من طبيعة أحداث التاريخ البارزة أنها تفرز عددا من التساؤلات من واقع الحدث، وقد تتوسع مع الوقت دائرة هذه التساؤلات، كما أن بعضها قد يتحول من مجرد تساؤل إلى إشكالية قائمة بفعل حالة التشظي التي تنطلق من هذا التحليل أو ذاك مما يطرح حول جزئية معينة في الحدث، وهذا ما حصل في بعض ما قدم من قراءات حول النهضة الحسينية المباركة، حتى قيل عن الإمام (ع) بأنه ألقى بيده إلى التهلكة إذ خرج عالما بمقتله ومقتل أهل بيته وأصحابه، ليكون بذلك -كما هي الدعوى- قد وقع في محضور مخالفة الآية القرآنية المباركة: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، وهذا القول يعد اشتباها واضحا وفق عقيدة مدرسة أهل البيت (ع)، والجواب عنه يقع في وجوه، منها:
الأول: جاء في أحاديث الأئمة الأطهار (ع) أن التهلكة في الآية هي إفقار الإنسان نفسه عبر إنفاق كل أمواله ولو في وجوه الخير، ففي كتاب الكافي الشريف عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: (لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن ولا وفَّق، أليس يقول الله تعالى: "وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" يعني المقتصدين).
إن الرواية المتقدمة تفسر التهلكة الواردة في الآية بغير ما فهمه المستشكل، وعلى هذا فإن قلنا أن الرواية بصدد تعيين المعنى لا بصدد بيان أحد مصاديقه فإن تطبيق الآية على خروج الإمام الحسين (ع) يكون تطبيقا على مورد أجنبي أصلا.
الثاني: وهو وجه ذكره الشيخ الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان)، وحاصله أن الإمام الحسين (ع) كان يظن أن بني أمية سوف يحفظون فيه رسول الله (ص) ولن يقتلوه لمكانه منه، وكان الشريف المرتضى قد ذكر في كتابه (تنزيه الأنبياء) وجها يؤول في جوهره إلى هذا الوجه حاصله أن الإمام (ع) كان قد غلب على ظنه أنه سوف يصل إلى حقه، غير أن الأحداث قد سارت على خلاف هذا الظن.
إلا أن ما ذكره العلمان الجليلان في المجمع والتنزيه ينقض عليه بأنه يفضي إلى القول بعدم علم الإمام (ع) بشهادته، وهذا لا يلتقي مع ما يسلم به الإمامية -استنادا إلى روايات مستفيضة- من علم الأئمة (ع) بالغيب، كما أنه لا يلتقي كذلك مع ما جاء عن الإمام (ع) من قوله: (وخير لي مصرع أنا لاقيه) وقوله: (شاء الله أن يراني قتيلا) وقوله: (من لحق بي استشهد).
الثالث: أن التهلكة في الآية هي ترك إنفاق المال على الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو وجه ذهب له جملة من المفسرين منهم الطنطاوي في تفسيره (الوسيط) والطبري في تفسيره الشهير (جامع البيان في تأويل القرآن)، كما ذكره أيضا العلامة الطباطبائي في تفسير (الميزان) ضمن مصاديق التهلكة التي عنتها الآية.
وهذا وجه غير مستبعد، لأن هذه الآية التي نحن بصددها (١٩٥ سورة البقرة) جاءت بعد خمس آيات (١٩٠ - ١٩٤) تتحدث عن الجهاد في سبيل الله تعالى.
الرابع: أن الإمام الحسين (ع) كان عالما بشهادته حين خرج للعراق، غير أن خروجه ليس إلقاء للنفس في التهلكة، لأن الهلاك المنهي عنه هو ما كان نتيجة للسير في طريق لا يرضى به الله دون العكس، وهو (ع) سار في طريق رضا الله مقتفيا سيرة جده النبي وأبيه الوصي (عليهما الصلاة والسلام) وهو العارف بها حق المعرفة، ولذا كان رسول الله (ص) يدعو الأمة لنصرة الحسين (ع) في كربلاء وهو لايزال حينها صغير السن، فقد كان يقول (ص): (إن ابني -يعني الحسين- يقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد منكم ذلك فلينصره)، ومن علماء المسلمين الذين رووا هذا الحديث في مصنفاتهم ابن كثير في البداية والنهاية وابن الأثير في أسد الغابة وابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق والمتقي الهندي في كنز العمال.
صادق القطان
٩ يوليو ٢٠٢١م