بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
العِلمُ والعِلميُّ في الإسناد والمُسنَد
كنتُ قد كتبتُ غير مرَّةٍ لِأُبيِّن ما انتهى إليه النظر القاصر في مسائل الإسناد، وفي موقع السند من جهة اعتبارِ وعَدَمِ اعتبارِ المنقول، وها أنا أكتبُ مجدَّدًا لما لهذا الموضوع من أهمية بالغة لا تخفى على من يرى ما تتعرَّض له كتبنا الحديثية في أفهام ووعي العامَّة من استخفافٍ واستهانةٍ بشرفها وعلوِّ قدرها.
أُحَبِّرُ هذه الأوراق ببيانٍ، مبدأه كون السند طريقًا علميًا لا تَعَيُّنَ له، لا عقلًا ولا نصًّا. ثُمَّ إنَّ نفس الإسناد يفتقر إلى تحرير ما يُثبِتُ حُجِّيته وحدودها من جهة شمولها أو عدم شمولها للتسلسل بعد الناقل الأوَّل.
فَتَحْتَ عُنْوَانِ (العِلمُ والعِلميُّ في الإسناد والمُسنَد) أقول:
العِلمُ بالوقوع ينفي الحاجة لسلوك طريقٍ للكشف عنه من جهة الوقوع أو عدمه، وهذا الثاني هو سلوك الطريق بغرض الكشف هو ما يُعبَّر عنه بالعلمي؛ أي: الطريق العلمي الذي يُمكِنُ سلوكه بقصد أنْ يُؤدِّي إلى العِلم.
فرضٌ وتنبيه:
يحصلُ العِلمُ عند الرسول المبعوث من الله تعالى بما يريده سبحانه عن طريق الوحي، وإن لم يكن، فبما يعيِّنه هو جلَّ في علاه؛ لعدم قدرة الرسول على طريقٍ غير المُعيَّن من الله تبارك ذكره.
أمَّا من هم دون الرسول من عامَّة الناس فطريقهم إلى ما يريد الله تعالى هو الرسول، ولا بُدَّ من اشتِرَاطِ وثَاقَتِهِ التامَّة المُورِثَة للعلم القطعي اليقيني بما ينقل عن الله جلَّ في عُلاه، وهي وثاقة لا تتحقَّق ما لم يكن معروضها معصومًا، ولن يمنحه الناس ثقتهم ما لم يأتِ بأمرٍ مُعجِزٍ يُثبِتُ ب جهةٍ من جهاتِه اتِّصالَه بالوحي.
من حيثُ الإمكان، فَلِغَيرِ الرسول المُتَّصل بالوحي أن يستغني عن الرسول فيما لو تمكَّن هو من إصابة ما يريد الله تعالى حقيقة وواقعًا. إلَّا أنَّ هذا لا يقع، وقد تعبَّد اللهُ سبحانه الناس بطريقٍ علميٍّ واحدٍ هو الأخذ عن رسوله المُرسَل، ومن النصوص عليه قوله تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)[1] بدلالة الإطلاق بما الموصولة.
ثُمَّ إنَّ الرسولَ يُبلِّغُ ويُبلَّغُ عنه، وليس التعامل مع ما يُبَلَّغُ عنه (صلَّى الله عليه وآله) هو التعامل مع ما يُبَلِّغهُ (صلَّى الله عليه وآله)؛ لِعَدَمِ العِصمَة ووقوع الخطأ في النقل حتَّى مع فرض الوثاقة والصدق، وإلَّا فأكثر من الخطأ الدسُّ والتزوِّير، وهي مشاكل تشتدُّ وتتضاعف كلَّما كثُر الرِجال في سلسلة السند وتباعدنا عن عصر المعصوم (عليه السَّلام) فلا يمكن الرجوع إليه أو إلى من يلقاه للتوثُّق ممَّا يُنقل عنه.
لكِنَّ السِّيرة قائمة على قبول ما ينقله المعروف بالصدق والأمانة في النقل، وترتيب الأثر عليه، وفي المقابل التوقُّف في القبول ما لم يكن معروفًا بالصدق والأمانة، ولم تنعقد يومًا على ردِّ قول هذا الأخير وإسقاط وجوده، بل قد يُحتاط في الأخذ به من عدمه وترتيب الأثر فيما إذا كان المنقول ذا خطر أو أهميَّة. نعم، قد يترجَّح الردُّ إذا ما كان ناقلُ الخبر كثيرَ الكذبِ والوضعِ والدسِّ، غير أنَّ الباب يبقى مفتوحًا لاحتمال أنَّه لم يكذب في خصوص هذا الخبر أو ذاك؛ إذ إنَّ الكاذبَ يصدق، والصادقَ يكذب، وليس النظر في الناقل للخبر أو الواقعة إلَّا لكونه طريقًا علميًا يُرتجى بسلوكه الوصول إلى حقيقة الأمر المنقول من حيث الوقوع وعدم الوقوع، تامَّا او ناقصًا. ولا يمكن لذي نظر أن يقبل بالسقوط الوجودي للخبر المنقول لكون ناقله معروفًا بالكذب أو ما شابه؛ والوجه في ذلك أنَّ الناقل راوٍ لصورة الأمر الموجود في ذهنه، سواء كان لحادث قد وقع أو لقول حفظه ويريد نقله، فهو في كلِّ الأحوال لا يُحضِرُ نفس الواقعة أو المقول، لذا؛ فإنَّ ما يقوله واقعٌ لا محالة من حيثُ وجود صورته الذهنية لديه، ويبقى البحث في مطابقة تلك الصورة لواقع خارجي محتمل أو مدَّعى، ومن الواضح أنَّ المطابقة خارجة موضوعًا عن الناقل، ولذلك أمر المولى تبارك ذكره في الكتاب العزيز بالتبين في حال كان الجائي بالخبر فاسقًا؛ قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)[2].
نعم، يصح الإسقاط عن الاعتبار في موارد نأتي عليها إن شاء الله تعالى.
بناء عليه، فإنَّ كون الناقل معروفًا بالكذب وما نحوه، لا يقتضي تكذيب الخبر، ولكنَّه يوجبُ دِقَّةَ أشَدَّ في التوثُّق من الوقوع.
أمَّا لو سُلِكَ طريقٌ علميٌّ غير طريق الناقل للخبر، وكان مُوصِلًا للواقع، انتفت الحاجة إلى طريق الناقِلِ أو الراوي. فلو نقل شخصٌ معروفٌ بكثرة الكذب واقعةً يدَّعيها، وكان للمتلقي طريقٌ علميٌّ إلى التوثق من الوقوع غير طريق الراوي، فإنَّ الحاجة إليه تنتفي؛ حيث إنَّ موضوعيته مُحدَّده بكونه طريقًا علميًا لما من شأنه أن يُعلم.
هذا كلُّه في الواسطة الواحدة. فتنبَّه.
الواسطة التالية للأولى:
لا يصحُّ الأخذُ عن الواسطة الثانية دون وقوف على مبناها في النقل عن سابقتها؛ والوجه في ذلك هو أنَّ هذه الواسطة الثانية قد سلكت طريقًا علميًّا إلى الواقع، وهي بحسب الفرض طريق علميٌّ لمن يريد الأخذ عنها. يتَّضح ذلك ببيان ما يُتصوَّر من مباني ومقاصد في نقل الواسطة الثانية:
ومنها: أن يكون المنقول وحدةً واحِدَةً هي: المنقول مُسنَدًا على أنَّه مقول للناقل. أي أنَّ الواسطة الثانية لا شأن لها بما بين الواسطة الأولى وما تنقله، فالاثنين (الواسطة والمنقول) عند الواسطة الثانية واحدٌ، فيكون الإسناد من الواسطة الأولى، بالنسبة للواسطة الثانية، جزءًا من المتن.
في هذه الصورة لا يُتَوَثَّقُ مِن أكثر مِن رواية الواسطة الأولى للواقعة، وتكون روايته للرواية هي الواقعة؛ أي أنَّ الواقعة بالنسبة للواسطة الثانية هي رواية الواسطة الأولى، لا ما ترويه منفصلًا عنها، وبالتالي لا يعود عندنا واسطة أولى وثانية وثالثة، بل هي واحدة دائمًا عنوانها من يروي لنا ونتلقى منه. ولا بدَّ من إحراز وثاقة كلِّ واحدٍ من الرواة الواردين في سلسلة السند والتقائه بمن قبله أو إمكان أن يكون قد روى عنه؛ والغاية من ذلك إحراز تلقيه الواقعة عن لقاء أو ما شابه، وأمانته في النقل.
تطبيق:
روى في الكافي، قال: حَدَّثَنِي عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا؛ مِنْهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْعَطَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام)، قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ اسْتَنْطَقَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ، وَلَا أَكْمَلْتُكَ إِلَّا فِيمَنْ أُحِبُّ. أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ وَ إِيَّاكَ أَنْهَى وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ وَإِيَّاكَ أُثِيبُ"[3].
فنقول: محمَّد بن مسلم روى عن الإمام الباقر (عليه السَّلام) أنَّه قال: "لَمَّا خَلَقَ اللهُ ..."؛ فرواية محمَّد بن مسلم هي: من قوله: عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، إلى قوله: " وَإِيَّاكَ أُثِيبُ".
أمَّا رواية العلاء بن رزين فهي من قوله: عن محمَّد بن مسلم، إلى قوله: " وَإِيَّاكَ أُثِيبُ". ورواية الحسن من محبوب تبدأ من: عن العلاء بن رزين، وأحمد بن محمَّد من: عن الحسن بن محبوب، ومحمَّد بن يحيى العطَّار من: أحمد بن محمَّد. والكليني من: محمَّد بن يحيى العطَّار.
فيهمنا أن نقف على وثاقة محمَّد بن مسلم للتثبت من التقائه وروايته عن الإمام الباقر (عليه السَّلام) ومن أمانته في النقل. وأن نقف على وثاقة العلاء بن رزين للتثبت من التقائه وروايته عن محمَّد بن مسلم ومن أمانته في النقل.. وهكذا وصولًا إلى شيخ الطائفة الكليني.
يُلاحظ على هذا المسلك أمران:
الأوَّل: فقدانه لحيثية دراية الحديث؛ إذ إنَّ شغل الراوي هو الأمانة في تأدية قول من تحمَّل عنه مجرَّدًا عن أي شيءٍ آخر، فالمدار هو صدق وقوع المنقول ممَّن يروي عنه، لا صدق المنقول.
أي: يُسأل الشَّيخ الكليني (علا برهانه) عن وقوع الرواية (النص والسند) عن محمَّد بن يحيى العطَّار على النحو الذي رواه وأثبته في كتابه الكافي، فيؤكِّد على صدقه وأمانته في النقل. أمَّا عن صدقها فهو أمرٌ لا يُسأل عنه.
وهذا مخالف لمثل ما ورد عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) أنَّه قال: "حَديثٌ تَدْريِه خَيرٌ مِنْ ألفِ حَديثٍ تَرويِه"[4]. وما عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) قوله: "اعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوه عَقْلَ رِعَايَةٍ لَا عَقْلَ رِوَايَةٍ؛ فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ ورُعَاتَه قَلِيلٌ"[5].
نعم، يصحُّ ذلك فيما لو وصلنا الحديثُ عن غير مُحدِّثٍ عالِم. وإنْ حَدَّثَ وَنَقَلَ المُحدِّثُ العالِمُ دونَ تثبُّتٍ مِنْ صِدْقِ المَنْقُولِ، فلا بدَّ أن يُبَيِّنَ غايته من النقل، كأن يقول مثلًا: جمعتُ في هذا الكتاب كلَّ ما وقع تحت يدي من مرويات.
الثاني: مُخالفته لما عليه السيرة قطعًا؛ فهي منعقدة على تقليد الأمر من جاء به إذا كان صادقًا، أمَّا السؤال عن سلسلة السند لما يرويه فهذا ما لم يُعهد.
وهو الموافق لما رود عنهم (عليهم السَّلام)، كما عن أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام): "إِذَا حَدَّثْتُمْ بِحَدِيثٍ فَأَسْنِدُوه إِلَى الَّذِي حَدَّثَكُمْ؛ فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَلَكُمْ، وإِنْ كَانَ كَذِبًا فَعَلَيْه"[6]. ولا تغفل عن أنَّ عموم (الذي حدَّثكم) مُخصَّصٌ بما يقتضيه عمل العقلاء؛ وهو عدم النقل دون تثبت بأحد طُرُق العِلمي، وهذا مُؤيَّدٌ بما رواه الشَّيخ الصدوق بسنده عن عبد الأعلى ابن أعين، قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السَّلام): "جُعِلتُ فداك، حديثٌ يرويه النَّاسُ أنَّ رَسُولَ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله) قال: "حَدِّثْ عن بني إسرائيل ولا حرج". قال (عليه السَّلام): نعم.
قلتُ: فَنُحَدِّث عن بني إسرائيل بما سَمِعْنَاهُ ولا حَرَجَ عَلينَا؟
قال (عليه السَّلام): أمَا سَمِعْتَ مَا قَالَ: كَفَى بِالمرءِ كذبًا أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ؟
فقُلتُ: فَكيَفَ هَذَا؟
قال (عليه السَّلام): مَا كَانَ فِي الكِتَابِ أنَّه كَانَ فِي بَنِي إسْرَائيلَ فَحَدِّث أنَّه كَائِنٌ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ ولا حَرَجَ"[7].
ومنها: نقل الدعوى؛ أي أنَّ العلاء يُثبِتُ بالنقل دعوى محمَّد بن مسلم بأنَّ الإمام الباقر (عليه السَّلام) قد قال: "لمَّا خَلَقَ ...". أمَّا الحسن بن محبوب فيُثبِتُ بالنقل ادِّعاء العلاء بن رزين على محمَّد بن مسلم بأنَّه يدَّعي على الإمام الباقر (عليه السَّلام) أنَّه قال: ...، وهكذا إلى الشَّيخ الكليني الذي يُثبِتُ بالنقل ادِّعاء محمَّد بن يحيى العطَّار على أحمد بن محمَّد.
في هذه الصورة لا بُدَّ من إحراز وثاقة كلِّ واحدٍ من المُدَّعين كونها (أي: الوثاقة) الطريق العلمي المفترض لاعتبار دعواه، ولسانها: العهدة على الراوي.
يرد على هذا المسلك إضافة لما يرد على سابقه أنَّ مخالفته للسِّيرة من جهة الكلفة الزائدة في ادِّعاء إثبات ادعاءٍ.
ومنها: أن يتلقى الراوي عمَّن يروي عنه ويتحقَّق مِنَ وقوع وصدق موضوع الرواية، أي يتحقَّق مِنْ أنَّ المُتلقَّى عنه يروي فعلًا ما تلقَّاه، ومن كونه صِدقًا من جهة أصل حدوثه أو وقعه.
فالعلاء بن رزين لا يروي عن محمَّد بن مسلم إلَّا من بعد استيثاقه من صدق الرواية وأنَّ الإمام الباقر (عليه السَّلام) قد قال فعلًا: "لمَّا خَلَقَ ..."، وكذا بالنسبة للشَّيخ الكليني؛ فطالما كان راويًا مُحدِّثًا فهذا اختِصَاصٌ قوامه التَثبُّت والتوثُّق، لذا فإنَّ شغله في أمرين:
الأوَّل: الأمانة في الوقوف على الطريق إلى الرواية، سواء ذكره في كتابه أم لم يذكره.
الثاني: التثبُّت والتوثُّق من الصدور.
في هذا الطريق لا شغل لنا، كآخذين عن المُحدِّثين، غير التثبُّت من وثاقة المُحدِّث وأنَّ له منهجًا في التثبُّت والتَوَثُّق. وليس الأمر كذلك لمن يريد الانضمام لسلسة الرواة راويًا مُحدِّثًا؛ إذ يجب عليه حينها التثبُّت ممَّا يرويه، إلَّا أن يكون موافقًا في المنهج والطريقة للمُحدِّث الذي يروي عنه مع ثقته العلمية فيه، فإنَّه يستغني حينها عن التثبُّت والتوثُّق؛ لتحقُّق العلمي. فلا تغفل.
يؤيِّدُ ذلك ما ورد عنهم (عليهم السَّلام) في التوجيه إلى الأخذ عن الراوي الثقة دون إشارة إلى طريقه أو سنده إلى الرواية. من ذلك ما عن علي بن المسيب، قال: قلتُ للرضا (عليه السَّلام): "شُقَّتِي بَعيدَةٌ ولستُ أصل إليك كلَّ وقتٍ، فَمِمَّنْ آخذُ مَعَالِمَ دِيني؟
فقال (عليه السَّلام): مِن زَكريا ابن آدم القمِّي المأمون على الدين والدنيا.
قال ابنُ المسيب: فلمَّا انصرفتُ قدمتُ على زكريا بن آدم فسألتُه عمَّا احتجتُ إليه"[8].
وفي رواية الفضل بن شاذان، قال: حدَّثَنِي عبد العزيز بن المهتدي، وكان خيرَ قُمِّي رأيتُه، وكان وكيلَ الرضا (عليه السلام) وخاصَّتَه، فقال: "إنِّي سألتُه فقلتُ: "إنِّي لا أقدرُ على لِقَائِكَ فِي كُلِّ وقتٍ، فَعَمَّنْ آخذُ مَعَالِمَ دِيني؟
فقال: خُذْ عن يونس بن عبد الرحمن"[9].
والحال أنَّ كلاهما يرويان مباشرة وبالواسطة عن المعصوم (عليه السَّلام). ولا يُشكل بعدم النصِّ على كون المأخوذ حديثًا عنهم (عليهم السَّلام)، فعبارة (معالم ديني) لا تدل على أكثر ممَّا تحرز به السَّلامة في الدين. لأنَّه يُجاب بأنَّها أعم من الحديث وغيره، فالمحدِّث قد يجيب بنصِّ ما قالوه (عليهم السَّلام)، وقد يجيبُ بما يُفهم من قولهم أو بما يرجع إلى قولهم (عليهم السَّلام).
وكيف كان، فإنَّ المدار في المقام هو وثاقة من يؤخذ عنه، وهو ما عليه السيرة كما أسلفنا، ومنه علاقة عامَّة الشِّيعة بالفقهاء الذين يرجعون إليهم في الفتوى، وإن أفتى أحدهم بما ينكره أقرانُه أشارُوا وأبَانُوا.
فنقول: المناط واحدٌ في أخذ الأمور الخطيرة عن الرجال، وهو أن يكون موثوقًا بما يُغني عن السؤال عن طريقه إلى إثبات قوله. وعلى هذا الأساس، فبحسب ما نُقرِّرُه، فإنَّ ما يهمُّ العلاء بن رزين، هو وثاقة محمَّد بن مسلم إن أراد الأخذ فقط، والتوثُّق من ثبوت المنقول إن أراد روايته.
ننتهي إذن إلى أنَّ الطريق العلمي للمُحَدِّث هو ما يؤدِّي إلى الوثوق، ولغيره فالوثاقة طريقه العلمي، ومضوعها هو من يؤخذ عنه، لا كل من وقع في سلسلة السند.
وكتبه
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
28 شوَّال 1442 للهجرة
البحرين المحروسة
...................................
[1] - الآية 7 من سورة الحشر
[2] - الآية 6 من سورة الحجرات
[3] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 10
[4] - معاني الأخبار - الشيخ الصدوق - ص 2
[5] - نهج البلاغة - خطب الإمام علي (عليه السَّلام) -تحقيق صالح- - ص 485
[6] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 52
[7] - معاني الأخبار - الشيخ الصدوق - ص 159
[8] - الاختصاص - الشيخ المفيد - ص 87
[9] - فهرست اسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي) - النجاشي - ص 447