوع السؤال.
فائدة:
في كل بحثٍ ينبغي أن ندور حول الموضوع، وإلا فيحصل الانحراف في البحث مع فقدان الموضوع، وقد يحصل أحيانًا مع عدم التفات الباحث لفقدان الموضوع أو خروجه عنه.
{102} الرواية الثانية: قال الكليني: ورُوِي أنه سُئِل (عليه السلام) أين كان ربُّنا قبل أنْ يخلقَ سماءً وأرضا، فقال (عليه السلام): (أين) سؤالٌ عن مكان، وكان الله ولا مكان.
السؤال بـ (أين) سؤالٌ عن المكان، وهذا أفقد السؤال موضوعه فصار مُحالًا كالرواية الأولى.
{103} الرواية الثالثة: وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن علي، عن اليعقوبي، عن بعض أصحابنا، عن عبد الأعلى مَولَى آل سام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديثٍ أنَّ رجلًا قال للنبي (صلى الله عليه وآله): أين ربُّك؟ قال: هو في كلِّ مكان، وليس في شيءٍ من المكان المحدود.
قال (صلى الله عليه وآله): "هو في كلِّ مكان"، ثم قال: "وليس في شيءٍ من المكان المحدود"، والنفي في القول الثاني مُفسِّرٌ لقوله الأول.
لفظ (مكان) إمَّا أن يكون مشتركًا لفظيًّا أو مشتركًا معنويا، ونحن نقول أن المكان مشتركٌ لفظيٌّ لا معنوي، ونفي الحدود نفيٌ للمكان المحدود، لا أنه مشتركٌ معنويٌّ مع كون المكان له حدودٌ ومميزاتٌ خاصة.
واضع لفظة (المكان) وضعها لماذا؟ وضعها لموقع الموجود فانتزع الظرفية، لأنك لا يمكن أن ترى مكانًا مجرَّدا، فما تراه مكانًا لشيءٍ وهو كائنٌ في مكان، فالمعنى انتزاعي، إذًا فالوضع لم يكن لشيءٍ متعيِّنٍ مُتشخِّص، فإذا قلنا أن الله في مكان، لا يصح أن نأتي ونقيس على هذا المكان، لكنها تُستعمل لأن هذا ما نستطيع أن نقيس عليه، فقال (صلَّى الله عليه وآله): "هو في كلِّ مكان"، ولكننا نعرف أن المقصود ليس هذا المكان عن طريق نفي الحَدِّ عنه، وهو من ذاتيات المكان، فثبت أن المكان غير هذا المكان.
وعليه فمعنى الرواية أنه موجودٌ لكنه لا في المكان الذي نتصوره.