
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.
وبعد..
بعد أن كثر القيل والقال من البعض، وزادت سهام النقد والإبرام على من لا يعتقد بالأثر التكويني من أكل الحرام في سوق المسلمين، أردنا أن نقطع هذا النزاع ونوضح للمنصف طالب الحق من ذوي الأفهام، أن هذه المسألة ذات وجهين؛ الوجه الأول ما استند إليه العرفاء والوجه الثاني من سلك طريق أهل العصمة، وأن الحق مع من اتبع طريق الأئمة الأبرار لا من فرض أثر ما أنزل الله به من سلطان.
أولاً: نذكر أدلة الطرف الأول في إثبات الأثر التكويني ونناقش كلامهم ومن ثم نتطرق إلى أدلة الطرف الآخر.
القول الأول: القائلون بالأثر التكويني:
قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين مما جاء في كلامه: يقال من أكل الشبهة أربعين يوما أظلم قلبه. وهو تأويل قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).
وقال ابن المبارك: ردُّ درهمٍ من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف درهم، ومائة ألف ألف، ومائة ألف حتى بلغ إلى ستمائة ألف.
وقال بعض السلف إن العبد يأكل أكلة فيتقلب قلبه، فينغل كما ينغل الأديم ولا يعود إلى حاله أبدا.
وقال سهل: من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى، علم أو لم يعلم....
وروي أن بعض الصالحين دفع طعاما إلى بعض الأبدال فلم يأكل، فسأله عن ذلك، فقال نحن لا نأكل إلا حلالا، فلذلك تستقيم قلوبنا، ويدوم حالنا، ونكاشف الملكوت ونشاهد الآخرة!
ولو أكلنا مما تأكلون ثلاثة أيام، لما رجعنا إلى شيء من علم اليقين ولذهب الخوف والمشاهدة من قلوبنا. فقال له الرجل: فإني أصوم الدهر وأختم القرآن في كل شهر ثلاثين مرة. فقال له البدل: هذه الشربة التي رأيتني شربتها من الليل، أحب إلي من ثلاثين ختمة في ثلاثمائة ركعة من أعمالك وكانت شربته من لبن ظبية وحشية.
تفنيد الدعوى
أقول: لعل مثل هذه الحكايات الباردة والتصورات التي ما أنزل الله بها من سلطان هي التي أثرت في الثقافة العامة لكثير من الناس، بل تسربت لبعض علمائنا ككتاب المحجة البيضاء الذي نسخ بعض تلك الأفكار من كتاب أبي حامد الغزالي.
والحقيقة أن أكل الحرام الواقعي المجرد عن المعصية لا يفرق عن سائر التكاليف الواقعية التي يتورط المكلّف في مخالفتها نتيجة الاعتماد على المؤمن الشرعي من الأمارات والأصول العملية وفتاوى الفقهاء، فإنَّ ترتب المفسدة وعدمه أمر مختلف فيه وفق اختلاف مباني الجمع بين الحكم لظاهري والواقعي المطروحة في الأبحاث الأصولية، ومن المعلوم لمن تتبع كلام الشيخ يوسف في حدائقه يستشفي من كلامه أنه المراد في اتباع الأمارات الحكم الواقعي لا الظاهري. وهذا ما يذهب إليه العم العزيز وشيخنا الأستاذ الشيخ حسن العصفور في هذه المسألة اعتمادا على كلام الشيخ رضوان الله تعالى عليه.
ومهما يكن من حال فإن تناول الأطعمة واللحوم غير المذكاة في الواقع لا يحمل ميزة مشددة على غيرها من الأفعال حتى يكون الاحتياط فيها آكد، فكل التكاليف التي يخالفها المكلّف معذوراً تقع على ميزان واحد، فما هي ميزة فعل تناول الطعام لتتضمن فساد الروح وظلمتها بما لا يكون في غيره من الأفعال؟
والحقيقة أنا لم نعثر على ما يدل على علة هذه المزاعم في رواياتنا أو في كتب علمائنا الأبرار الذين كانوا في الصدر الأول والقريبين من زمن النص، بل وقفنا على ما يدل على العدم كأصل القاعد وذلك بملاحظة لحن روايات سوق المسلمين حيث يتضح لنا التأكيد على عدم السؤال الذي لا يبعد استفادة مرجوحيته ولا أقل من سقوط رجحان الاحتياط إزاء ما يؤخذ من يد المسلم أو سوق المسلمين.
الرد بالدليل العقلي
من المعلوم أيضاً: أن في كلام أبي حامد الغزالي قبح في حق الباري، حيث إنه كيف يمكن أن يتصور من المشرع _ وهو الخالق_ أن يسمح للعبد بأن يأكل الحرام ويجيز له ذلك مع أنه قادر على أن يفرض عليه حكماً يجعله لا يأكل الشيء إلا وهو متيقن من حليته عيناً، ثم أنه إذا أكل مع عدم الفحص وكانت الذبيحة غير مذكاة أظلم قلبه؟!.
وهذا كما ترى قبيح من المشرع حيث إنه يترك عباده يأكلون الحرام وهو له أثر تكويني قد يقسي قلوبهم أو يجعلهم يتهاونون في الاتيان بالمأمور عليهم أو يتركونه وبعد ذلك يفرض عليهم عقاب ويعاقبهم على قساوتهم مع الله تارة وتارة أخرى مع العباد لتهاونهم في عبادته في الصورة الأولى وفي الصورة الثانية مع عباد الله.
الحكم عند العقلاء
في قول العقلاء أنه: لا إشكال أن الإنسان إذا اعتمد على حجية شرعية لا ينتج عنها أي أثر تكويني، ولو لم يعتمد على حجية شرعية في تناوله الأطعمة أو الأشربة فإن روح الامبالاة توجب أثراً في نفس الإنسان وهو قساوة القلب، كما أشار إلى ذلك سيد الشهداء عليه السلام في خطابه للجيش السفياني يوم عاشوراء عندما قال "ملئت بطونكم من الحرام فقلوبكم كالحجارة أو هي أشد قسوة" ولكن إذا كان الإنسان متحرزا واعتمد على الحجج الشرعية وعمل على أمارة سوق المسلمين وهو يجهل الحرام بعينه، فإنه لا يكون هناك أثر عليه من جراء هذا الفعل.
ولو علم أنه غير مذكى و اقبل عليه ولم يحترز عن أكل الحرام عندما علم بالحرمة يكون هناك أثر كما دل عليه قول الأمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه.
نعم قد يترتب عليه أثر بدني وهذا لا فرق فيه بين المذكى والغير مذكى، وهنا الأثر البدني مترتب ولكن الروحي غير مترتب، فإن الأثر البدني التكويني قد يحصل حتى لو كان اللحم مذكى، وأما الأثر الروحي الغيبي فهو منوط بعدم التحرز من قبل الانسان مع علمه بالحرمة، فإن كان متحرزاً وقاه الله، وإن لم يكن متحرزاً فقد يكون مبتلى بهذا الأثر الوضعي.
الثاني: القائلون بعدم وجود الأثر:
ثانياً: أدلة المرجوحية مما يؤخذ من يد المسلم أو سوق المسلمين ما نقل في كتب الأخبار قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن السمن و الجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟ فقال: أما إن علمت أنّه خلطه الحرام فلا تأكل، و أمّا ما لم تعلمه فكُلْ حتّى تعلم أنّه حرام.
و رواية أبي الجارود قال:
سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن و قلت: أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة؟ فقال: أ من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرض ما علمت أنّه ميتة فلا تأكله و إن لم تعلم فاشتر و كُلْ و الله إنّي لاعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن والله ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان.
و صحيحة الحلبي قال:
قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الخفاف عندنا في السوق نشتريها فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال: صلِّ فيها حتّى يقال لك إنّها ميتة بعينها.
و صحيحته الأخرى قال:
سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخفاف التي تباع في السوق فقال: اشتر و صلِّ فيها حتّى تعلم أنّه ميت بعينه.
و رواية الحسن بن الجهم قال:
قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أعترض السوق فأشتري خفّاً لا أدري أ ذكي هو أم لا؟ فقال: صلِّ فيه، قلت: فالنعل؟ قال: مثل ذلك، قلت: إنّي أضيق من هذا، فقال: أترغب عمّا كان أبو الحسن (عليه السلام) يفعله.
و صحيحة البزنطي قال:
سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيُصلِّي فيها؟ قال: نعم ليس عليكم المسألة إنّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم لجهالتهم و إنّ الدين أوسع من ذلك.
و صحيحة سليمان بن جعفر الجعفري
عن العبد الصالح موسى بن جعفر (عليه السلام) أنّه سأله عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أ ذكية هي أم غير ذكيّة أ يُصلي فيها؟ قال: نعم ليس عليكم المسألة إنّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم لجهالتهم و إنّ الدين أوسع من ذلك.
و رواية المعلّى بن خنيس قال:
سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا بأس بالثياب التي تعملها المجوس و النصارى واليهود.
و عن البزنطي عن الرضا (عليه السلام) قال:
سألته عن الخفاف يأتي الرجل السوق فيشتري الخف لا يدري أ ذكي هو أم لا ما تقول في الصلاة فيه؟ قال: نعم أنا أشتري الخف من السوق وأصلي فيه وليس عليكم المسألة.
و بهذا الإسناد قال:
سألته عن الجلد الفراء يأتي الرجل سوقا من أسواق المسلمين فيشتري الجبة لا يدري أ ذكية هي أم لا يصلي فيها؟ قال: نعم إن أبا جعفر كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم لجهالتهم و إن الدين أوسع من ذلك إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يقول: إن شيعتنا في أوسع ما بين السماء و الأرض أنتم المغفور لكم.
و رواية معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا قال:
كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنه لطعام يعجبني و سأخبرك عن الجبن و غيره (كل شيء فيه الحلال و الحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه).
و بهذا المضمون في أخبار الجبن في غير خبر ويدل على خصوص موضع السؤال ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن زرارة وفضيل ومحمد بن مسلم أنهم
سألوا أبا جعفر (عليه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق ولا ندري ما يصنع القصابون فقال: كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه.
ورواه الصدوق في الصحيح عن الثلاثة المذكورين عن أبي جعفر (عليه السلام). سأل أبي أبا عبد الله (عليه السلام) و أنا حاضر انّي أُعير الذمّية ثوبي وأنا أعلم انّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرده عليَّ فأغسله قبل أن أُصلّي فيه؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): صلِّ فيه و لا تغسله من أجل ذلك فإنّك أعرته إيّاه و هو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه.
ومقتضى هذه الروايات أن الباري سبحانه وتعالى قد تدخل في كافة الشؤون المرتبطة بالحياة البشرية، بما في ذلك نوعية الطعام والغذاء المتناول من قبله كما في رواية أبي الجارود، لما لذلك من تأثير عليه، يستوجب أن تعطي قاعدة عامة واضحة تحدد الأصل في الأطعمة الموجودة على وجه الأرض، وأنها الإباحة فيسوغ للإنسان تناولها إلا إذا قام عنده دليل صادر من الشارع المقدس، أو معتبر لديه بالمنع عنها، أم أن الأصل في الأطعمة الموجودة على الأرض هو المنع والحظر عن تناولها حتى يرد دليل منه يفيد الحلية تناولها واستعمالها.
ولا يخفى مقدار الفرق بين المحتملين، ضرورة أنه لو بنى على الاحتمال الأول لكان مقتضى ذلك السعة والإباحة في الأطعمة، لوجود قاعدة كلية تفيد أن كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه، فلو وجد الإنسان طعاماً وشك في حليته ليسوغ له تناوله، أو حرمته ليحكم بعدم جواز تناوله، فوفقاً للاحتمال الأول لن يكون بحاجة إلى انتظار دليل من الشارع المقدس يفيد حليته، وإنما يكفيه الأصل المقرر من أن كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه، ويجري الأمر في كل ما شك في حليته، وجواز تناوله والاستفادة منه.
وهذا تحقيق أنيق ودقيق في هذه المسألة التي كثر فيها القيل والقال، ونسأل الله أن نكون قد وفقنا في هذا البحث ورفعنا بذلك أسهم النقد والابرام من بعض من سلكوا طريق ليس بطريق أهل العصمة بل هو طريق الغزالي وغيره من العرفاء.
بقلم: ش محمد مهدي العصفور.