كانت مكة مركزاً لانطلاق دعوة النبي إبراهيم عليه السلام للتوحيد لكافة البشر حتى تقوم الساعة قال تعالى ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ (الحج-26-27) بحيث يكون العقل هو المرشد إلى هذا الأصل الذي يدور في فلكه كل المفاهيم والتشريعات الإلهية ومنه ينطلق مفهوم العبودية المطلقة لله عز وجل وتحرر الإنسان من قيود التبعية لغيره وبذلك يكون حراً من كل ما يشينه وينقص من إنسانيته التي أساسها خلق فبذلك يتكامل كلما توغل في مراتب العبودية لله والعكس صحيح فإن التحرر من العبودية لله يجعله مكبلاً بقيود سلطنة العباد وما دونهم فتنحط كرامته ويتناقص تكامله.
هذا المركز لم ينشئ على الجبر نحو هذا الاتجاه، بل جعل الله العقل ذا خيار بعد أن بين كل سبل الهداية إذ الهداية لم تكن يوما ما جبرية قهريه قال تعالى ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ (الإنسان-3)
تعاقب على مكة أقوام متعددون قبل أن يبزغ نور الهداية المحمدية فبعد حاكمية النبي إسماعيل عليه السلام تعاهدت قبيلة جرهم على الاهتمام بشؤون مكة والبيت الحرام إلا أنها ابتعدت كثيرا عن تعاليم السماء واتجهت نحو خلق المصالح الدنيوية والملذات الغرائزية كبديل عن تلك التعاليم وأبقت من الدين وتعاليمه هيكلاً شكليا كطقوس تحفظ الهيبة الزعاماتية وتجلب المنافع والمطامع لأصحابها المتزعمين والمتسلطين على رقاب الناس وهي مثال لقول الإمام الحسين عليه السلام "والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم"
أفسدت جرهم في مكة حتى بات الناس في مكة لا يتحملون هذا النوع من الزعامة وكان من المؤمل أن يتذكر الناس الأصل الأول وهو التوحيد وما يدور في فلكه من قيم ومفاهيم وتشريعات تحفظ للإنسان كرامته وهيبته وترجعه عبدا لله الواحد الأحد وتخلع ما في رقبتهم من قيود وأغلال لعبادة العباد والأرجاس مما يحقق مصالح بعض العباد مما يسمون بالطواغيت.
جاءت قبيلة خزاعة كبديل عن جرهم وانطلاقا من الشعور بعدم أهلية جرهم ورغبة في التخلص منهم حدث الانقلاب الكبير فخرجت جرهم من مكة صاغرة حقيرة. ولكن هذا لا يعنى أن الناس قد تخلصوا من قيود عبودية المخلوق والشهوات، بل على العكس إنما انغمسوا في ذلك بصورة أكثر بشاعة وفضاعة، ففي عهدهم أدخلت عبادة الأصنام والأوثان وما قام به زعامات خزاعة ما هو إلا استغلال السخط العام على الوضع القائم من انتشار الفساد والظلم.
بعد انقلاب خزاعة جاء قصي جد النبي الرابع ليحدث هزة فيها ولكنها لم تكن كافية لإحداث تغيراً تاما في المفاهيم والقيم بل قام بالانقلاب على خزاعة وطردها وأسس نظاما شبه مدني يرجع بعض صواب العقل إلى بعض النفوس العالية ولكن مع هذ بقى الحال على ما هو عليه بالنسبة للعموم فالمصالح الطبقية للزعامات العليا بقت كما هي متمسكة بثوابت التراث المنحرف لقبيلتي جرهم وخزاعة فهذا التراث أصبح دينا متأصلا في النفوس وقلعه يحتاج إلى قوة وحركة أكبر من قدرة قصي على إحداثه وتلك لم تكن سوى حركة التغيير الإلهي التي قام بها خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله.
زعامات المصالح كانت ستقبل بوجود الخاتم مع حفظ أهل المصالح لمصالحهم وأهل المطامع لطمعهم وأهل النزوات لنزواتهم ولذا كان محمد بن عبد الله مقبولا عندهم على استقامته ونزاهته قبل الدعوة ولم يعترض عليه أحد من أولئك، بل على العكس كانوا يصفونه بأجمل الأوصاف أبرزها الصادق الأمين ولكنها لن تقبل به إن كان يريد إحداث قلب الموازين رأساً على عقب، فلا يمكن القبول بجعل الناس سواسية فيثبت حقوقا للعبد كما للسيد وحقوقا للمرأة كما للرجل ويحرم ما اعتادوا عليه من الفواحش والموبقات، وأن يجعل الميزان ميزانا إلهيا سماويا في مثل قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات-13)
ولهذا جرى تفاوضا بقيم دنيوية بأن يجعلوه زعيما ملكا عليهم بشرط ألا يحتفظ بالموازين التي قامت عليهم جرهم وخزاعة وبقيت محتفظة لتوازناتها بعد قصي.
النبي لم يقبل بعرض الدنيا على الآخرة، فما كان من أجلاف العرب بالجزيرة العربية مجتمعة على رأسها مشركو مكة إلا بمحاربة النبي صلى الله عليه وآله مكذبة كل ما بان لها من معجزات على يديه فقد عميت بصيرتها وطاش لبها فما كان منها إلا أن قتلت نفسها في محاربة الله ورسوله.
النبي صلى الله عليه وآله بعد كل هذا الجهد الجبار والمسدد من قبل السماء لم يجعله قهريا إجباريا، بل جعل العقل هو المرشد إلى اتباعه قال تعالى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (256)