بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي دلّ على ذاته بذاته، وأدلّ على مصنوعاته ومخلوقاته بنعوته وصفاته، وبحدوث خلقه على وجوب وجوده وكمال آياته، والصلاة والسلام على محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، الذي عَرَّفه بآثار بيناته ومعجزاته، فَصَدَعَ بالرسالة الغرَّاء، وأبان ما خفي من آثار قدرته، فأرشدهم بها إلى منهج نجاته، وعلى آله الذين عَرَّفَهُم أحكامه ونصَّ عليهم بأنهم حملة كتابه ورؤساء هداته.
اعلم أنَّ أوّل واجب في الدَّين على عامة المكلفين معرفة ربّ العالمين بصفاته الثبوتية والسلبية؛ فمنها التوحيد، وما يلحق بها من المطالب اليقينية. وسنورد على كلِّ ذلك الحجج القطعية والأدلة العقلية والنقلية التي وجدناها من كلمات أهل العصمة (عليهم السَّلام) ومحكمات الآيات.
وقد قال الشيخ المحدث عبد علي بن خلف العصفور: وأنَّ إقامة الدليلِ والحجة فرض على من له الملكة القدسية واللهجة حفظاً للشريعة الغراء عن تطرق شبهة المبطلين ودفعاً لتحريف الغالين؛ لأنَّ العلماء حفظة الدين وحملة شرع سيد المرسلين القادرون على الكشف والبيان وإلزام الخصوم بالحجة والبرهان، والمجادلة بالتي هي أحسن مع أهل الأديان. وقد أمرت الأئمة الأطهار (عليهم السَّلام) خواص شيعتهم الأبرار بذلك.
يكشف عن ما قلناه: أخبار كثيرة صحيحة الورود؛ منها ما روي عن سيدنا وإمامنا الصادع بالحق والناطق جعفر بن محمَّد الصادق أنَّهُ (عليه السَّلام) أمر هشام بن الحكم وهشام بن سالم ومؤمن الطاق بالمجادلة مع أهل الأديان لإحقاق الحق وإزهاق الباطل. فإذا عرفت هذا، اعلم أيدك الله تعالى أنه يجبُ على كل مكلَّف مميز عاقل أنْ يعرف أنَّ الله تعالَى موجود؛ لأنَّهُ أوجد العالم، ولو كان معدوماً لما أوجد غيره بالضرورة؛ وأنَّهُ تعالى باق لاستمرار تجدد صنعه وآثاره، والأثر لا يحدث بنفسه، إلّا بمؤثر يحدثه، فالأثر يدّل على المؤثر، وهو الله تعالَى، ولا يصح تغيره تعالَى عن حاله؛ أعني كونه موجوداً باقياً مؤثراً فيما سواه، وإلّا لكان كسائر خلقه يتغير ويفنى فيكون وجوده مفاضاً من غيره، فيكون حادثاً يحتاج إلى من يحدثه، فلمَّا وجدنا الآثار قائمة، وحوادث الصنع دائمة، دَلَّ على وجود مؤثر باق وهو الله سبحانه وتعالَى .
مثال الاستدلال بذلك: مثل أشعة السراج فإنَّها ما دامت الأشعة موجودة تدّل على وجود محدث لها وهو السراج ولو لم يكن موجوداً لم يوجد شيء منها، والدليل على أن السراج سبب لإحداث الأشعة أنَّها محتاجة إليه في كل حال لا تستغني عنه لحظة واحدة؛ لأنَّها لا توجد بدونه ولا تفقد عند ظهوره، كذلك جميع الخلق التي هي آثاره معه بالنَّسبة إلَى صنعه على هذا النحو ولله المثل الأعلى. انتهى كلامه زيد إكرامه.
شرحه ما ورد عنه قدس سره:
نقول: اعلم أن صفات الذات على قسمين: ثبوتية وسلبية. أما الثبوتية: فهي أيضاً على قسمين: صفات الذات وهي التي يكفي في تحققها وجود الذات، وصفات الفعل وهي التي يتوقف تحققها على وجود الغير، وإذ لا موجود غيره تعالى إلا فعله فالصفات الفعلية هي المنتزعة عن الذات في مقام الفعل، فمن الأول حياته تعالى وعلمه بنفسه، ومن الثاني الخلق والرزق والغفران والإحياء ونحوها.
وربما قيل في الفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية: إنّ كل صفة لا يجوز اجتماعها مع نقيضها فهي فعلية، كــ(الغافر) فإنه تعالى غافر بالنسبة إلى المؤمنين ولا يكون كذلك بالنسبة إلى المشركين. ثم إنّ الصفات الثبوتية الذاتية تكون من الصفات الكمالية؛ لأنها كمال للذات، دون الصفات الفعلية فإنها هي التي يلزم من وجودها كمال، أو من عدمها نقص للموصوف. وعليه، فلا تصلح الصفات الفعلية لأن تكون كمالاً له. نعم هي ناشئة عن كمال ذاته تعالى كما لا يخفى.
وأما الصفات السلبية: فهي تنقسم إلى قسمين أيضاً: صفات الذات مثل أنه تعالى ليس بجاهل، وصفات الفعل مثل أن الله عز وجل ليس بظالم. وبالجملة أنّ الصفات السلبية هي كل صفة لا تليق بجنابه تعالى، ولا تنحصر في ما ذكر في علم الكلام والفلسفة من أنه تعالى ليس بمحدود ولا بمركب وليس بجسم ولا بمرئي ولا بجوهر ولا بعرض ولا يكون في جهة ولا يكون متقيداً بحد وشرط ولا يصحّ عليه الألم واللذة ولا ينفعل عن شيء ولا يكون له كفء ولا شريك وليس بمحتاج إلى غيره لا في ذاته ولا في صفاته ولا يفعل القبيح ولا يظلم، وغير ذلك من الأمور التي لا تليق بجنابه تعالى.
إنّ الأدلة على إثبات الواجب تعالى متعددة مختلفة في جوهرها أو اُسلوبها:
الأول: الفطرة، وهي بحسب اللغة من الفطر وهو بمعنى الخلق، ومنه قوله تعالى (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض). والفطرة كفعلة لبيان كيفية في الخلق كالجلسة، فالمراد من فطرة الإنسان هي كيفية في خلقة الإنسان، وهي ترجع إلى كيفية هويته؛ لأنّ الخلق والمخلوق الإيجاد والوجود حقيقة واحدة، وإنما الاختلاف بينهما بالاعتبار من جهة الإضافة إلى الفاعل والقابل، فالكيفية في الخلق تؤول إلى كيفية في المخلوق.
التي منها: إدراكه بالدرك البديهي. وهذا الذي عبر عنه في المنطق بالفطريات، أي القضايا التي قياسها معها كقولهم: الاثنان خُمس العشرة. وهذا النوع من الإدراك الذي من خصائص خلقة الإنسان يتوقف على تشكيل القياس وأخذ النتيجة، كأن يقال الاثنان إذا كرر خمس مرات صار عشرة، وكل عدد إذا كرر خمس مرات ساوى عدداً آخر فهو خمسه، فالاثنان يكون خمس العشرة، ولذا يكون من أقسام العلم الحصولي لا العلم الحضوري، وسمي الإدراك بـ(فطرة العقل البديهي).
ومنها: إدراكه بقلبه، كعلم النفس بالنفس، فلا يحتاج إلى وساطة شكل قياسي كما لا يخفى، ولذا يعد من أقسام العلم الحضوري، فالإنسان بفطرته يعلم بنفسه ويحب الكمال والجمال وسمي هذا الإدراك بــ (فطرة القلب).
ثم بعد وضوح معنى الفطرة فليعلم أنّ المستدلّ بالفطرة على إثبات المبدأ المتعال وصفاته وتوحيده أراد الفطرة القلبية وقال: القلب يعلم بالعلم الحضوري ربه ويعرفه، والدليل عليه هو رجاؤه بالقادر المطلق عند تقطع الأسباب الظاهرية المحدودة وحبه له وإن غفل عنه كثير من الناس بسبب الاشتغال بالدنيا في الأحوال العادية.
واعلم أن الوجود بما هو موجود إما أن يثبت له الوجود بالنظر إلى ذاته ويقال له الواجب لذاته، ويقال له الممكن بالإمكان الخاص، وهو سلب الضرورة عن كلا الطرفين، ويقال له الواجب لغيره بعد إلباسه حلّة الوجود الزائد على ذاته، وهو لكون الوجود والعدم بالنظر إلى ذاته على حد سواء، لا يثبت لأحدهما رجحان ينتهي إلى حدّ الوجوب كذلك.
فإثباته –أي الواجب- حاصل على جهة الإجمال لقيام الآيات والروايات على الفطرة بحيث لا يحتاج إلى الاستدلال، بل يثبت بأدنى التفات، ولا شك في وجود ممكن بالبداهة والضرورة، ولا بد له من مرجح يكون هو نفسه مستلزماَ لترجيحه، ومجرد اعتباره كان فيه، وغير الواجب لا يثبت له هذا المعنى، بل كونه بحيث لو وجد وجد معلولا، وهذا القدر غير كاف في الترجيح.
وأيضاً: عدم ذلك الوجود في حال وجوده ممتنع لا لذاته، بل لأمر غير ممكن؛ لأن الممكن في حكمه، فيثبت المطلوب.
واعلم أخي المؤمن أختي المؤمنة؛ أنَّهُ عز وجل قديم في وجوده الذي هو عين ذاته وصفاته لم يجرِ عليه العدم في حال ولا يكون مسبوقاً بالغير؛ لأنَّهُ لو لم يكن قديما لكان حادثاً؛ إذ لا واسطة بينهما معقولة، وقد ثبت لوجوب وجوده بأنَّه ليس بحادث فيلزم عنه أنَّه قديمٌ؛ ولأنَّهُ لو لم يكن قديماً لجرى عليه العدم في حالٍ ما، فتختلف أحواله، ومن اختلفت أحواله فهو حادث يحتاج إلى محدث؛ ولأنَّه لو لم يكن قديماً لذاته لكان وجوده مستفاداً من غيره فيكون محتاجاً إلى ذلك الغير وينتفي عنه الوجوب بذاته وهو باطل.
لا يخفى عليك أن مقتضى صرفيته تعالى أنّه لا يعزب عن علمه شيء من الأمور؛ لأن الجهل بشيء فقدان ونقص، وهو ينافي اللا حدّية الثابتة لذاته تعالى. هذا مضافاً إلى أن النظم والتناسب وغيرهما من الاُمور التي تحكي عن علم وحكمة تدلّ على الناظم وحكمته وإن كان لا يخلو الاستدلال به عن شيء، وهو أنه يثبت العلم والحكمة بقدر ما يكون أثرهما موجوداً في الموجودات وهو بالأخير محدود بمحدودية الموجودات، والمطلوب هو إثبات غير المحدود من العلم له تعالى.
ولا يخفى عليك أنَّهُ أوجد العلم في بعض خلقه، وأوجد العالم المتصف، ومن لم يكن عالماً لم يصح منه أنْ يصنع من هو عالم مع علمه؛ ولأنَّهُ صنع الأفعال المحكمة المتقنة الجارية على مقتضى الحكمة بنهاية الاستقامة المشتملة على حقائق الأسرار، وغوامض الإتقان عند ذوي الأبصار ومن لم يكن عالماً لم يصدر عنه مثل ذلك بالضرورة.
وعلمه قسمان (حادث وقديم):
فالقديم: عين ذاته قديم؛ لأنَّهُ لو كان حادثاً كان تعالى خالياً منه قبل حدوثه، ولم يكن عين ذاته فيجب أنْ يكون قديماً.
وأمَّا العلم الحادث: وهو من صفات الأفعال ويعبر عنه بالمشيئة والإرادة والقضاء، وهو الأرواح المخلوقات كالقلم واللوح وأنفس الخلائق، وهذا حادث بحدوث المعلوم؛ لأنَّهُ لو كان قبل المعلوم لم يكن علماً؛ لأنَّ العلم الحادث شرط تحققه وتعلقه، أنّ يكون مطابقاً للمعلوم، وهي بدون وجوده لا تحقق لها، وأنْ يكون مقترناً بالمعلوم، وقبل الوجود لا اقتران هناك، وأنْ يكون واقعاً على المعلوم، وقبل تحققه لا تحقق للوقوع، وهذا العلم الحادث فعله تعالى ومن جملة مخلوقاته.
أنَّهُ تعالى (قادرٌ مختار):
أمَّا أنَّهُ قادر؛ لأنَّ وجود العالم بعد عدمه دل على قدرته؛ لأنَّهُ تعالى غني مطلق، وكلما سواه محتاج إليه في كل شيء لتوقف وجودها على فعله إذ لا وجود لها في نفسها، وإلاّ لاستغنت عنه دائماً بوجودها، ولأجل كونه قادراً على كل شيء أعطاها ما سألته بلسانِ استعدادها، ولو لم يكن قادراً لما أعطى كل شيء خلقه لعجزه عما يحتاج إليه، وكل عاجز محتاج إلى قادرٍ فيكون تعالَى بذلك حادثاً. لنسبة ذاته لجميع الأشياء على السواء، ولو كان موجباً كما زعمه الفلاسفة لم يتخلف شيء من آثاره عنه.
- القدرة: هي تمكن الفاعل _العالم بما في الفعل أو الترك من المصلحة أو المفسدة_ من الفعل وتركه. والقادر: هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل، وإذا شاء أن يترك ترك، مع الشعور والعلم بما فيه من الخير الذي يدعوه نحوه. فالقدرة قد تكون في مقابل العجز، فإنّ من لم يصدر عنه فعل لفقده إياه عاجز عنه، بخلاف من يمكن صدوره منه فإنه قادر بالنسبة إليه.
- إن مقتضى اشتمال القدرة على العلم والشعور بما في الفعل أو الترك هو عدم انفكاك القدرة عن الاختيار الذاتي، بمعنى أنّه ليس بموجب، ويتفرّع على القدرة المذكورة وعدم كونه بموجب إرادة ذاتية لما فيه من المصلحة، وهذه الإرادة والاختيار موجودتان من الأزل وليستا بحادثتين، حيث إنّ فقدان الاختيار بالمعنى المذكور يرجع إلى إمكان صدور الفعل أو الترك عنه بلا دخل له تعالى فيه كالقوى الطبيعية، بل ينتهي إلى سلب صدق القدرة عليه؛ لأنّ القوى الطبيعية العاملة العديمة من الشعور والعلم المؤثّر لا يسمّى قدرة. وفقدان الاختيار نقص، وهو يتنافى مع كونه صرف الكمال، كما تقدّم مرّات عديدة.
أنَّهُ تعالى (واحد لا شريك له):
لأنَّهُ كامل مطلق وغني مطلق، فيكون كل ما سواه محتاجاً إليه فيكون متفردا بالألوهية، ولو فرض معه إله لوجب أنْ يكون مستغنياً عنه وأتم منه في الغناء المطلق، فلو فرض له شريك مستغن عنه نقص في كماله وغناه، فلا يكون له شريك لاستلزام التعدد وحصول النقص في الكمال المستلزم للحدوث والإمكان؛ ولأنَّهُ لو كان له شريك في الأزلية ووجوب الوجود لكان بينهما فرجة قديمة وجودية لتحقق الاثنينية، فيكونون ثلاثة ويلزم الفرجة القديمة بينهم فيكونون خمسة وهكذا بلا نهاية وهو باطل؛ ولأنَّهُ لو كان معه شريك في أزليته لاشتركا في الأزل، واختص كل واحد بما يميزه عن الآخر فيتركب كل واحد منهما مما اشتركا فيه، ومن المميز والمركب حادث ممكن الوجود؛ ولأنَّهُ لو كان معه شريك في أزليته لميّز كل واحد صنعه عن صنع الآخر، وإلّا لم تثبت الشركة ونقصت ذات كل منهما، ولو حصل التمييز لحصل العلو على الآخر، وإلّا لم يكن إلهاً وإليه الإشارة بقوله تعالى: (إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ).
واعلم أنَّ لله تعالى وحدة في أربع مراتب لا شريك له فيها:
الأولى: لا شريك له في ذاتهِ لقوله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ).
الثانية: لا شريك له في صفاته قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
الثالثة: لا شريك له في صنفه لقوله تعالى: (هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ).
الرابعة: لا شريك له في عبادتهِ لقوله تعالى: (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
-إن التوحيد على سبعة اقسام:
1- التوحيد الذاتي: والمراد به هو الاعتقاد بأنه تعالى واحد لا ثاني له كما نص الكتاب العزيز بقوله (ولم يكن له كفوا أحد). سورة الاخلاص4.
2- التوحيد الصفاتي: والمراد به هو الاعتقاد بأن ذاته تعالى عين صفاته، بل كل صفة عين الصفة الاُخرى من الصفات الثبوتية الذاتية الكمالية.
3- التوحيد الأفعالي: والمراد به الاعتقاد بأنّ كلّ ما يقع في العالم من العلل والمعلولات والأسباب والمسبّبات والنظم العادية وما فوقها يقع بإرادته في حدوثه وبقائه وتأثيره، فكلّ شيء قائم به، وهو القيّوم المطلق، ولا حول ولا قوّة ولا تأثير إلا به وبإذنه. وهذا القسم يشمل التوحيد في الخالقية والربوبية والرازقية ونحوها من مظاهر الأفعال، ولا حاجة إلى ذكرها.
4- التوحيد التشريعي: والمراد به هو الاعتقاد بأن التقنين حقّ الخالق والربّ؛ لأنّه يعرف مخلوقاته وصلاحهم، فلا يجوز لغيره تعالى أن يقدم على ذلك، فالأنبياء والرسل نقلوا ما شرعه الله ولم يقدموا على التشريع إلَّا فيما أذن الله تعالى لهم.
5-التوحيد العبادي والإطاعي: والمراد به هو الاعتقاد بأنه تعالى مستحقّ للعبادة والإطاعة لا غير؛ وسبب ذلك هو التوحيد الذاتي والأفعالي، فهو تعالى لكونه واحداً كاملاً وخالقاً ورباً؛ ولأن كلّ الاُمور بيده دون غيره استحقّ انحصار العبادة والإطاعة المطلقة له جلّ شأنه.
6- التوحيد الاستعاني: والمراد به هو أن لا يستعين العبد في اُموره إلا به تعالى، وهو أثر الاعتقاد الكامل بالتوحيد الأفعالي، ولعلّ إليه الإشارة بقوله تعالى: (إياك نعبدُ وإياك نستعين).
7- التوحيد الحبّي: والمراد به أنّ من اعتقد بأنّ كلّ كمال وجمال منه تعالى أصالةً فلا تليق المحبة منه أصالةً إلَّا له تعالى.
لا يخفى عليك أنّ مقتضى الأدلة السابقة الدالة على إثبات المبدأ المتعال هو أنه تعالى واجب الوجود ومطلق وصرف، فإذا كان كذلك فخصائص الممكنات مسلوبة عنه؛ لمنافاتها مع وجوب وجوده إطلاق كماله، فإذا كانت الخصائص المذكورة منفية عنه فواضح أنه ليس بجسم ولا مركب ولامرئي ولا صورة ولا جوهر ولا عرض، كما أنه لا ثقل ولا خفة ولا جهة ولا قيد ولا شرط ولا حركة ولا سكون ولا نقصان ولا مكان ولا زمان له؛ لانّ كل هذه الأمور من لوازم ذاته بالصفات الكمالية، فإن سلب أحد النقيضين في حكم إثبات النقيض الآخر، وإلا للزم ارتفاع النقيضين، وهو محال.
فإذا كان واجب الوجود مسلوباً عنه النقائص والعيوب فهو لا محالة يكون صرف الوجود وصرف الكمال وغنياً ومستقلاً في ذاته، وثابتاً ومطلقاً وواجداً لجميع الأوصاف الكمالية، وإلا لزم المحدودية وهي من صفات وخصائص الممكنات.
أنّهُ تعالى (سميع بغير آلة سمع بصير بغير أداة بصر وجارحة):
وقال: أمَّا أنَّهُ سميع؛ فلأن كل ما سواه متقوم بأمره صادر عن صنعه أمَّا بالذات أو بالتقدير ومن جملتها المسموعات، فهي حاضرة عنده في ملكه الذي أقامه بقيومة أمره، وفعله كما قال تعالى (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ). فسمعه للمسموعات عبارة عن حضورها لديه، وعلمه بها على ما هي عليه، وليس ذلك العلم حاصلاً له بواسطة آلة، وإلّا لكان محتاجاً إليها في إدراكه المسموعات، وقد ثبت أنَّهُ الغني المطلق، وإنَّما علمها بحضورها لديه حال كونها قائمة بأمره، وليس لها حال غير ذلك وإلّا لتقومت بنفسها من دون أمره وهو باطل، وهذا الحضور علمه بها الحضوري وهو سمعه الحضوري.
وأمَّا سمعه القديم فذاته ومحيطٌ بها في أماكنها لا في ذاتهِ تعالى أن يكون محلاً للحوادث، والكلام في بصره كالكلام في السمع في جميع الأحوال، وسمعه وبصره القديمان؛ أعني علمه الذاتي هو عين الذات بلا تعدد، إلّا في اللفظ كالعلم؛ لأنَّ السمع والبصر والعلم شيء واحد، ومتعلقها حادث، ومتعدد فإنَّ المسموع هو الأصوات، والبصر هو الألوان والمعلوم هو الموجود.
أقول: وجود العالم بعد عدمه كما هو دليل ثبوت القدرة هو دليلٌ أيضاً على ثبوت الاختيار في القدرة على معنى: أنَّه تعالى يصح منه فعل العالم وتركه، وبطل القول بالإيجاب كما زعمته الفلاسفة القدماء، فإنهم قالوا: أن الواحد الحقيقي الذي لا تكثر فيه بوجه من الوجوه لا يصدر عنه إلا واحد. وأثبتوا الواسطة وهو (انفعال) العقل، وتحقق الواسطة غير معقوله وبيانه؛ أن تأثيره للعالم لو كان بطريق الإيجاب للزم قدم العالم وشواهد الحدوث في العالم تنادي بأفصح مقال، لتركبه، واحتياجه، وتغيره من حال إلى حال، ودعواهم الواسطة غير مقبولة لذوي العقول والألباب؛ لأن ذلك القادر الذي هو الواسطة في إيجاد باقِ الممكنات، هو من جملة العالم الحادث وليس من أثر الموجب يجاوُز.
قال: أنَّهُ تعالَى لا يدرك بشيء من الحواس الظاهرة كـ (السمع والبصر، والذوق، والشم، واللمس، ولا من الحواس الباطنة كـ(الحس) المشترك، والخيال، والمتصرفة، والواهمة، والحافظة) لأنَّهُ عزَّ وجل لا يشابه شيئاً منها، ولا يجانسه، والشيء إنَّما يدرك ما هو من جنسه، ويشابهه كما قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام): (إنَّما اتحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها)، وقال تعالَى:(لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) وقال تعالَى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) وذلك؛ لأنَّ الحواس الظاهرة، والباطنة إنَّما تدرك المحدود، والمكيف، والمصوَّر، والمميَّز، وهو تعالَى لاحدَّ له، ولا كيف له، ولا صورة له، ولا مميَّز له، تعالَى الله عن جميع صفات خلقه علواً كبيراً.
نقول: أن النزاع في إمكان رؤية الله ووقوعها قديم فبعض الطوائف كالسلفية والأشاعرة قالوا: أنها ممكنة في الدنيا والآخرة ويستدلون على ذلك من قوله تعالى(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ).
نقول: أولاً: إنَّ مشاهدتهُ بالعين الظاهرة تستلزم جسمانيتهُ، والوجود في المكان، والكيفية والحالة الخاصة وجود جسماني، ونعلم أنَّ ذاتهُ المقدّسة منزَّهة عن مثل هذا الاعتقاد الملوث، كما اعتمد القرآن هذا المعنى في آياته مرات عديدة، منها في سورة الأنعام قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) وهذه الآية مطلقة لا تختص في الدنيا. على كل حال فإن عدم النظر الحسي إلى الله تعالى أمرٌ واضح كما ورد عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) إذ قال: "إذا دخل أهل الجنّة الجنّة يقول الله تعالَى تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنّة وتنجينا من النار؟ قال:" فيكشف الله تعالًى الحجاب فما أعطوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر إلى ربّهم". والظريف هو ما ورد في حديث عند أهل العامة عن أنس بن مالك، عن النبي (ص) قال: "ينظرون إلى ربّهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة معلومة". وهذا الحديث تأكيد على المشاهدة الباطنية لا العينية.
وقد ورد عن مولانا الإمام الصادق (عليه السَّلام) في تفسير هذه الآية المشار إليها "إنهم ينظرون إلى رحمة الله ونعمته وثوابه"؛ لأن النظر إلى ذلك هو بمثابة النظر إلى ذاته المقدّسة.
ثانياً: أما الأدلة العقلية على نفي الرؤية البصرية فهي كثيرة منها:
إن كلّ ما يمكن أن يراه الإنسان أو يتخيله أو يتصوره لا بُدَّ أن يكون محدودا، بالشكل، أو بالحجم، أو باللون، أو بالزمان، أو بالمكان. وجميع المخلوقات التي نعرفها والتي لا نعرفها، نراها أو نراها هي محدودة بهذه الحدود أو ببعضها. وما دامت هذه صفات المخلوقات فإنَّهُ يستحيل أن تكون من صفات الخالق.
ورؤية الله تبارك وتعالَى تستلزم شروطا منها:
أن يكون محدودا بجهة معينة، أو صفة أو شكل معين، حتى تتوجه إليه الأبصار، وهذا مستحيل في حق الله تعالى؛ فمن صفاته تعالَى أنَّهُ: قديم بلا بداية، باق بلا نهاية، منزه عن الشكل واللون، لا يحويه زمان ولا مكان، لأنَّهُ هو الذي خلق الأشكال والأحجام والألوان و الزمان والأمكنة، وهو منزه عن الجهات والاستقرار، وليس له صورة على النحو الذي يمكن أن يتغير من شكل إلى آخر. ومن صفاته تعالى: أنَّهُ الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر ليس بعده شيء، وهو الظاهر ليس فوقه شيء، وهو الباطن ليس دونه شيء، لا يشبه شيئا من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. فكيف يمكن أن يتصور أو يتخيل أو يرى.
وإن كثيرا من الأشياء التي خلقها الله في هذا الكون لا يراها الإنسان، فنحن لا نستطيع رؤية الأشعة السينية، ولا الأشعة فوق البنفسجية، ولا الأشعة تحت الحمراء، كما لا نستطيع رؤية الكهرباء التي تسري في الأسلاك، ولا الجاذبية والروائح والأصوات، ولكن نؤمن بها وندرك تأثيرها في الأشياء حولنا؛ أمَّا حقيقتها فيعلمها الله تعالى. وكذلك نؤمن بوجود الله وقدرته دون أن نراه.
بقلم: ش محمَّد مهدي العصفور