تقريرات موجزة: درس (الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة) - الشيخ الحرُّ العاملي (قدِّس سرُّه) {12}.
الأستاذ: السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي.
المقرِّر: محمود أحمد سهلان العكراوي.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب 19 - أنَّ الله سبحانه لا تراه عينٌ ولا يدركه بصرٌ في الدنيا ولا في الآخرة، ولا في النوم ولا في اليقظة:
قد مرَّ أصل هذه المسألة في الأبواب السابقة وما يأتي تفصيلاتٌ فيها.
{118} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن محمَّد بن أبي عبد الله، عن عليِّ بن أبي قاسم، عن يعقوب بن إسحاق، قال: كتبتُ إلى أبي محمَّدٍ (عليه السلام) أَسأله كيف يَعبد العبد ربَّه وهو لا يراه؟ فوقَّع (عليه السلام): جلَّ سيدي ومولاي والمُنعِم عليَّ وعلى آبائي أنْ يُرى. قال: وسألته هل رَأَى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ربَّه؟ فوقَّع: (عليه السلام): إنَّ الله تبارك وتعالى أَرَى رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) بقلبه من نور عظمته ما أحبَّ.
وفي روايةٍ أخرى قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "كيف أعبدُ ربًّا لا أراه؟"، لكنْ بيَّنَ الرؤية وقال هي قلبيَّة.
في هذه الرواية أجاب الإمام (عليه السلام) بما تُفيده الصفات، فقال (عليه السلام): "جلَّ سيدي ومولاي والمُنعِم عليَّ"، بالجلال، والإنعام، والإنعام المُطلَق يستفاد منه الغنى المُطلَق، ومن هذه الصفات والأسماء يُفهم أنَّه لا يمكن أنْ يُرَى.
نعم، كما في التوقيع الثاني، يمكن أنْ تَرى من نور العظمة لا نفسَ الخالق تعالى، وهذا النور لا يُشبعُ منه، ولكنْ لا يُمكِن تجاوز هذا الحد، حتى لو كان أعظم مخلوق، وهو رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
{119} الرواية الثانية: وعن أحمد بن إدريس، عن محمَّد بن عبد الجبار، عن صَفوان بن يحيى، قال: سألني أبو قرَّة المحدِّث أنْ أُدخلَه إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فاستأذنته في ذلك فأذِنَ لي فدخل عليه، فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بَلَغَ سؤاله إلى التوحيد، فقال أبو قرَّة: إنَّا رُوينا أنَّ الله قَسمَ الرؤية والكلام بين نبيِّيَن، فقَسمَ الكلام لموسى ولمحمَّدٍ الرؤية؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): فمن المُبلِّغ عن الله إلى الثقلين من الجنِّ والإنس: {لا تُدرِكُه الأبصار} و {لا يحيطونَ بِهِ عِلمًا} و {ليسَ كمِثلِهِ شيء} أليسَ محمَّد؟ قال: بلى، قال: كيف يَجيءُ رجلٌ إلى الخلق جميعًا فيُخبِرهم أنَّه جاء من عند الله، وأنَّه يدعوهم إلى الله بأمرِ الله فيقول: {لا تُدرِكُه الأبصار} و {لا يحيطونَ بِهِ عِلمًا} و {ليسَ كمِثلِهِ شيء} ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأَحطتُ بِهِ عِلمًا وهو على صورة البَشَر! أَمَا تستحون؟ ما قَدرَتِ الزنادقة أنْ ترميه بهذا، أنْ يكونَ يأتي عن الله بشيءٍ ثمَّ يأتي بخلافه من وجهٍ آخر، ثمَّ قال أبو قُرَّة: فإنَّه تعالى يقول: {ولَقدْ رَآهُ نَزلَةً أخرى}، فقال أبو الحسن (عليه السلام): إنَّ بعد هذه الآيةِ ما يدلُّ على ما رأى حيثُ قال: {ما كَذَبَ الفؤادُ ما رَأَى}، يقول: ما كَذَبَ فؤادُ محمَّدٍ ما رأتْ عيناه ثمَّ أَخبَرَ بما رأى، فقال: {لَقدْ رَأَى من آياتِ رَبِّهِ الكُبرَى} فآياتُ الله غيرُ الله، وقد قال الله: {ولا يُحيطونَ بِهِ عِلمًا}، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطتْ بِهِ العِلْم وَوَقَعَت المعرفة. فقال أبو قرَّة: فتُكذِّب بالروايات، فقال أبو الحسن (عليه السلام): إذا كانتِ الرواياتُ مخالفةً للقرآن كذَّبتُها، وما أَجْمَعَ المسلمون عليه أنَّه لا يُحاطُ به عِلْمًا، ولا تُدرِكه الأبصار، وليس كَمِثلِه شيءٌ.
أبو قرَّة: من محدِّثِي العامَّة.
يدَّعي أبو قرَّة أن الله خصَّ موسى (عليه السلام) بالكلام، ومحمَّدًا (صلَّى الله عليه وآله) بالرؤية؛ أيْ رؤيةِ الله تعالى، وردَّ الإمام الرضا (عليه السلام) كلامه بما بلَّغه الرسول (صلَّى الله عليه وآله) عن الله تعالى.
والكُبرى في المقام أنَّ الإنسان لا يَرَى الله تعالى، وقد جاء بهذا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يُبلِّغ الناس به وهو منهم، والمقام مقام جوابٍ على أبي قرَّة لا بحثًا في التوحيد وعدم الإحاطة العلمية بالله.
استشهد (عليه السلام) بالآية الكريمة: {لا يُحيطونَ بِهِ عِلمًا}، وأراد من العلم: العلم الذي لا يكون إلا بالإبصار، فهو علمٌ خاصٌّ، لا أنه لا عِلمَ إلا بالإبصار. ثم بقوله تعالى: {ليسَ كَمِثلِهِ شيء}؛ لأنَّ الأمثال التي بالذهن مصدرها البصر، وكلامنا هنا في خصوص الإبصار، فإنْ قال النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) أنا رأيته بعيني كما يدَّعون فهو نقضٌ للكبرى التي ذكرناها.
قوله (عليه السلام): "أَمَا تَستَحون ... من وجهٍ آخر"، ما جئتم به حتى الزنادقة لم تقدِرْ عليه، وهذا الأسلوب من الإمام (عليه السلام) نوعٌ ومستوًى من أنواع ومستويات الرد، فقد يكون الجواب أحيانًا للتنوير، وأخرى للتقريع، وفي غيرها بين الاثنين، والردُّ هنا كان تقريعًا إلى أبي قُرَّة وأمثاله، حيث جعلوا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) متناقضًا بين أقواله وأفعاله، وذلك -أيْ التقريع- كان بعد نقض كلامه أولًا.
حاول أبو قرَّة الردَّ من خلال آيات القرآن وبالتحديد بقوله تعالى: {ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخرَى}، وهو دَيْدَنُهم في مثل هذه المقامات، حيث يَعْمَدون لاستعمال الآيات التي تبدو واضحةً في مراداتهم، وفي محلِّ الكلام الوضوح في كلمة (رآه).
المتبادَر من الرؤية هي الرؤية البصرية، كما بيَّن الإمام في الرواية حيث قال: "ما كَذَّبَ فؤادُ محمَّدٍ ما رأت عيناه"، فلم يكذِّب الفؤاد ما رآه الرسول (صلَّى الله عليه وآله).
قد تحصل الشبهة في أنَّ ما رآه الرسول (صلَّى الله عليه وآله) هو الله تعالى، وذلك من خلال إرجاع الضمير في (رآه) على الله تعالى، أما قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى من آياتِ رَبِّهِ الكُبرَى}، فيكون أمرًا آخر لا ينفي رؤية الله.
تنبيه:
لا نقول أنَّ اعتماد اللغة العربية غيرُ صحيح، لكنَّها لا يُفسَّر بها النص، إنما يُفسَّر النصُّ بالظاهر، وباللغة يستقيم كلامنا نحن، ولا ننفي أنَّ القرآن خاضعٌ للُّغة العربية، لكنَّ بعض المُضمَرَات يبيِّنُها المعصوم دون غيره، وقد نقف على الكثير من الآيات التي هي في جانبٍ من جهة اللغة والإمام (عليه السلام) في جانبٍ آخر، فيُفسِّر خلاف القاعدة اللغوية.
كيف تَعامَلَ الإمام (عليه السلام) مع إشكال أبي قرَّة؟
قال أنَّ في الآيات ما يدلُّ على الذي رآه الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، ولكنْ لو لم يُوجدْ هذا في الآية، هل يُقِرُّ الإمام ما قال به أبو قرَّة أم لا؟ فالإيراد على إشكال أبي قرَّة هو: أنَّ بعد هذه الآية ما يدلُّ على ما رأى، ولم يكذِّب فؤاده بما رأت عيناه، إلى آخر الرواية.
لكنَّ أبا قُرَّة ظلَّ متمسِّكًا بما قاله، وهو عربي، ولم يُجِبه الإمام ببساطةٍ بإرجاع الضمائر، وباللغة العربية، لكنْ أجابه بأنَّ الروايات التي تستند عليها مخالفةٌ للقرآن، والذي أَجْمَعَ عليه المسلمون، والذي يُفيدُ عدم القدرة على رؤيته والإحاطة به.
فلو تمسَّكنا بما قاله أبو قُرَّة وقارنَّا بينه وبين الآيات الأخرى لوَقَعَ التناقض في القرآن الكريم.
نريد أنْ نفهمَ طريقة إجابة الإمام (عليه السلام) على أبي قرَّة، فهناك رواياتٌ أخرى يُجيب الإمام فيها بشكلٍ مختلف، كما لو كان السائل من المؤمنين، أمَّا في ما نحن فيه فالكلام مع محدِّثٍ من المخالفين، يُثبِت رؤية رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لربِّه، بإرجاع الضمير في الآية لله سبحانه وتعالى.
أجابَ الإمام (عليه السلام) بآياتٍ أخرى، فالرؤية قد تكون الرؤية البصرية، وقد تكون الرؤية القلبية، فإمَّا أنْ يكونَ الفؤاد لم يكذِّب ما رأى البصر، أو أنَّه لم يكذِّب ما رأى هو نفسه، ولكنَّ الإمام يصرِّح أنَّ الرؤية بصرية، ولو سلَّمنا بما قُلتَ يا أبا قُرَّة قلنا أنَّ الآية الأخرى تبيِّن أنَّ المقصود ليس هو الله تعالى، بل المرئيُّ هي آياتٌ من آيات الله تعالى، والتوقُّف إنَّما كان في الضمير حيث قال (رآه) ولم يقل (رآها)، مع أنَّ الإمام يقول أنَّ المرئيَّ هي الآيات.
والتوجيه يكون بالقول أنَّه (صلَّى الله عليه وآله) رأى الله تعالى، لكنْ رآه من خلال آثاره، لا رآه هو، لأنَّه تعالى لا يُرى.
ثم يكرِّر الإمام (عليه السلام) الآيات التي سبق أنْ ذكرها، وكلُّها راجعةٌ لبحثٍ كلاميٍّ عقليٍّ، فإذا أثبتنا الاستحالة العقلية، نُوجِّه ما يظهر منه مخالفة هذا الثابت عقلًا.
مع كلِّ ما قاله الإمام (عليه السلام) لم يصدِّق أبو قُرَّة، لأنَّه صاحب أصولٍ خاصَّةٍ، وهي ما رواه عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، بل استنكَرَ على الإمام تكذيبه برواياته، لكنَّ الإمام أرجعه لقواعد ردَّ من خلالها الروايات، وهي مخالفتها للقرآن، وما أَجْمَعَ عليه المسلمون من عدم إمكان الرؤية.
تنبيه:
كلُّ شيءٍ نُبالغ في استعماله وممارسته في مقام الفهم لا يكون صحيحًا، سواء كان لغةً، أو أصولًا، أو منطقًا، أو غير ذلك، فعندما نأتي للنصِّ ينبغي أولًا أنْ نحاولَ فَهمَه بأنفسنا، ولا نُلغي فهمنا، ثم نَرجع للعلوم التي نحتاجها في المقام، وهي ممَّا لا يُستغنى عنه، ولكنَّنا نقدِّم الفهم لغرض منهجي يؤثِّر في فهمنا النص.
{120} الرواية الثالثة: وبالإسناد عن صفوان، عن عاصم بن حميد، قال: ذاكرتُ أبا عبد الله (عليه السلام) فيما يَروون من الرؤية، فقال: الشمسُ جزءٌ من سبعين جزءًا من نور الكرسيِّ، والكرسيُّ جزءٌ من سبعين جزءًا من نور العرش، والعرش جزءٌ من سبعين جزءًا من نور الحجاب، والحجاب جزءٌ من سبعين جزءًا من نور الستر، فإنْ كانوا صادقين فليملئوا أعينَهم من الشمس ليسَ دونها حجاب.
أراد عاصم بقوله: "فيما يَروُون من الرؤية"، ما يرويه العامَّة في ذلك، وأراد من الإمام (عليه السلام) أنْ يُعطيَهُ رأيه فيها.
الكلام في الرؤية بالبصر، وهذه الشمس متوهِّجةٌ ولا أستطيع النظر فيها، فهل يكون الخالق متوهِّجًا أكثر منها بالضرورة؟ لماذا لا أتمكَّن من رؤية الخالق إذا لم أتمكَّن من رؤية الشمس؟
صيغة الأمر في قوله (عليه السلام): "فليملئوا أعينهم"، يُراد بها التعجيز والتسخيف، وليس المراد منها هنا كشف الحقيقة، إذْ لصيغة الأمر موارد متعدِّدة.
الإمام (عليه السلام) حقٌّ مُطلقٌ، لكنَّنا لو قلنا أنَّ الاستدلال من الإمام (عليه السلام) في الرواية غير صحيحٍ لا يضرُّ بالرواية أو بعصمته (عليه السلام)، ولا نقول أنَّ الإمام (عليه السلام) -والعياذُ بالله مُخطئٌ- فهو ناظرٌ إلى مقامٍ معيَّنٍ، وينبغي مراعاة ذلك في فهم النص.
أين نجد جواب إمكان رؤية الله تعالى؟
فلننظر في التالي: ما هي قيمة الرؤية البصرية؟ هل العين هي التي تميِّز؟ ماذا لو تمكَّنا من التمييز عبر أسلاك؟ لا أحتاج للباصرة حينئِذٍ.
في الواقع الحواسُّ مساعدةٌ للذهن لا أكثر، فليستْ هذه إلا طُرق من أجل الذهن، والعمليات التحليلية تكون في الذهن، فلا قيمة للباصرة لولا هذا الدور.
الآن، هل الله تعالى وجودٌ متشخِّصٌ بالمعنى الماديِّ أم لا؟ فإنْ كان في جهةٍ، فهو في جهةٍ ويُرى وُجد البشر أو لا، أمَّا من جهة رؤية الإنسان له تعالى، فنقول: لِمَ تبحثوا هذه المسألة؟ في الواقع هذا مبحثٌ لا قيمة له، لكنَّنا اضطُرِرْنا إليه بسبب روايات وادِّعاءات المخالفين القائلة بإمكان الرؤية.
الغاية من الإبصار هي حصول العلم، فإذا حصل العلم بالله تعالى، لماذا تتعلَّقون بالرؤية البصرية؟
فالمسألة محسومةٌ بالعقل في الفلسفة والكلام، وكذلك بالنصوص، فلا معنى لهذا التمسُّك بالرؤية، وهو سبحانه محض العلم.
إذا كُنتَ تُريد الرؤية والعلم بالله والإحاطة به من خلال الباصرة، وأنت لا تستطيع تحقيق العلم بالشمس، بسبب توهُّجِها، إذِ الطريق إليها هي الباصرة، وهذه فيها جزءٌ من النور الإلهي، فكيف تريد أنْ تَرَى الله بالعين، وتُحيط به عِلمًا عن طريقها؟!
إذا أردت معرفة الكرسيِّ، فلا بدَّ أنْ تعرف الشمس، لأنَّها جزءٌ من سبعين جزءًا منه، فمن معارف الكرسي ما هو موجودٌ في الشمس، فكيف تتمكَّن من المعرفة على هذا؟
اعتمد الإمام (عليه السلام) التعجيز بالإبصار لأنَّهم قالوا أنَّ البصر هو الطريق إلى الحقيقة، لا أنَّ هذه الرواية في مقام بيان الحقائق، أمَّا الحقائق فنجدها في رواياتٍ أخرى خاصةٍ بالمؤمنين.
وقد جاء هذا الأسلوب التعجيزي في القرآن الكريم كذلك، كما في قوله تعالى: {فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23].
مقدَّمةٌ للروايات الباقية من الباب:
تحقُّق معرفة الشيء يُغني عن الحاجة إلى طريقٍ آخر نسلكه لمعرفته، فإذا وُجِد هذا الشيء في ذهني أو نفسي فلا حاجة حينئذٍ للباصرة أو غيرها من الحواس، فهي مجرد طُرقٍ لمعرفة الأشياء، ثم تبقى الصور التي تحصل عن طريقها في الذهن، فلا تحتاج بعدها للباصرة أو غيرها من الحواسِّ إلا إذا أردتَ أنْ تعرف حيثياتٍ أخرى في الشيء.
{121} الرواية الرابعة: وعن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عليِّ بن مَعبَد، عن عبد الله بن سِنان، عن أبيه، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) في حديثٍ، أنَّ رجلًا سأله: أيُّ شيءٍ تَعبُد؟ قال: الله، قال: أرأيته؟ قال: لمْ تَرَهُ العيون بمشاهدة الأبصار، ولكنْ رأته القلوب بحقيقة الإيمان، لا يُعرَف بالقياس ولا يُدرَك بالحواسِّ ولا يُشبَّه بالناس.
ما دام قد رأته القلوب فما حاجتي للبصر، وكلُّ ما تراه عيناك فهو خِلافُه ولا قياس عليه؟
قال (عليه السلام): "رأته القلوب بحقيقة الإيمان"، فما هي حقيقة الإيمان؟
حقيقة الإيمان هو الاعتقاد الصحيح، ومن موارد معرفة الإيمان وحقيقته في النفس، هو عندما تجد نَفْسَك من غير رقيب، يأتي الشيطان، فإذا كنتَ تستحضر الله وتَحذَر وتُراقب نفسك حينها، أو إذا كنتَ ستقول كلمةً فتردَّدت فيها خوفًا من الله تعالى، هذه الرقابة تُبيِّن وجود حقيقة الإيمان في النفس، والسعي ينبغي أنْ يكون في تقوية هذا الجانب، وفي حال خالف أحدٌّ هذا الحال فهذا يؤكِّد وجود خللٍ في إيمانه.
معرفة الله تعالى على مستويات، فكلَّما اشتدَّ الإيمان واشتدَّت المعرفة اشتدَّت الرقابة.
أمَّا الأدلَّة العقلية والبرهانية فهي ليستِ الإيمان ولا علَّةً تامَّةً للإيمان، بل هي من مقتضياته.
أما الحواسُّ فليس لها دخلٌ في معرفة الله تعالى كما قال (عليه السلام) في ذيل الرواية.
{122} الرواية الخامسة: وعن عِدَّةٍ من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن أحمد بن محمَّد بن أبي نَصْر، عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: جاءَ حِبرٌ إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أميرَ المؤمنين هل رأيتَ ربَّك حين عبدته؟ قال: فقال: وَيْلَك لمْ أكنْ لأعبدَ ربًّا لمْ أَرَه، قال: وكيف رأيته؟ قال: وَيْلَك لا تُدرِكه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكنْ رأته القلوب بحقائق الإيمان.
في ردِّ أمير المؤمنين (عليه السلام) دلالةٌ واضحةٌ على عدم ضرورة الرؤية البصرية للمعرفة.
فائدة:
إذا كانت تجمعني علاقةٌ قويةٌ مع أحد المؤمنين، وكُنتُ أعلم بحقيقة مكانتي في قلبه، فلست أجد ضررًا على تلك المكانة أو أتوجَّس خوفًا فيما لو انقطع تواصله معي بعض الوقت، وفي نفس هذا المعنى وَرَدَتْ روايةٌ عن أهل البيت (عليهم السلام)، وذلك لأنَّ المحبة موجودةٌ في القلب، نعم نفرح عند اللقاء لكنَّ الغياب لا يؤدي لحالةٍ سلبيةٍ وتراجعٍ مع وجود هذه الحقيقة في القلب.
توضيحٌ في معنى الرؤية:
نأتي أولًا ونرى هذه الكلمة وُضِعت لماذا، فإن وُضِعت للعين الباصرة فاستعمالها دون شكٍّ في رؤية القلب مجاز، لكنَّه في الواقع خلاف التحقيق، لأنَّ أصل الوضع -ولا نقصد الأقسام الأربعة التي ندرسها في الأصول- ما نُقِلَ إلينا، فهناك أمورٌ منشؤُها الحِكمة الإلهية، فوُضِعت ألفاظٌ لمعانيها بقوةٍ خُلِقت مع الإنسان، ومن هنا جاءت نظريةٌ -دقيقةٌ- تقول: أنَّ الألفاظ وُضِعت لمعانٍ لا لمصاديق، ثم جاء الإنسان وطبَّق الألفاظ على مصاديق المعنى، وصار الاستعمال حقيقيًا في أجلى المعاني، وبالتالي صفة الحقيقة والمجاز مسألةٌ إداريةٌ تنظيميةٌ عند الناس، وإلا فكلُّ الاستعمالات حقيقية.
إذا جاءت الرواية واستعملت لفظة الرؤية، فهل نحملها على المجاز أو الحقيقة؟ الجواب يعتمد على ما نذهب إليه، والمشهور أنَّ الرؤيةَ رؤيةُ البصر، وقد يُثبِت بعضهم في معاجم اللغة أنَّ رؤية القلب رؤيةٌ حقيقيةٌ أيضًا.
تنبيه:
عند النظر في أيِّ مسألةٍ تمرُّ علينا في أيِّ عِلمٍ، لا بدَّ لنا أنْ نسأل عن منشأ المسألة، لا أنْ نكتفي بما قاله السابقون علينا، ففي مسألة الوضع مثلًا، نجد أنفسنا نفكِّر من خلال الألفاظ، فنسأل كيف وُضِعت الألفاظ للمعاني؟ والذي وضع الألفاظ لهذه المعاني كيف كان يُفكِّر قبل وضع الألفاظ؟ من هنا ينبغي أنْ يبدأ البحث.
{123} الرواية السادسة: محمَّد بن عليِّ بن الحسين في الأمالي، عن الطَالقاني، عن ابن عُقدَة، عن المنذِر بن محمَّد، عن عليِّ بن إسماعيل المِيثَمي، عن إسماعيل بن الفَضْل، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمدٍ الصادق (عليه السلام) عن الله تبارك وتعالى، هل يُرَى في المعاد؟ فقال: سبحان الله وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، يا ابنَ الفَضْل إنَّ الأبصار لا تُدرِك إلا ما له لونٌ وكيفيةٌ، والله خالق الألوان والكيفية.
إسماعيل بن الفضل: ثقةٌ، هاشميٌّ مدنيٌّ، روى عن الصادِقَينِ (عليهما السلام)، وقيل أنَّه لم يُدرك الإمام الكاظم (عليه السلام)، ونذكر هذا الكلام لأنَّ السؤال نفسَهُ يأتي من الزنديق، وبالتالي فالنظر يكون في الفرق في ردِّ الإمام عليهما لاختلاف حالهما.
قوله (عليه السلام): "والله خالق الألوان والكيفية"، يعني أنَّه مُستغنِ عنها. وسيأتي أنَّه تعالى لا يُكيَّف بكيفٍ ولا يُؤيَّن بأين، أيْ هو سالمٌ من المقولات التي نتعرَّض لها في المنطق والفلسفة.
مثلًا: الجلوس على الكرسيِّ من مقولة الوضع، وهذا مُظهِرٌ لحقيقةٍ مقصودةٍ، فلو تحقَّقت هذه الحقيقة دون الجلوس على الكرسي لاستغنيتَ عن هذا الوضع من الجلوس على الكرسي، وبالتالي هذه الحقائق تُظهِرها هذه العوارض، وهذه العوارض سمَّيناها بتسمياتٍ معيَّنةٍ معلومة.
{124} الرواية السابعة: وفي عيون الأخبار، وفي التوحيد، والأمالي، عن ابن تاتانة، عن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عُمَيرٍ، عن إبراهيم الكَرْخي، قال: قُلتُ للرضا (عليه السلام): إنَّ رجلًا رأى ربَّه في المنام، فقال: إنَّ ذلك رجلٌ لا دِينَ له، إنَّ الله تبارك وتعالى لا يُرى في اليَقَظَة، ولا في المنام، ولا في الدنيا، ولا في الآخرة.
تقدَّم الكلام أنَّ الله تعالى لا يُرى، وما تراه في المنام مُرتبِطٌ بما تراه في اليقظة، فلستَ ترى أشياءً جديدةً هناك على أيِّ حال.
قال الإمام (عليه السلام) أنَّ هذا الرجل لا دين له، وذلك لأنَّه يعبد ربًّا يُرى، إذًا هو لا يعبد الله تعالى.