الكتاب العزيز
أعلم أيدك الله تعالى إلى طريق الهداية والصلاح، أنه لا خلاف بين أصحابنا الأصوليين في العمل به في الأحكام الشرعية والاعتماد عليه، حتى أنهم قد صنف جملة منهم كتباً في الآيات المتعلقة بالأحكام الفقهية وهي خمسمائة آية كما ذكر، وأما الأخباريون فقد انقسموا إلى ما بين إفراط وتفريط، فمنهم من منع فهم شيء منه مطلقا حتى قوله: (قل هو الله أحد). إلا بتفسير من أصحاب العصمة ( صلوات الله عليهم). قال المحدث السيد نعمة الله الجزائري(قده) في بعض رسائله: "أني كنت حاضراً في المسجد الجامع في شيراز، وكان الأستاذ المجتهد الشيخ جعفر البحراني والشيخ المحدث صاحب جوامع الكلم يتناظران في هذه المسألة، فانجر الكلام ههنا حتى قال الفاضل المجتهد: ما تقول في معنى (قل هو الله أحد) فهل يحتاج في فهم معناها إلى حديث؟ فقال: نعم، لا نعرف معنى الأحدية ولا الفرق بين الأحد والواحد ونحو ذلك إلا بذلك. انتهى
ومنهم من جوز ذلك حتى كاد أن يشارك أهل العصمة (عليهم السلام) في تأويل مشكلاته وحل مبهماتها وكشف مشتبهاتها وحل مشكلاتها ومستشكلاتها.كما هو حال ملا محسن الكاشاني كم نقل عنه: "كل من يتلو القرآن يمكن له أن يفسر القرآن".
وقد دار بيني وبين استاذنا الشيخ علي الأيرواني نقاش في الدرس عندما قال: أن أغلب علماء الأخبارية لا يجوزون العمل بظواهر الكتاب العزيز!. فقلت له: يا شيخ من أين لك هذا؟ فقال: هذا هو المشهور عن علماء الأخبارية. فنقلت له كلام صاحب الحدائق في المقام وما قاله السيد نعمة الله الجزائري في بعض راسائله. وقول شيخنا العلامة الشيخ حسين رضوان الله تعالى عليهم. فقال لي: لماذا اذن ينقل عنهم هذا القول!
فقلت له: رب مشهور لا أصل له. يجب علينا أن نبحث فهذا القول عار عن الصحة وليس هو مسلك جل علمائنا الأبرار. بل هو قول فئة من علمائنا الأبرار وأن التحقيق في المقام أن الأخبار متعارضة من الجانبين ومتصادمة من الطرفين، لا يمكن ترجيح طرف على الأخر إلا بالرجوع إلى المرجحات في المقام.
أقول: أن الذي احتج من حصر الدليل في السنة بأمور منها: أنَّ العمل بظواهر الكتاب يُؤدِّي إلى جواز العمل بالظَّنِّ المنهي عنه.
وجوابه: لا بأس بجواز العمل بالظَّنِّ إذا كان مستفاداً من الكتاب، والمنع من اتِّباع الظَّنِّ مُقيَّدٌ بغير الكتاب والسُّنة، ونمنع أنَّ المستفاد من ظواهر الكتاب هو الظَّنُّ، إذا وُجدت قرائن الدَّلالة الكاشفة لنا عن المراد، بل هذا هو العلم العادي الذي تطمئنّ النَّفسُ به، والذي أناط الشَّارعُ به التَّكاليف الشَّرعية في كُلّ زمانٍ.
ومنها: يلزم عنه طرح أكثر الأحاديث الورادة في تفسير الآيات فإن ثُلثيها، بل أربعة أخماسها ممّا يخالف الظَّاهر منه، وهي المعاني المُستفادة من الوضع اللُّغويِّ، كما فُسِّر الشَّمس بالنَّبيّ، والقمر بعليّ، والسكارى بسُكر النَّوم؟
والجواب أنَّه لا منافاة من وجهين، الأول: أن الكلام في خصوص آيات الأحكام وهذه الأخبار موردها غير ذلك.
والثاني: أن للقُرآن ظواهر وبواطن والكلّ مُراد الله.
ومنها: ورود الأخبار المانعة من تفسير القرآن بالرأي مثل قول رسول ص عن الله تعالى: «ما آمَنَ بي مَن فَسَّرَ بِرَأيهِ كَلامي» وأمثاله وهو كثير.
والجواب: من وجوه الأول: المعارضة بالآيات والأخبار الدالة على خلاف ذلك كآية: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}.
وآية: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[1] فيلزم من وصفة بالعربي فهمه لهم، ومن الأخبار أخبار العرض على الكتاب عند اختلاف الأخبار.
وإذا تنزلنا وقلنا: بالمنع من العمل بالقرآن إلّا بتفسير من الإمام فلا يلزم من ذلك إعضاد الدليل في السنة وحدها؛ لانَّ العامل بأحاديث التفسير عامل بها وبالقرآن مَعاً لأنَّهُما بمنزلة الترجمة الموضحة الكاشفة عن المراد منه.
وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الزنديق الذي جاء اليه بآي من القرآن زاعما تناقضها. حيث قال (عليه السلام) في أثناء الحديث: «ان الله جل ذكره لسعة رحمته و رأفته بخلقه و علمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كتابه قسم كلامه ثلاثة أقسام:
فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل. و قسما منه لا يعرفه إلا من صف ذهنه و لطف حسه و صح تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام. و قسما لا يعرفه إلا الله و أنبياؤهالراسخون في العلم، و إنما فعل ذلك لئلا يدعي أهل الباطل المستولون على ميراث رسول الله (صلى الله عليه و آله) من علم الكتاب ما لم يجعل الله لهم، و ليقودهم الاضطرار الى الائتمار لمن ولاه أمرهم. الى أن قال: فاما ما علمه الجاهل و العالم من فضل رسول الله (صلى الله عليه و آله) من كتاب الله. فهو قوله سبحانه: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اللّٰهَ.» و قوله: «إِنَّ اللّٰهَ وَ مَلٰائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً» « و لهذه الآية ظاهر و باطن. فالظاهر هو قوله:
(صَلُّوا عَلَيْهِ) و الباطن (يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)* اي سلموا- لمن وصاه و استخلفه عليكم- فضله و ما عهد اليه تسليما. و هذا مما أخبرتك انه لا يعلم تأويله إلا من لطف حسه وصفا ذهنه و صح تمييزه، و كذلك قوله «سلام على آل يس»؛ لأن الله سمى النبي (صلى اللهعليه و آله) بهذا الاسم. حيث قال «يس وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» لعلمه انهم يسقطون «سلام على آل محمد» كما أسقطوا غيره. الحديث».
و القسم الأول من كلامه (صلوات الله عليه) و هو الذي يعرفه الجاهل و العالم، و هو ما كان محكم الدلالة. أي آيات الأحكام الخمسمائة آية. و هذا مما لا ريب في صحة الاستدلال به والمانع مكابر. و القسم الثاني من كلامه (صلوات الله عليه) وهو الذي لا يعرفه إلا من صفا ذهنه و لطف حسه، والظاهر أنَّه أشار بذلك إلى الأئمة (عليهم السلام)، فإنهم هم المتصفون بتلك الصفات على الحقيقة، والآيات- التي جعلها (عليه السلام) من هذا القسم- دليل على ذلك. فإنها كما أشار إليه (صلوات الله عليه) من التفسير الباطن الذي لا يمكن التهجم عليه إلا من جهتهم.
(لا يقال): انه يلزم اتحاد القسم الثاني من كلامه (صلوات الله عليه) بما بعده. لكون القسم الثالث أيضا من المعلوم لهم (عليهم السلام).
(لأنا نقول): الظاهر تخصيص القسم الثالث بعلم الشرائع الذي يحتاج الى توقيف، و إنه لا يعلمه إلا هو (جل شأنه) أو أنبياؤه بالوحي إليهم وإن علمه الأئمة (عليهم السلام) بالوراثة من الأنبياء. بخلاف الثاني. فإنه مما يستخرجونه بصفاء جواهر أذهانهم و يستنبطونه بإشراق لوامع إفهامهم.