تقريرات موجزة: درس (الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة) - الشيخ الحرُّ العاملي (قدِّس سرُّه) {11}.
الأستاذ: السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي.
المقرِّر: محمود أحمد سهلان العكراوي.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب 18 - أنَّ الله سبحانه لا يُدرَك له كُنه ذاتٍ ولا كُنه صفة:
{104} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمَّد، عن الحسين بن سعيد، عن النَّضر بن سُويد، عن عاصم بن حميد، قال: سُئِل علي بن الحسين (عليه السلام) عن التوحيد؟ فقال: إنَّ الله عزَّ وجلَّ عَلِم أنَّه يكون في آخر الزمان قومٌ متعمِّقون فأنزل الله {قُلْ هُوَ الله أَحَد} والآيات من سورة الحديد إلى قوله: {عليمٌ بذاتِ الصدور}، فمن رَامَ وراءَ ذلك فقد هلك.
الرواية السادسة الآتية موضِّحةٌ للخمس الأُول من الباب، فالروايات الخمس واضحةٌ في النهي عن الكلام في ذات الله، والسادسة تُبيح الكلام في صفاته تعالى.
رَامَ في اللغة: قَصَد، فقوله (من رام) يعني من قَصَد.
التعمُّق المذكور في الرواية ليس هو في مقام المدح ولا في مقام الذم، فهو راجعٌ عادةً إلى الحاجة، ولا أفضلية لغير المتعمِّق على المتعمِّق أو للثاني على الأول ما دام كلٌّ منهما يتصرَّف بحسب الظروف التي يعيشها، فبعضنا لا يضطره ظرفه ومجتمعه للتعمُّق وبعضنا الآخر كطلبة العلم مضطرٌّ للتعمُّق، وتقديمي لظرفٍ على آخر أو لمجتمعٍ على آخر -لأكون فيه- ينبغي أن يكون لمرجِّحٍ صحيح.
تنبيهان:
الأول: الإنسان العاقل المؤمن يسعى دائمًا لما يُتيحه الله تعالى له فقط، أما البحث فيما أخفاه الله تعالى عنك يؤدي للهلكة في الكثير من الأحيان، وأيُّ كُلفةٍ زائدةٍ على المُتاح فأنت يقينًا على خطأ، وليس القياس هو ما يصل إليه الإنسان، بل القياس يكون بالوصول بالطريق المَرضِيِّ عند الله سبحانه وتعالى.
الثاني: التعمُّق مفهومٌ مُشكِّكٌ ولا يوجد نهيٌ عنه بشكلٍ مُطلق، وضابطه هو الإمساك عند حدِّ الزمان والمكان وحدِّ ما يُحيط بك في هذه النشأة.
إذن العمق المسموح به إلى {قُلْ هُوَ الله أَحَد}، وبعد الأحد لا يُمكِنك التفكير فهو خارج حدود إدراكك كما تبيَّن ممَّا مَر، والأحد دائرٌ بين الوجود والعدم، فإذا أَعدَمت الأحد ذهبت إلى العدم، فكيف يمكنك أن تفكِّر؟
استطراد:
قد يتحول حكم التعمُّق إلى الوجوب الكفائي أحيانًا كما إذا توقَّف ردُّ الشبهات عليه، ما دام هذا التعمُّق في الحدود التي رسمها الشارع المقدس.
{105} الرواية الثانية: وعن محمَّد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن عليِّ بن رِئاب، عن أبي بصير، قال: قال أبو جعفرٍ (عليه السلام): تكلَّموا في خَلقِ الله ولا تتكلَّموا في الله، فإنَّ الكلام في الله لا يزيد صاحبه إلا تحيرا.
هذه الرواية من طبيعة التفكير البشري، فإن فِكرَ الإنسان قائمٌ على تشخيص الموضوعات، وتشخيص الموضوعات قائمٌ على المقارنة، وهي لا تكون إلا من بعد التمييز، ولو أراد أن يفكِّر في الله فذلك مستحيلٌ لأنه لا ضدَّ لله تعالى، فما قاله الإمام (عليه السلام) موافقٌ تمامًا لما عليه الطبيعة البشرية في التفكير، ولكن هذا التفكير في المخلوق، والطريق الصحيح على هذا يكون بالانطلاق من المعلول إلى العلَّة، والعلَّة هي الذات، وإذا وصلنا إليها نُمسك وإلا وقعنا في الحَيرة.
{106} الرواية الثالثة: قال الكُليني: وفي روايةٍ أخرى عن حَريز: تكلَّموا في كلِّ شيءٍ ولا تتكلَّموا في ذات الله.
الرواية عامةٌ، وهي تبيح الكلام في كل شيءٍ دون الذات الإلهية، لكنها مخصَّصَةٌ برواياتٍ أخرى، كالذي جاء عن أهل البيت (عليهم السلام) أن اسكتوا عمَّا سكتنا عنه وغير ذلك.
{107} الرواية الرابعة: وعن محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمَّد، عن ابن أبي عُمير، عن عبد الرحمن بن الحجَّاج، عن سليمان بن خالد، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنَّ الله يقول: {وأنَّ إلى ربِّكَ المُنتهى} ]النجم/ 42[ فإذا انتهى الكلامُ إلى الله فأَمسِكوا.
المقصود هنا (إذا انتهى الكلام إلى ذات الله)، فيمكن أيضًا أن تُضاف الصفات أو الأسماء فتكون العبارة هكذا: (أسماء الله) أو (صفات الله)، وذهبنا لهذا لورود النهي عن الكلام في الذات في الروايات السابقة، والأمر بالكلام في الصفات، كما أنه لا يمكن استفادة النهي عن الصفات من الرواية، لأنها نَهَتْ عن الكلام في الموصوف (الله)، لا في الصفة (الصفات).
قال (عليه السلام): "فأمسكوا"، وهذا أمرٌ للإنسان بالسيطرة على أفكاره عندما تصل إلى هذا الحد، بل لو تجاوز الحدَّ وتكلَّم في ذات الله للزم النقيض، لأن الكلام في ذات الله يعني الكلام في المُحيط، والحال أنك مُحاطٌ بك.
{108} الرواية الخامسة: وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عُمير، عن أبي أيوب، عن محمَّد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا محمَّد، إنَّ الناسَ لا يزال بهم المنطقُ حتى يتكلَّموا في الله، فإذا سَمِعتم ذلك فقولوا: لا إله إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شيء.
أي أن المنطقَ لا يزال يقودهم، لا أنهم يستعملون المنطق، وليس المراد من المنطق هو العلم المُدوَّن، وهذا نحو ذمٍّ لهم لأنهم جعلوا المنطق يتحكَّم بهم بينما ينبغي للإنسان أن يستفيدَ من القواعد في استدلالاته فيما هو مُحاطٌ به، فتكون السلطة على القواعد مني أنا كمُفكِّر، لا أن يجعلها قائدًا له بنحو مُطلَق.
والكلام هنا إلى غير المؤمنين، والوارد في الرواية ليس من شأن المؤمن، ولا مجالسة أمثال هؤلاء من شأنه، ويمكن استفادة ذلك من قوله (عليه السلام): "إذا سمعتم ... شيء". وقد قال (سمعتم) ولم يقلْ (استمعتم) والثاني ينبغي مراعاته من باب أولى.
تنبيه:
قد يَرِدُ الضعف اللغوي على بعض كلمات أهل البيت (عليهم السلام) من المنظور اللغوي، من خلال تطبيق القواعد عليها، لكن لا ينبغي تحكيم هذه القواعد لإثبات أو نفي صحَّة أو صدور الرواية عنهم (عليهم السلام)، فإن ذلك راجعٌ للظروف والمقامات التي صدر فيها الكلام، وقد ورد عنهم (عليهم السلام) ما يُفيد ذلك.
{109} الرواية السادسة: وعن عليِّ بن محمَّد، ومحمَّد بن الحسن، عن سهل، عن محمَّد بن عيسى، عن إبراهيم، عن محمَّد بن حكيم، قال: كتب أبو الحسن موسى (عليه السلام) إلى أبي: إنَّ الله أَجلُّ وأعظمُ من أنْ يُبلغَ كُنْهُ صِفَتِهِ فَصِفُوه بما وَصَفَ به نَفْسَهُ وكُفُّوا عمَّا سِوى ذلك.
هذه الرواية هي المُبيِّنَة للروايات الخمس السابقة كما قلنا، وهنا قاعدتان:
الأولى: لن تبلغوا كُنهَ صِفَةِ الله.
الثانية: لا تصفوه بغير ما وَصفَ به نفسه.
تنبيه:
احذروا من شهوة العلم، فإن الشهوات الأخرى كالبطن والنساء والوجاهة وغيرها -بحسب رواية الإمام زين العابدين (عليه السلام)- قد تُترَك من أجل شهوة العلم، فالشهوات الأخرى قد يكون لها حلولًا واضحة، لكن شهوة العلم قاتلة، وليس المقصود طلب العلم بشكلٍ مبالغٍ فيه فتكون جُربُزة، بل تلبُّس العلم من أجل أن يأخذ مكانًا ومساحةً بين أهل العلم وبين الناس.
{110} الرواية السابعة: وعن محمَّد بن إسماعيل، عن الفَضل بن شاذان، عن حمَّاد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن الفُضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنَّ الله لا يُوصف، وكيف يُوصف وقد قال في كتابه: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ]الأنعام 91[، فلا يُوصف بِقَدْرٍ إلا كان أعظمَ من ذلك.
تريد أن تصفَ الله تعالى، وكلما وصفت فهو أعظم، فالله سبحانه وتعالى لا يُوصف، وهذا نفيٌ لإمكان الوصف، فهل يُفهم منه النهي عن وصفه؟ نعم، يُفهم النهي عن الوصف إلا بما وصف به نفسه كما قالت الروايات، وإن لم يُفهم منها النهي فالوصف مع هذا البيان يكون لغوا، ولا داعيَ ولا مُوجِب له؛ فإنك تصف الشيء لأنك تريد بيان جانبٍ من جوانبه، والإمام (عليه السلام) يقول أنك لا تتمكن لأنه أعظم من ذلك.
يحتمل البعض أن موضوع الرواية هو قَدْر الوصف، فنقول: نفي القَدْر هنا نفيٌ للوصف منكم، فمهما كان القَدْرُ كان الوصف منفي، فموضوع الرواية هنا هو الوصف لا قدر الوصف.
الرواية تنهى الإنسان عن أن يصف الله تعالى بغير ما وصف هو نفسه به، ودليله من الآية التي أوردها الإمام (عليه السلام)، فالفاعل في (قَدَرُوا) هو الإنسان، فلا يوصف منكم أنتم، والنهي ليس عن طبيعي الوصف، وإلا كان لا يصحُّ أن يُوصَف حتى منه تعالى.
ما معنى التوقيف؟
التوقيف هو الأخذ بالدال دون النظر إلى المدلول، ففي بعض الحالات تذكر الدال وتريد به تمام المدلول، وأما في التوقيف علاقتك تكون بالدال دون المدلول، فشغلي يكون في مثل صفة العالمية -مثلا- مع (العالِم) كدالٍّ لا مع المدلول التام له.
سؤال: إذا وصف الله تعالى نفسه، هل نتمكن من معرفة مقدار هذه الصفة؟
جوابه: أنت لستَ بمكلَّفٍ بتمام مدلول الصفة، لأنه غير مقدورٍ لك.
المحذور في أن تصف الله تعالى يترتب على عدم إمكان تصوُّره تعالى، فعند الوصف أنت تحتاج لتصور الموصوف ثم تصفه، وهذا مما نفيده من مبحث الوضع في أصول الفقه، لأن الوصف وضع، وفيه تحتاج أن تتصور الموصوف والصفة، وتصور الموصوف بتمامه هنا ممتنع.
زيادة بيان:
قلنا أن الدال لا يكون على نحو المطابقة التامة للمدلول كصفةٍ لله تعالى، كما إذا قُلتُ الله عالِم، فأنا لا أدرك مدلول العالِم التام.
لماذا لا يمكن أن يصف الله تعالى إلا هو؟
قلنا أنك إذا أردت أن تصف شيئًا -بالرجوع لمبحث الوضع- فأنت تحتاج لتصوُّر الموضوع وتصور الموضوع له، أي تتصور المعنى واللفظ، وهذا أول شروط الوضع، والتوصيف وضع، فإنك تريد أن تبيِّن أمرًا موجودا، وهذا الموجود لا بدَّ أن تتصوره، وتصور الجزء والوضع للكل ممتنع، وهذا هو الحال مع الله تعالى، فإنه لا يمكن الإحاطة به تعالى، فلا يمكنك وصفه، وبالتالي تقف عند ما وصف به نفسه فقط، وتستعمله كدال، ولا تتعدى للمدلول.
قد يُقال: إنك تتصور جهةً وتضع له تعالى، لكننا نقول لو وضعت لهذه الجهة فقد يكون الوضع خاطئًا بالنسبة للكل، ولا تكون موافقةً للواقع.
لا توجد صفةٌ إلا أن تكون عارضةً أي خارجةً عن الذات، والأوصاف هي التي يتشخَّص بها الموجود الخارجي، فإذا أردتُ أن أصف وأحدِّد العارض فلا بدَّ أن أرى مساحة المعروض، ولا بدَّ أن تؤدي الصفة حقَّ الموصوف، ولكن هذا ممتنعٌ عند الحديث عن الله تعالى.
"ما قَدَرُوا الله" في الآية مبنيٌ للمعلوم، والفاعل هم الناس، وهي تفسر ما أراده الإمام (عليه السلام)، وهو ما قلناه من أن النهي عن أن تصفوا أنتم.
تنبيه:
نحن ندرس هذا الكتاب لضبط العلوم الأخرى، كعلم الكلام وغيره.
{111} الرواية الثامنة: وعن عليِّ بن محمَّد، عن سهل بن زياد، أو عن غيره، عن محمَّد بن سُليمان، عن عليِّ بن إبراهيم، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إنَّ الله عظيمٌ رفيع، لا يَقدِرُ العباد على صِفته ولا يبلغون كُنه عظمته ...، الحديث.
الترديد في قوله (أو عن غيره) قد يؤدي للإرسال فيكون الحديث ضعيفًا من جهة السند.
هذه الرواية مؤيدةٌ لما مرَّ في الرواية السابقة.
نقول هناك خالق، لكن إذا سِرتَ خطوةً زائدةً بعد (هناك خالق) ضَلَلْتَ وأَضللت، فإذا جاء شخصٌ وادَّعى أنه مبعوثٌ من الخالق، نقول هذا ما كنا نبحث عنه، فنطلب منه أن يثبت ذلك، وإذا ثبت ذلك أخذنا منه، وهو الحال مع الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم)، فنأخذ منهم أوصاف الله وأسمائه والمعارف التي نحتاجها ونبحث عنها.
إن سِرتُ في طريق المعرفة بنفسي دون الرجوع لهذا الذي له علاقة مع الخالق أفسدت.
{112} الرواية التاسعة: وعن عدَّةٍ من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن بعض أصحابه، عن الحسين بن مياح، عن أبيه، قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: مَنْ نظرَ في الله كيف هو هَلَك.
يهلك الإنسان لو نظر هذه النظرة، لأن تفكيره قائمٌ على التصور والمقارنة والقياس، فلو نظرتَ في حقيقة الله ماذا ستتصور؟ وكل ما تتصوره هو بخلافه.. فيحصل الاصطدام بهذه النقطة دائما.
نرى الناس تسأل: ماذا كان يفعل الله قبل الخلق؟
وجوابه أن هذا السؤال غير صحيحٍ لأنه قائمٌ على الزمان والمكان وهما مخلوقان، فنُمسك عن الكلام عند هذا الحد. ولا يقال: الله غير موجودٍ لهذا، وذلك أننا فرغنا من إثبات وجود الله، لكننا عقلًا ينبغي أن نُمسك عند هذا الحد.
قاعدة:
كل ما لا يكون فيه مجالٌ للمقايسة والممايزة ينبغي أن نسكت عنه، فهو ليس مجال معرفة الإنسان.
{113} الرواية العاشرة: وعنهم، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن محمَّد بن عبد الحميد، عن العلاء بن رزين، عن محمَّد بن مسلم، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام)، قال: إيَّاكُم والتفكُّر في الله، ولكن إذا أردتم أنْ تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه.
إننا اليوم -مع الأسف- إذا رأينا شيئًا عظيمًا من خلقه لا نقول سبحان الله أو نُصلِّي على محمَّدٍ وآل محمَّدٍ أو ما شابه، فقد استبدلناها بكلماتٍ مستوردةٍ من هنا وهناك كما تعلمون..
{114} الرواية الحادية عشر: وعن محمَّد بن أبي عبد الله، رَفَعَه، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ابن آدم لو أَكَلَ قلبَكَ طائرٌ لم يُشبِعه، وبصرك لو وُضِعَ عليه خرق إبرةٍ لغطَّاه، تريد أنْ تعرفَ بهما ملكوت السماوات والأرض؟ إنْ كُنتَ صادقًا فهذه الشمس خلقٌ من خَلْقِ الله، فإنْ قدرتَ أنْ تملأ عينيك منها فهو كما تقول.
تنبيه:
من الأمور المهمة في قراءة النصوص ضرورة قراءة النصِّ بتمامه، فقد يكون البيان المتأخر هو الذي يبيِّن المراد من هذا النص ككل، كما وجدنا هنا في ذيل الرواية عندما ذكر النظر في الشمس، ومن الأمثلة الواضحة في هذا آية التبيُّن من نبأ الفاسق.
إن القلب ينفعل بما يصل إليه من صور، فلو فتحتَ الباب ووجدتَ أسدًا أمامك ماذا يحدث؟ يتفاعل القلب مع الصورة وتحصل حالةٌ من الانقباض والخوف عندك، مع أنك لو دقَّقت فيه فقد تجده مجسَّمًا للأسد لا أسدًا حقيقيا، ولو كنتَ تستطيع النظر في الشمس لحصلتْ لها صورةٌ حقيقيةٌ في القلب، وانفعلتَ معها بحسب هذه الصورة الحقيقية، لكنك في الواقع لا تراها على حقيقتها التامة، ولا تُدركها، فلا تستطيع التعامل معها من هذه الناحية، فإن للنظر فيها مرتبتين: الأولى هي القدرة على النظر فيها، والثانية مرحلة استقرار القلب عند النظر فيها، بعد الانتهاء من هذا الأمر الذي تعجز عنه -وهو النظر في الشمس- تعال لننظر في الملكوت، وهو غير مقدورٍ كما هو واضح.
والمراد من قوله (عليه السلام): "تملأ عينيك منها"، هو أن تكون عندك معرفةً تفصيليةً بها.
{115} الرواية الثانية عشر: وعن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عُمير، عن محمَّد بن يحيى الخثعمي، عن عبد الرحيم بن عتيك القصير، قال: سألت أبا جعفرٍ ]عبد الله[ (عليه السلام) عن شيءٍ من الصفة؟ فرفع يده، ثم قال: تعالى الجبار تعالى الجبار من تعاطى ما ثَمَّ هلك.
قد يكون سؤال السائل عن صفةٍ لا تليق بمقام الربوبية، إذ الكلام في الصفات ليس منهيٌ عنه، ولعلَّ الإمام (عليه السلام) أراد تخويف السائل هنا لا إجابته.
{116} الرواية الثالثة عشر: وعنه، عن أبيه، عن اليعقوبي، عن بعض أصحابه، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث، أنَّ رجلًا سأل النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) عن الله كيف هو؟ قال: كيف أصفُ ربِّي بالكيف والكيف مخلوق، والله لا يُوصف بخلقه.
الكيف من العوارض، وهي ما نحتاجه للإبراز والتشخيص في هذه النشأة الدنيا، وهي موضوعاتٌ مستقلةٌ بذاتها لكنها لا تظهر إلا في موضوع، وهو -أي الكيف- مخلوق، فلا يوصف الخالق به.
{117} الرواية الرابعة عشر: المفضَّل بن عمر، في كتاب التوحيد الذي رواه عن الصادق (عليه السلام) في حديثٍ طويل، قال: إنَّ العقل يعرف الخالق من جهةٍ تُوجِب عليه الإقرار ولا يعرفه بما يُوجِب له الإحاطة بصفته، إنَّما كُلِّف العباد من ذلك ما في طاقتهم أنْ يبلغوه، وهو أنْ يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه، ولم يُكلَّفوا الإحاطة بصفته، كما أنَّ الملِكَ لا يكلِّف رعيَّته أنْ يعلموا أطويلٌ هو أم قصير، أبيضُ هو أم أسمر، وإنَّما يُكلِّفهم الإذعان بسلطانه والانتهاء إلى أمره، ألا ترى أنَّ رجلًا لو أتى باب الملك فقال: اعرِض عليَّ نفسك حتى أتقصَّى معرفتك وإلا لم أسمع لك، كان قد أهَّلَ [أحل] نفسه لعقوبته، فكذا القائل إنَّه لا يُقرُّ بالخالق سبحانه حتى يحيط بكنهه متعرِّضٌ لسخطه، إلى أنْ قال: وليس شيءٌ يمكن المخلوق أنْ يعرفه من الخالق حقَّ معرفته غير أنَّه موجودٌ فقط، فإذا قلنا كيف وما هو فممتنعٌ عِلمُ كُنهِه وكمال المعرفة به، إلى أنْ قال: ثمَّ ليس علم الإنسان بأنَّه موجودٌ يُوجِب له أنْ يعلم ما هو، وكيف هو، وكذلك علمه بوجود النفس لا يوجب أنْ يَعلمَ ما هي، وكيف هي، وكذلك الأمور الروحانية اللطيفة، إلى أنْ قال: هو كذلك أيْ غير معلومٍ من جهة إذا رام العقل معرفة كنهه والإحاطة به، وهو من جهةٍ أخرى أقرب من كل قريبٍ إذا استدلَّ عليه بالدلائل الشافية، فهو من جهةٍ كالواضح لا يخفى على أحد، وهو من جهةٍ كالغامض لا يدركه أحد، وكذلك العقل أيضا، ظاهرٌ بشواهده ومستورٌ بذاته.
الإقرار راجعٌ إلى العلم الإجمالي والعلم التفصيلي، فالعلم الإجمالي يحقِّق الإقرار، وهو موجود، لكنْ على التفصيل هذا غير معلوم، فالمعرفة التي يمتلكها العقل هو ما يكفي للإقرار.
عدم المعرفة التفصيلية لا ينفي المعرفة الإجمالية ولا يزلزل الإقرار، فوجود الله وخالقيته وقدرته وغيرها قام عليها البرهان، فلو لم نتمكَّن من معرفة التفاصيل أو اختلفنا فيها لا يعني نفي تلك الأمور التي انتهينا إليها بالبرهان.
نعم الاختلاف والخلل في التفاصيل في المقام يدعوني لمراجعة المقدمات في مقام الدليل؛ أيْ لا تنقض على برهاني ودليلي بالتفاصيل، بل نعود لمناقشة المقدمات ونسير معها.
فائدة:
عندما يقتطع الشيخ الحرُّ العاملي (قدِّس سرُّه) من أيِّ روايةٍ ما يحتاجه في المقام، وهو ليس من مقامات الاستشهاد، وإنما من مقامات الجمع، فهو يريد أن يجمع كل ما يصلح للتدليل على أمرٍ معيَّن، وهذا كاشفٌ عن تدقيق الحرِّ العاملي في الروايات، وهذا ليس موجودٌ ضرورةً عند كل العلماء، فيُطمئنُّ له ولأمثاله في استشهاده بالشواهد الروائية أكثر من غيره، فينبغي الاعتناء بالرواية لعنايته بها.
قال (عليه السلام): "من جهةٍ تُوجِب عليه الإقرار"، فنعلم بوجود خالقٍ بلا شك، ولا تؤثِّر التفاصيل في هذه المعرفة، فالعلم الإجمالي كافٍ للإقرار بالخالق ويوجب الامتثال والطاعة كما قلنا.
ملاحظة:
لغة المعصوم في هذه الرواية مختلفةٌ عن المعتاد منهم (عليهم السلام)، ولا يقدح هذا في الرواية، وأراد الحرُّ العاملي (قدِّس سِرُّه) تأكيده بعد الرواية بقوله: "والآيات والروايات والأدلة في ذلك لا تحصى". في الواقع تفاوت اللغة في روايات المعصومين (عليهم السلام) واضحٌ وهو أمرٌ طبيعي، ولا يمكن اعتماده في قبول ورفض الرواية، ولم يرِدْ ما يُشير إلى ذلك في رواياتهم، نعم وردت روايات العرض على القرآن والسُنَّة المُحكَمة وما إلى ذلك.
هناك جهتان للمعرفة بالخالق: معرفةٌ إجماليةٌ منجِّزةٌ للتكليف ووجوب الامتثال، وجهةٌ أخرى غير مقدورةٍ للعقل.
هل نبحث في التفاصيل؟ قد نقول: هي غير مقدورةٍ ولا يجوز البحث فيها، وقد نقول: مسكوتٌ عنها، ويصح البحث فيها لكن لا على أن لها دخالةً في الإقرار والامتثال.
عدم المعرفة التفصيلية لا ينفي المعرفة الإجمالية، وقد أورد الإمام (عليه السلام) الكثير من الأدلة في مقام النقض على من قال بلزوم المعرفة التفصيلية، منها العقل والنفس فأنت تعلم بوجودهما لكنك لا تعرفهما تفصيلا.
تنبيه:
تشعر أحيانًا بأن الله قريبٌ عندما يكون التفكير منصبًّا على البراهين، ومن جهةٍ أخرى قد تشعر أنه بعيد، كما إذا طلبت حاجةً ولم تُقضَ لك، وما شابه، ولذلك ينبغي النظر في البرهان والإرجاع إليه، لا النظر بالنظر الآخر المذكور.