بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فطر العباد والخلائق على توحيده، وألهمهم كمال معرفته وتمجيده، والصلاة على من جعله الله محلا للنبوة والرسالة، وكلفه بوعده ووعيده، وعلى المرشد بعده والحجة على المؤمنين في جميع ما جاء به الناطق بالحق من الأحكام، والقائم بأمر المسلمين في جميع احوالهم، والناطق عن القرآن بجميع ما فيه من علم مما كان أو يكون، وعلى أبنائه معدن الإمامة وقوام شرعه وكمال تشييده.
وبعد ...
قال الله الحكيم في محكم كتابه المجيد وخطابه الحميد (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
وروي في الكافي الشريف عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ عَنْ زُرَارَةَ وَالْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ وَبُكَيْرِ بْنِ أَعْيَنَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَبُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَأَبِي الْجَارُودِ جَمِيعاً عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام) قَالَ: "أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ رَسُولَهُ بِوَلَايَةِ عَلِيٍّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ (إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ) وَفَرَضَ وَلَايَةَ أُولِي الْأَمْرِ فَلَمْ يَدْرُوا مَا هِيَ فَأَمَرَ اللَّهُ مُحَمَّداً (صلَّى الله عليه وآله) أَنْ يُفَسِّرَ لَهُمُ الْوَلَايَةَ كَمَا فَسَّرَ لَهُمُ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصَّوْمَ وَالْحَجَّ، فَلَمَّا أَتَاهُ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ ضَاقَ بِذَلِكَ صَدْرُ رَسُولِ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) وَتَخَوَّفَ أَنْ يَرْتَدُّوا عَنْ دِينِهِمْ وَأَنْ يُكَذِّبُوهُ فَضَاقَ صَدْرُهُ وَرَاجَعَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ (يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَاللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّٰاسِ) فَصَدَعَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَقَامَ بِوَلَايَةِ عَلِيٍّ (عليه السَّلام) يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ فَنَادَى الصَّلَاةَ جَامِعَةً وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. قَالَ عُمَرُ بْنُ أُذَيْنَةَ: قَالُوا جَمِيعاً غَيْرَ أَبِي الْجَارُودِ. وَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السَّلام): وَكَانَتِ الْفَرِيضَةُ تَنْزِلُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ الْأُخْرَى وَكَانَتِ الْوَلَايَةُ آخِرَ الْفَرَائِضِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي). قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السَّلام): يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا أُنْزِلُ عَلَيْكُمْ بَعْدَ هَذِهِ فَرِيضَةً، قَدْ أَكْمَلْتُ لَكُمُ الْفَرَائِضَ".
عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ صَالِحِ بْنِ السِّنْدِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام) قَالَ: "كُنْتُ عِنْدَهُ جَالِساً فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ حَدِّثْنِي عَنْ وَلَايَةِ عَلِيٍّ؛ أَمِنَ اللَّهِ أَوْ مِنْ رَسُولِهِ؟ فَغَضِبَ ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ؛ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) أَخْوَفَ لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ اللَّهُ، بَلِ افْتَرَضَهُ كَمَا افْتَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصَّوْمَ وَالْحَجَّ".
والأخبار الكثيرة الجمة المتواترة في اللفظ والمعنى، فهو المعصوم من كل رذيلة، وهو شريك الرسول في كل فضيلة، يشهد به الموالي والمعادي، وهو الذي نص على استخلافه الكتاب والنبي (صلَّى الله عليه وآله) عن الله تعالى في يوم الغدير.
وهو الذي قال فيه باتفاق الفريقين في الرواية: "كان مني بمنزلة هارون من موسى" في كلما ثبت له منه، وبهذا ثبتت له المنزلة العامة؛ والعامة احترازاً من الخاصة بعضها، بالأصالة لإخراج النواب والولاة من قبله، لا كما تقولته العامة: من الاستخلاف على المدينة أو على أهله مدة غيبته، ولو كان الأمر كذلك لبطل الاستثناء الواقع بعد قوله (إلا أنه لا نبي بعدي)؛ لأن المنزلة العامة المصدر بها الكلام الدال على ثبوت النبوة له (عليه السلام) كما كان لهارون (عليه السلام) فنفاها بقوله: "إلا أنه لا نبي بعدي".
وقد نص عليه في مقام الاستخلاف بالاسم والأوصاف، حينما قال (صلَّى الله عليه وآله): "خليفتي فيكم علي بن أبي طالب". وقد غلبت الكنية عليه كما نطق به الخبر المروي في كتاب معاني الأخبار عن الحسن البصري قال: "صعد أمير المؤمنين (عليه السلام) منبر البصرة فقال: "أيها الناس، أنسبوني، فمن عرفني فلينسبني وإلا فأنا أنسب نفسي؛ أنا زيد ابن عبد مناف وبن عامر بن عمرو بن المغيرة بن زيد بن كلاب. فقام إليه ابن الكواء فقال: يا هذا، ما نعرف لك نسباً غير أنك علي ابن أبي طالب ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. فقال: يا لكع (أي الأحمق) إن أبي سماني زيداً باسم جده قصي واسم أبي عبد مناف فغلبت الكنية على الاسم...." إلى آخر الحديث.
ويظهر لك من هذا الحديث أن الاسم هو زيد، ولكن غلبت الاسمية على اللقبية وصار لقبه المختص به (أمير المؤمنين) فهذا الاسم لا يصلح لغيره وإن شاركوه في تلك الإمارة فلا يسمى به شخص بعده فرضي به إلا كان كافراً مبتلياً بداء أبي جهل كما تضمنته جملة من الأخبار.
حتى أن العامة قد رووا من طرقهم ذلك عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) كما ذكره ابن القرطان في أماليه على ما نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، ومع ذلك فقد أنكر في رواياتهم وجود ذلك اللقب لأمير المؤمنين (عليه السلام) إنما الموجود يعسوب المؤمنين.
فلنعد للكلام في وجه دلالة الحديث حين استخلف المرتضى (عليه السلام) يوم الغدير على رؤوس الملأ فقال البشير النذير في ذلك المقام الرفيع الخطير على ما رواه الفريقان من طرقٍ متعدَّدةٍ بلغت حدَّ التواتُر، واعترف به الخصم، "ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله). فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله".
هذا الخطاب الشريف داخل في عموم خطاب الله تعالَى، وقوله: في حق رسوله (صلَّى الله عليه وآله): (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). وقوله: (لْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). وقوله فيه: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ). وقوله في شأنه: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ).
ومن النصوص الكثيرة عند الفريقين التي تدل على فضل علي (عليه السلام) ما رواه الفريقان أنَّهُ قال: "أقضاكم علي" (عليه السَّلام)، والقضاء يستلزم العلم بكل الأحكام، والمفضل عليه جميع آحاد الأمة، وقال: "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث ما دار".
وأمثاله كثير لا يحصى كحديث المنزلة، وحديث الطائر، [وحديث أنت خليفتي على أمتي وقاضي ديني بكسر الدال] فإذا ثبت أنَّهُ معصوم (عليه السلام) مسدد من الله تعالَى يدور مع الحق، وحيث ما دار ثبت أنَّهُ يهدي إلى الحق، ولم يدُلّ دليل أن غيره من الصحابة بهذه المثابة، ولم يدع أحد من الأمَّة أنَّ العصمة ثابتة لغيره من الصَّحابة كما ادعيت له، فمن يهدي إلى الحقّ أحق أنْ يتبع ويتَّخذ إماماً يُقتدى به؛ لأنَّهُ (عليه السلام) لا يفارق الحق ولا يفارقه الحق بل يدور معه حيث ما دار، وهذا مرضي مروي من الفريقين لا ينكره أحد، فهو المنصوص عليه بالخلافة بالخصوص من الله، ورسوله كما نقلناه من الآيات والروايات.
وقول العامة: إن الخلافة ثبتت بغير النص من الإجماع والبيعة. فهو خلاف ما نطق به القرآن حيث يقول تعالَى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ). وإن إجماع من يجوز عليه الخطأ ليس بحجة؛ ولأنَّ الإجماع لا بد له من مستند يكشف عن كونه حجة، والقياس فيه عند من ذهب إلى حجيته على الإمامة في صلاة الجماعة فمفاده الظن مع عدم صحة هذا القياس لوجود الفارق.
أما الأول: فلأن مسألة الإمامة ممَّا يطلب فيها اليقين، والتَّصديق الجازم المُطابق للواقع، وأنَّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليَّةً، وهذا القياس الفقهي غاية مفاده الظن الذي لا جزم فيه فلا يصح أنْ يكون دليلاً في هذا المقام.
إنّ الإمامة أصلٌ من اُصول الدين لا يتمّ الإيمان إلا بالاعتقاد بها ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل والمربّين مهما عظموا وكبروا، بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة.
وعلى الأقلّ أنّ الاعتقاد بفراغ ذمّة المكلّف من التكاليف الشرعية المفروضة عليه يتوقّف على الاعتقاد بها إجاباً أو سلباً، فإذا لم تكن أصلاً من الاُصول لا يجوز فيها التقليد؛ لكونها أصلاً. فإنّه يجب الاعتقاد بها من هذه الجهة. أي: من جهة أنّ فراغ ذمة المكلّف من التكاليف المفروضة عليه قطعاً من الله تعالى واجب عقلاً، وليست كلّها معلومة من طريقة قطعية، فلابدّ من الرجوع فيها إلى من نقطع بفراغ الذمة باتّباعه إمّا الإمام على طريقة الإمامية أو غيره على طريقة غيرهم.
والثاني: إنَّهُ لا يصحُّ عند من له أدنى ملكة، وعقل أنْ يحمل أمر الرَّئاسة العُظمى الَّتي هي خلافة النُّبوَّة، والخليفة فيها يساوق النَّبي (صلَّى الله عليه وآله) في صفات الكمال على إمام الجماعة الذي لم يشترط فيه العدالة الظاهرة عند أهل السنة والجماعة، ومن النصوص الواردة الدالة بأصرح دلالة قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): "سلموا عليه بإمرة المؤمنين"، وقوله (صلَّى الله عليه وآله): "أنت الخليفة بعدي". ولاستخلافه له على المدينة فيعم أهل الإجماع، ويكون خليفة في جميع الأمور بالضرورة إذ لا قائل بالفصل. وقوله (صلَّى الله عليه وآله): "أنت أخي ووصيّ، وقاضي دِيني (بكسر الدال)"؛ ولأنَّهُ أفضل الصحابة وإمامة المفضول قبيحة عقلاً باطلة شرعاً.
ومما يلزم أنْ يكون علي (عليه السلام) إمام الأمَّة لظهور المعجزة على يده كقلع باب خيبر، ومخاطبة الثعبان، ورفع الصخرة العظيمة عن فم القليب، ومحاربة الجن، ورد الشمس مرتين. وادَّعى الإمامة لنفسه فيكون صادقاً، كما وأن الإمامة هي عهد الله الذي لا يناله ظالم لقوله تعالى: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
روى الكشي بسند صحيح عن سعد الجلاب عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) قال: "لو أن البترية صف واحد ما بين المشرق والمغرب ما أعز الله بهم ديناً". وقال جدي علامة البحرين الشيخ حسين العصفور (رضوان الله تعالى عليه) والبترية هم أصحاب كثير النوا والحسن بن صالح بن حي، وسالم بن أبي حفصة والحكم بن عيينة، وسلمة بن كهيل، وأبي المقدام صالح الحداد وهم الذين دعوا إلى ولاية علي (عليه السلام) ثم خلطوها بولاية (غيره). بتصرف مني، انتهى كلامه أعلى الله في الفردوس مقامه.
وروي في صحيح اسماعيل الجعفي كما في التهذيب والفقيه قال قلت: لأبي جعفر (عليه السَّلام) رجل يحب أمير المؤمنين (عليه السَّلام) ولا يتبرأ من عدوه وهو يقول هو أحب إلىَّ ممن خالفه! فقال: هذا مخلط فهو عدو فلا تصل خلفه ولا كرامة إلا أن تتقيه".
من الواضح من الروايات التي ذكرناها في هذا المقام، أن للولاية قواما وأن قوام الولاية يكون بثلاثة أركان كما ورد عن المعصومين (عليهم السَّلام)، ونقله العلماء (رضوان الله تعالى عليه).
فقد سمعتُ من الشيخ الوحيد الخراساني (أطال الله في عمره) في المسجد الأعظم، أنه ذكر بأن الروايات المستفيضة في الولاية كثيرة، وأنها دلت على التولي لعلي وأبنائه المعصومين والتبري من أعدائهم، وهذان، كما ترى، ركنان أساسيان. وأضاف عليهما ركنا ثالثا كما تضمنتها بعض الروايات، وهو العمل بأمرهم (صلوات الله وسلامه عليهم). فلا يعتقد الموالي أنه فقط بمجرد توليه لهم والتبري من أعداهم يكون قد برأ نفسه أمام الله ورسوله ووصيه، لا، بل يجب عليه أن يعمل بأمرهم (عليهم السلام) ويتقيد بما ورد عنهم من أحكام الله وأن يجتهد في الاتيان بالمأمور به على أكمل وجه، ويرضي بذلك الله ورسوله وأهل بيته (عليهم السلام).
ونسأل الله تعالى أن نكون من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، ونسأله حسن الخاتمة.
بقلم: الشيخ محمد مهدي ابن الشيخ عادل العصفور