تعتبر كلمة الحريّة من أكثر الكلمات رواجاً في حركة الفكر الحديث، وأكثرها دوراناً على لسان المفكرين المحدثين، لما تمثّله من قيمة أساسيّة في حياة الإنسان المعاصر، بل تعتبر حجر الزاوية في صرح النظام الاجتماعي والسياسي الحديث. وعلى أساس مستوى الحريّات المتاحة تقيّم الأنظمة ومستوى تقدّمها ورقيّها، وعلى أساس مستوى ضمانها للحريّات تقيّم القوانين المختلفة وتحاكم.
ولكن مع هذا التأكيد الواسع على الحريّة في كلام المفكرين – وخصوصاً العلمانيين منهم – إلاّ أنّها تبقى حقيقة عائمة ومشوشّة على مستوى الفكر والواقع معاً. من هنا وجدت من الضروري الوقوف عند هذه الحقيقة، وتجلية معناها، وإطارها، وحدودها.. كمساهمة متواضعة في تحديد المعالم الأساسيّة لبعض الأفكار الرائجة في الساحة الفكريّة والسياسيّة.
الحريّة.. المنشأ والمبدأ (المعنى)
للحريّة منشأ ومبدأ في واقع الإنسان من جهة، وفي واقع الحياة الاجتماعية من جهة أخرى. فللحريّة منشأ ذاتي يرتبط بواقع الإنسان العاقل المختار، ومنشأ عرضي يرتبط بالحياة الاجتماعية ومتطلّبات الازدهار الاقتصادي والرقي الثقافي والتكامل الاجتماعي في أي مجتمع.
ويعبّر عن الحريّة بلحاظ منشئها الأوّل؛ الحريّة التكوينيّة (أو الفلسفيّة)، ويقابلها الجبر. وحاصلها؛ أنّ الإنسان بحسب أصل الخلقة موجود ذو شعور وإرادة واختيار، بمعنى أنّ له بحسب خلقته أن يختار لنفسه ما يشاء من الفعل أو الترك، وليس مجبراً في ذاته على الفعل أو الترك.
ويعبّر عن الحريّة بلحاظ المنشأ الثاني؛ الحريّة التشريعيّة (أو الاجتماعية)، ويقابلها الإكراه والاستعباد. وحاصلها؛ أنّ للإنسان في حياته الاجتماعية أن يختار ما يراه مناسباً له من شؤون الحياة، وليس لأحد من بني نوعه أن يستعلي عليه ويستعبده ويملي عليه ما يكرهه.
ومن الواضح أنّ الحريّة التشريعيّة الاجتماعية أقل إطلاقاً من الحريّة التكوينيّة الذاتيّة، لأنّ الحياة الاجتماعية التي تفترض حريّات معيّنة للإنسان لأجل تحقيق الازدهار والتكامل، هي بعينها تفترض محدوديّات لهذه الحريّات لأنّ تحقيق الازدهار والتكامل لا يكون إلاّ في إطار التوازن والنظم والقانون في المجتمع، وهو يقتضي شيئاً من التحديد في الحريّات، كما سيأتي الإشارة لذلك مفصّلاً.
الحريّة غاية ووسيلة
الحريّة بما لها من بعد ذاتي يرتبط بكيان الإنسان وكرامته الإنسانيّة، تعتبر غاية من الغايات وهدفاً من الأهداف التي يسعى الإنسان أن يعيشها في حياته، قال الإمام علي عليه السلام: (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حرّاً). وبما تعبّر عنه من مناخ مناسب للإبداع والرقي والازدهار، تعتبر وسيلة لتحقيق هذه الأهداف الاجتماعية والإنسانيّة والإسلاميّة النبيلة. وكما هو مُدرَك بالوجدان ومحسوس بالعيان أنّ ظروف القمع والاستبداد.. تقتل الطاقات الخيّرة في نفوس أصحابها، وتحرم المجتمع من التقدّم والرقي والازدهار.
الحريّة بين الإسلام العلمانيّة (الإطار)
تقوم الأنظمة العلمانيّة على أساس النظرة الماديّة للحياة، ويمثّل التمتّع المادي الأساس للنظام الاجتماعي، والقوانين المدنيّة فيها، ولذا تجد هذه الأنظمة لا تعير اهتماماً لأصول المعارف الإلهيّة، والقوانين الشرعيّة، وأصول الأخلاق، وتعتبر الإنسان حرّاً في الالتزام بها وبلوازمها، وليس عليه إلاّ الالتزام بالقوانين المدنيّة التي تنظّم الحياة الماديّة للناس، وهي الإطار الوحيد لحركة الحريّة عندهم.
أمّا الإسلام فهو يبني نظامه الاجتماعي على أساس النظرة التكامليّة بين الدنيا والآخرة، بين المصالح الماديّة والآداب المعنويّة، وبعبارة مختصرة؛ يقيم الإسلام نظامه الاجتماعي على أُسس ثلاثة:
أوّلاً: التوحيد والمعارف العقائديّة الحقّة.
الثاني: الشريعة السهلة السمحاء، التي تستوعب جميع جوانب حياة الإنسان الماديّة والمعنويّة.
الثالث: الأخلاق الفاضلة.
فالحريّة في الإسلام تتحرّك في هذا الإطار. وبعبارة أخرى: تتحرّ ك الحريّة في الإسلام في إطار الإيمان والعمل الصالح، الإيمان والتقوى.
أقسام الحريّة:
تقسّم الحريّة بحسب الدائرة التي تتحرك فيها إلى عدّة أقسام: منها: حريّة العقيدة. ومنها: الحريّة السياسيّة. ومنها: حريّة التعبير. ومنها: حريّة النشر. منها: الحريّة الشخصيّة. إلى غيرها من الأقسام.
والأنسب في التقسيم أن تقسم إلى قسمين رئيسيين:
الأوّل: الحريّة العقيديّة، بمعنى أنّ الإنسان حرّ في أن يعتقد ويختار من العقائد والأفكار ما يشاء.
الثاني: الحريّة العمليّة، بمعنى أنّ الإنسان حرّ في أن يعمل ما يشاء من الأعمال التي يعبّر بها عن عقيدته وفكره ورأيه ومتبنّياته، أو يعبر بها عن بعض ميوله الذاتيّة، أو يعبّر بها عن بعض حقوقه الشخصيّة.
ثمّ يقسّم الأوّل؛ بحسب طبيعة العقيدة والرأي، كأن يكون رأياً دينيّاً أو سياسياً أو غيرهما، والثاني؛ بحسب طبيعة العمل، كأن يكون عملاً اقتصاديّاً، أو إعلاميّاً، أو أخلاقيّاً، أو غيرها، إلى أقسام متعدّدة. وكيف كان فأقسام الحريّة كثيرة، وهي ممتدّة في جميع جوانب الحياة وشؤونها.
نظرة حول الحريّة العقيديّة:
يمكن أن تلحظ الحريّة العقيديّة من جهتين:
الجهة الأولى: الحريّة العقيديّة الخاصّة، وهي التي ترتبط بحريّة القناعة والاعتقاد بأي دين وعقيدة.
الجهة الثانية: الحريّة العقيديّة العامّة، وهي التي ترتبط بالأفكار والآراء العامة التي لا ترتبط بالدين والعقيدة الدينيّة بصورة مباشرة.
ثمّ إنّ حريّة العقيدة؛ تارة يقصد بها الحريّة في الاعتقاد والإذعان والتصديق بفكرة مّا. وهذا المعنى لا مجال فيه للإكراه حتّى يفترض فيه الحريّة، وهو واضح. وتارة يقصد بها إبراز وتحريك هذه العقيدة في المجتمع من خلال إعلانها ونشرها ودعوة الناس إليها.. وهذا المعنى يقع محلاّ للمنع أو التجويز، فيشمله الحديث عن حريّة العقيدة.
وللإسلام نظرة خاصّة تجاه حريّة العقيدة؛ فهو في الوقت الذي لا يرضى بغير الإسلام ديناً والتوحيد عقيدة (التوحيد والنبوة والمعاد)، ولا يقبل عنها بدلا، ولا يعترف بأيّ عقيدة سوى عقيدة الإسلام، فإنّه – وبحكم الحريّة التكوينيّة التي لا تقبل الكسر والتعطيل – لا سبيل له لإكراه الناس على عقائده، قال تعالى: {لا إكراه في الدين} البقرة /256.فهذه الآية الشريفة تقرر حقيقة وجدانيّة واضحة، وهي أنّه لا يمكن الإكراه والقهر في العقيدة، ولكنّها لا تدلّ بوجه على القبول بالعقائد المختلفة، والاعتراف بها, فضلاً عن نشرها والتبليغ لها في المجتمع المسلم.
فمن العجيب – كما يقول صاحب تفسير الميزان – ما تكلّفه بعض الباحثين من محاولة إثبات حريّة العقيدة في الإسلام بالآية المذكورة وأشباهها. ويضيف رحمه اللّه: (إنّ التوحيد هو أساس جميع النواميس الإسلاميّة، ومع ذلك كيف يمكن أن يشرّع حريّة العقيدة؟، وهل ذلك إلاّ تناقض صريح؟، فليس القول بحريّة العقيدة إلاّ كالقول بالحريّة عن حكومة القانون في القوانين المدنيّة).
وعلى هذا الأساس لا يقبل الإسلام ولا يسمح بنشر العقائد المخالفة، والدعوة إليها في المجتمع الإسلامي بحجّة الحريّة، لأنّ هذا بمثابة الهدم لأصل الدين، وتقويض الأساس الذي يتّكي عليه المجتمع المسلم.
نعم يمكن قبول معنى آخر للحريّة العقيديّة، وذلك أنّ الإسلام في الوقت الذي يقدّم للناس إطاراً معيّناً واتجاهاً عاماً يجب عليهم التحرّك فيه لكي لا يقعوا في الاختلاف والتفرّق، قال تعالى: {وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلّكم تتقون} الأنعام/153، يعطيهم حريّة التفكير والتدبّر وإظهار العقيدة في مقام البحث والتحقيق، ويتوقّع بالطبع حصول الاختلافات والشبهات نتيجة لذلك، فجعل الطرق المناسبة لحلّ الاختلاف ورفع الشبهات، وهي الاحتكام للقرآن الكريم، والأصول الفكرية العامة التي أسسّها مهما أمكن، أو الرجوع إلى المستحفظين على الكتاب العزيز محمّد وآله الطيبين الطاهرين عند حضورهم، أو أهل الذكر والعلم الذين لهم القدرة على فهم الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة عند غياب المستحفظين. فلابدّ إذن لرفع الاختلاف من الرجوع للقرآن والتدبّر فيه، أو الرجوع لمن له قدرة التدبّر فيه.
هذا نحو من الحريّة في العقيدة والفكر أجازها الإسلام، وهي حريّة تتحرّك في دائرة البحث عن الحقيقة، من أجل أن تكون العقيدة والفكرة نابعة من القناعة والاطمئنان قال تعالى: {الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم اللّه وأولئك هم أولوا الألباب} الزمر/18.
حدود الحريّة في الإسلام والعلمانيّة
ابتداءً لابدّ من الالتفات إلى أنّ الحديث عن حدود الحريّة إنّما هو بالنسبة للحريّة التشريعيّة (الاجتماعية) لا التكوينيّة (الفلسفيّة)، إذ لا معنى لتقييد الحريّة التكوينيّة، لأنّه كسر وتعطيل للأمر التكويني، وهو محال. ثمّ إنّ المراد من حدود الحريّة ليس هي المساحة والدائرة التي تصادر فيها الحريات، وإنّما المراد المساحة والدائرة التي لا يكون للحريّة مجال فيها، ولا يمتلك الإنسان الحريّة خلالها. فالمحدوديّة المفترضة ليست مصادرة للحريّات، وإنّما تحديد وبيان لمواقع الحريّات وسعة دائرتها. فما هي مساحة ودائرة وحدود الحريّة في الإسلاميّة والعلمانيّة؟
الحريّة والقوانين الطبيعيّة:
تعتبر القوانين الطبيعيّة، ونظام الأسباب والمسبّبات، حدّاً للحريّة. فليس للإنسان حريّة في قبالها، بل لا مناص له إلاّ الإذعان لها والانسجام معها، وإلا فسيواجه الفشل المحتوم. فليس من المنطق ولا من الحريّة أن يخالف الإنسان قانون الجاذبيّة فيرمي بنفسه من شاهق رغبة في الطيران. ولا مخالفة غريزة الجوع والعطش مثلاً، والإضراب عن الأكل والشرب. أو تحدّي حالات البرد القارس أو الحرّ القائض وعدم الاتقاء منهما. فإنّ مصيره لا شكّ إلى الهلاك. وهذا محل وفاق عند الجميع.
الحريّة والقوانين الاجتماعية:
تعتبر الحياة الاجتماعية وما تحكمها من قوانين، حدّاً آخر لحريّة الإنسان. فالإنسان عندما أقدم بطبعه وفطرته على الحياة الاجتماعية، حكم على نفسه بالحرمان والمحدوديّة في موهبة الحريّة من جهتين:
إحداهما: من جهة ما تقتضيه الحياة الاجتماعية من تعاون وتفاهم واحترام متقابل، يقتضي محدوديّة وحرمان من بعض الحريّات وبعض المصالح وبعض الرغبات للحصول على غيرها. فليس للإنسان في المجتمع أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا حريّة له فيما يصادر حريّة الآخرين أو مصالحهم أو رغباتهم ...
وثانيهما: من جهة القوانين التي تحكم المجتمع، وتحفظ مصالحه ومنافعه العليا، فالإنسان الاجتماعي لا حريّة له تجاه المسائل الحيويّة التي ترتبط بمصالح ومنافع المجتمع العليا. ونهي الإنسان وردعه عن اقتحام ومخالفة ذلك ليس من المصادرة لحريّات الآخرين، لأنّه لا حريّة للإنسان الاجتماعي في هذه الدائرة حتّى يفترض مصادرتها. وهذه الدائرة كذلك محل وفاق وقبول عند الجميع.
الحريّة والحق:
الحقّ كذلك يمثّل حدّاً من حدود الحريّة. فليس للإنسان حريّة في قبال الحق، فالحق أحق أن يتبع، ولا قيمة لشيء إلاّ في إطار الحق، وهذه الدائرة كذلك ممّا يتفق عليها جميع العقلاء بفطرتهم وإن اختلفوا في مصاديق الحق ومظاهره، فالناس على اختلاف أفهامهم وتفاوت ميولهم وتمايز تشخيصاتهم يتّفقون على أنّ الحق يجب اتّباعه. ولولا ذلك لما ثبتت الحريّة أصلاً، لأنّ ثبوتها في طول كونها حقّاً، وفرع كونها حقّاً من حقوق الإنسان.
وكيف كان، فالناس يختلفون في تشخيص الحق وتحديده، والنظرة الإسلاميّة والقرآنيّة في هذا المجال تتمثّل في تشخيص الحق في اللّه تبارك وتعالى وما يرتبط به سبحانه، فدائرة الحق تنحصر في اللّه تعالى وكتبه ورسالاته وأنبيائه وأوليائه، وكلّ حقّ في هذا الكون فهو يرجع إليه سبحانه، فحتّى القوانين الطبيعيّة (العلل والأسباب) وما تهدي إليه من المصالح والأحكام، إنّما هي مصداق للإرادة الإلهيّة وللحق الإلهي، فهو سبحانه المالك على الإطلاق، والحق على الإطلاق، وما سواه عبد له مفتقر إليه، محتاج تكويناً وتشريعاً إليه، قال تعالى في كتابه العزيز: {فذلكم اللّه ربّكم الحق فماذا بعد الحق إلاّ الضلال فأنّى تصرفون} يونس/32، {فبعث اللّه النبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ..} البقرة/213، {يا أيّها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربّكم فآمنوا خيراً لكم ..} النساء/170، {.. إن الحكم إلاّ للّه يقصّ الحق وهو خير الفاصلين} الأنعام/57، {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلاّ بالحق}، إلى غيرها من الآيات الكثيرة في هذا المجال.
ويشخّص الإسلام مسؤوليّة الإنسان في أن يتحرّك في هذه الدائرة، وليس له أن يخرج عنها بحجّة الحريّة، فلا حريّة في قبال الحق. فالممارسات المخالفة للحق الديني سواء على مستوى العقيدة أو الشريعة أو الأخلاق، كلّها تدخل في دائرة الانحراف والعصيان والتمرّد والمخالفة التي يستحق عليها الإنسان العقاب في الدنيا والآخرة، ولا يمكن تبريرها تحت عنوان الحريّة.
وهذه إحدى النقاط المفصليّة التي تميّز الفكر الديني عن الفكر العلماني المادي. فإنّ هذا الفكر لا يعتبر المعارف الإلهيّة والقوانين الشرعيّة والآداب المعنويّة مظهراً للحق، ولا يرى أصحاب هذا الفكر أنفسهم ملزمين بها وبالانصياع إليها، ولذا شرّعوا أنحاء من الحريّات المنافية للدين وشؤونه كحريّة التبرّج والابتذال، وحريّة المفاسد الأخلاقيّة بأنحائها المختلفة مادامت لا تزاحم حريّات الآخرين، بل وحريّة إنكار المسلّمات الدينيّة بحجّة حريّة الفكر.
بخلاف القوانين الاجتماعية التي تنظّم الحياة الماديّة على ضوء القناعات البشريّة، والاجتهادات الفكريّة المحضة. فإنّها عندهم مظهر للحقّ الاجتماعي، ويرون أنفسهم ملزمين بالانصياع إليها، وتعتبر خطّاً أحمر للحريّة، وحدّاً من حدودها، ليس لأحد أن يخالفها بحجّة الحريّة، وإلاّ وصم بالتأخر والتحجّر واللا مسؤوليّة، واستحقّ معاقبة القانون.
ونحن – كإسلاميين – نقبل ذلك، ولكن نطبّق ذلك بنفس المستوى – إن لم يكن أشد – على المخالف للعقائد الدينيّة والقوانين الإلهيّة الفرديّة والاجتماعية، ولا مجال عندنا للحريّة في قبال الحق الإلهي، كما لا مجال لها في قبال الحق الاجتماعي المرتبط بالمصالح العليا للمجتمع.
نعم يوجد مستوى من الحريّة في طريقة الوصول لتطبيقات الحق الإلهي في زمن غيبة الرسول (ص) والإمام المعصوم (ع). فإنّ الحق الإلهي بتطبيقاته ومصاديقه الواقعيّة ثابت في لوح الواقع، وعلى الناس أن يسعوا للوصول إلى هذه التطبيقات والمصاديق، وقد جعل الإسلام مناهج وآليّات علميّة معيّنة للوصل إليها، وفي ضوء هذه المناهج والآليّات يمتلك الإنسان (الفقيه) حريّة الكشف العلمي عن الحقيقة، واستنباط الحكم الشرعي والموقف الشرعي، وقد يختلف الفقهاء في النتائج التي يصلون إليها في المسالة الواحدة، ومع ذلك فجميع هذه النتائج تعبّر عن ذلك الحق الواحد في المسالة المعيّنة، وتكتسب من قدسيّته قدسيّة، ومن حقّانيّته حقّانيّة، وذلك لما لها من حالة الكشف والحكاية العلميّة عن ذلك الحق.
والحاصل؛ أنّ فتح باب الاجتهاد، وما يلازم ذلك من تفاوت في النتائج الفقهيّة والفتاوى الشرعيّة، يعبّر عن حالة من الحريّة الفكريّة في إطار الإسلام، وفي إطار الحق.
إشكاليّة المرجع في تشخيص الحق:
يثير البعض إشكاليّة أمام اعتبار الحق الإلهي حدّاً من حدود الحريّة، لا لأجل عدم قداسته وعدم حرمتّه، كلاّ فإنّ قداسته وحرمته محفوظة في النفوس، وإنّما لأجل عدم وجود طريق محدّد وحاسم لتحديد هذا الحق، إذ يختلف الناس – كما هو واضح – في تشخيص هذا الحق وتبيين حدوده وطريقة التعامل معه، وهو ما يعبّر عنها في هذه الأيام بالقراءات المختلفة للدين والإسلام.
فالقضيّة إذن، والإشكاليّة إذن، في من له الحق في تشخيص الحق الإلهي، والحقيقة الدينيّة؟، وبالتالي تشخيص أنحاء مخالفتها والتمرّد عليها، أو توهينها وكسر قداستها.
وفي مقام الجواب نقول: إنّ الجواب على هذه الإشكاليّة هنا هو نفس الجواب الذي يجاب به على نفس الإشكاليّة في المجالات الاختصاصيّة الأخرى. فكما يجاب في مجال الطب بأنّ الطبيب هو المرجع في تحديد الحالات والظروف الصحيّة، وما يمثّل انحرافاً عنها، وكلامه هو الرأي الفاصل في ذلك. وكما يجاب في مجال الهندسة المعماريّة بأنّ المهندّس المعماري هو المرجع في تحديد المواصفات المثاليّة والسليمة للبناء، وهو المرجع في تحديد حالات المخالفة لهذه المواصفات. فكذلك يقال في مجال الدين والمقدّسات الدينيّة، والمعارف الإسلاميّة والأحكام الشرعيّة.. فعالم الدين (الفقيه) هو المرجع في تحديد ما هو من الدين، وما هو مخالف له وتجاوز عليه، هذا في المسائل التفصيليّة، أمّا في المسائل الكليّة الضروريّة فالأمر فيها واضح.
وعلى هذا فالمشكلة إذن ليست في عدم وجود المرجعيّة الدينيّة، وإنّما في وجود المقتحمين لحصون التخصصات التي لا يمتلكون فيها خبرة كافية، والمتجرّئين على حريم التخصّصات العلميّة المختلفة، وخصوصاً في مجال الدين والنظريّات الإسلاميّة على المستويات المختلفة المعرفيّة والاجتماعية والسياسيّة. فليس أسهل من الدين والفكر الديني ميداناً لعمليّات التجربة والتنافس والإشهار! كلّ ذلك تحت عنوان حريّة الرأي والإبداع إلى أخره.
وليست هذه دعوة لتكميم الأفواه وقتل الإبداع، وإنّما دعوة لاحترام التخصّص، وتحرّي الدقّة والمسؤوليّة في الكتابة والخطابة وغيرهما من أنحاء الإبداع الفكري.
والحاصل: إنّ الحريّة في نظر الإسلام تمثّل عطاءً طيّباً على مستوى المضمون، ومسؤوليّة والتزاماً على مستوى الممارسة.
تصوّر خاص للحريّة:
وأخيراً من المناسب أن نشير إلى ما يطرحه الإسلام من تصوّر خاصّ ومتميّز للحريّة، فهو يقدّم تصوّراً متميّزاً للحريّة والإنسان الحر، وينظر إليهما نظرة خاصّة، فهو يضفي على المعنى الأوّلي الساذج للحريّة، معناً قيميّاً رفيعاً تتحوّل الحريّة خلاله إلى حالة خلقيّة ومعنويّة رفيعة.
فهو يقدّم الحريّة على أنّها مجمع الفضائل؛ قال الإمام الصادق عليه السلام: (خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثير مستمتع، أوّلها: الوفاء، والثانية: التدبير، والثالثة: الحياء، والرابعة: حسن الخلق، والخامسة – وهي تجمع هذه الخصال -: الحريّة)، وقال الإمام علي عليه السلام: (الحريّة منزّهة من الغل والمكر).
وفي هذا الإطار كذلك يقيّم الإنسان الحر، قال الإمام علي عليه السلام: (من ترك الشهوات كان حرّاً). وقال الإمام الصادق عليه السلام: (إنّ صاحب الدين.. رفض الشهوات فصار حرّاً). إلى غيرها من الروايات الكثيرة في هذا المجال.
وعلى هذا الأساس فالحريّة الواقعيّة للإنسان تتمثّل في العبوديّة الخالصة للّه تعالى، ومحاولة تطبيق جميع تصرفاته وأفعاله وأفكاره ورغباته مع الإرادة الإلهيّة، والتكليف الشرعي. والعبوديّة هي الانجذاب للدنيّا وهوى النفس وشهواتها. والحمد لله أولاً وآخراً.